لا شك أن الجريمة التي تفشت في المجتمع الجزائري بشكل غير مسبوق، قد فاقت تلك التي تشيع في المجتمعات الأخرى، يشهد لذلك و يؤكده ما ينشر في صحفنا الوطنية يوميا من أخبار و تقارير عن الجرائم الفظيعة و البشعة في حق الناس من النساء و الرجال و الأطفال و الشيوخ، كما أننا إذا نظرنا إليها من حيث انتشارها، و تنوعها، و وتيرة حدوثها، و تعدد جنس مقترفيها، نجدها تشير بوضوح لا لبس فيه إلى أن:
1- المجتمع الجزائري بات يعاني من حالة تفكك و تفسخ بالغة الخطورة، تتهدَّدُه بالانهيار التام، إذا لم يتم التدخل الفوري لمحاصرتها و وضع حد لها.
2- أن المنظومة القانونية الحالية للدولة فقدت قدرتها على الردع، و لم تعد صالحة لوقف هذا السيل الجارف من الجرائم الذي يجتاح الجزائر، و أنه بات من الضروري إعادة تحيينها حتى تتلاءم عقوباتها الردعية، مع الجرائم المستجدة وسعة انتشارها، و ما تشكله من خطر على المجتمع.
3- أن منظومتنا الأمنية على الرغم من استفادة أفرادها من التكوين الحديث و مضاعفة عددها و عدتها و تحسين تجهيزها، لاتزال في حاجة إلى العناية بها و الاهتمام بتطويرها، حتى تتمكن من التصدي فعليا للجريمة الفاشية في المجتمع، التي تعددت أنواعها، و ارتفعت وتيرتها، و تباينت دوافعها، و اختلفت أساليبها.
4- أن منظومتنا التربوية و التعليمية الحالية قد أخفقت إخفاقا تاما في تثبيت القيم الأخلاقية و المثل العليا، التي تسهم في جعل الفرد منضبطا سلوكيا، و مراعيا لأصول التعايش مع الآخرين، و حريصا على السلم و الأمن الاجتماعي.
5- أن منظومتنا الثقافية لم تؤد دورها في تهذيب السلوك، و الارتقاء بالحس الحضاري، بما يجعل الفرد مقدرا لقدسية الروح الإنسانية، و لا هي أسهمت عبر المسرح و السينما و المرناة و المذياع، في تقديم النماذج السلوكية المثلى التي تنضج العقول، و تسمو بالروح، و تنفر من اللجوء إلى العنف، و تحبذ التعامل بالحسنى بين الناس.
6- أن منظومتنا الدينية قد أفلست هي الأخرى خاصة في مجال الوعظ و الإرشاد، حيث لم يعد وعاظنا قادرين على ترقيق القلوب، و تلطيف المشاعر، بما يجعل الناس يتحرجون من ارتكاب الموبقات، و اقتراف الكبائر، و الإساءة إلى الغير، الضعفاء منهم على وجه الخصوص، كالطفل القاصر، و الشيخ الكبير، و المرأة الضعيفة.
7- أن الوضع السياسي غير المستقر هو الذي يقف وراء هذا التردي و الانحراف، حيث شل الحياة الاقتصادية، فتعذرت الاستثمارات، و انعدمت المشاريع، فتفاقمت ظاهرة البطالة، فاندفع الناس إلى تلمس الرزق بأساليب و طرق غير مشروعة، لانعدام العمل و تعذره بالطرق المشروعة أصلا.
و هذا معناه أن القيادة السياسية الحالية مدعوة بقوة إلى تدارك هذا الوضع المشين، الذي يهدد بتقويض أسس الحياة الاجتماعية في الجزائر، و لا سبيل إلى ذلك إلاّ بوضع حد للصراع السياسي غير المبرر، و بناء مشروع اجتماعي حقيقي، يستجيب لطموحات المجتمع كله، و يجعل على رأس أولوياته استرجاع تلك القيم و المثل السامية، التي كانت تنفخ في الشعب روح التآخي و التراحم، و التي كانت سببا مباشرا في التصدي للاحتلال الفرنسي البغيض.
لا بد لهذا المشروع الاجتماعي أن يركز على بناء الانسان و استعادة الجزائري لإنسانيته التي جرد منها، و أبعد عنها، لأنه برمج على أن المادة هي كل شيء، و ما عداها لا شيء، يجب أن يستعيد الجزائري وعيه الصحيح بذاته و بانتمائه الديني و الحضاري وأنه باعتباره ذلك، لا يحق له أن يعق والديه، أو يهينهما بله أن يقتلهما، ول ا أن يقسو على الصغير أم يهين المرأة و يذلها.
ول ا بد لهذا المشروع الاجتماعي أن يتصدى بكل حزم للعشائرية و الجهوية، و ذلك بالسهر على محاربة أسبابها في المناهج التعليمية، و البرامج الثقافية، و الوسائل الإعلامية، و التصريحات السياسية، يجب أن نرتقي بالفرد الجزائري إلى أن يعتبر نفسه مسؤولا عن الوطن برمته، لاعن جهة أو قبيل.
و لا غنى لهذا المشروع الاجتماعي بأي حال من الأحوال من التركيز على التربية و التعليم و حسن التكفل بها في جميع المستويات حتى يضمن للجزائر تقدما علميا و تطورا تكنولوجيا من شأنه أن يعزز النمو الاقتصادي و يرفع من وتيرة تقدمه و اضطراده، و ذلك من شأنه كذلك أن يُفعّل سوق العمل و يضع حدا للنزيف الاجتماعي الذي تسببت فيه ظاهرة "الحرقة" و يفتح المجال واسعا للعمل المشروع، و بذلك يستغني الشباب عن ترويج المخدرات و الخمور و تعاطيها، أو الاعتداء على الآخرين لسلب أموالهم و ممتلكاتهم بقوة السلاح.
ذلك هو السبيل الأمثل و الأفضل، لوضع حد لهذه الجائحة التي أنهكت العباد و أفسدت الحياة في البلاد...