«عندما نلمس الجانب الطيّب في نفوس النّاس، نجد أن هناك خيرا كثيرا، قد لا تراه العيون لأول وهلة» (سيّد قطب)..
الخير مبثوث في كل زوايا الحياة، في قلوب النّاس و في أعماق البحار، في آفاق الفضاء الرحب، و في مخابئ الرّزق و معابر الأنهار، في اخضرار الأرض بعد انهمار المطر، و في اهتزاز التربة بالحياة بعد الارتواء، انّها الحياة بكل ما فيها من صرخات الميلاد و حشرجات النهاية، و لكنّها تظلّ أبدا هي الحياة، بكل ما فيها من خير قابل للزيادة لو أردنا، و من شرّ قابل للاضمحلال لو أردنا.
هذا الخير القابل للنموّ و الازدياد مكمنه في سويداء قلوب البشر، و ظاهره في سلوكهم، و ترجمته في عقائدهم، فالخير موجود حقّا في نفوس البشر، و لكنّه يحتاج لتلك المبادرة الحانية، و المشاعر الدافئة، لينطلق معبّرا عن ذاته و وجوده، و أثره و تأثيره في النّاس و الحياة و الكون و التطور و الابداع الإنسانيّ الرّحيم، المتفاعل مع مصلحة الإنسان و آدميته و كرامته.
عندما تتآلف القلوب الطيّبة، و تتنافس الأيدي المخلصة في صنع الحياة الكريمة، و تنحاز العقول المبدعة الى مبدأ حقّ الحياة الطيبة للجميع، عندها تبدأ مسيرة العمل المنطلق من الايمان بخالق الحياة و بارئها العظيم، مقدّرة له سبحانه هذا العطاء الكريم، من حرّية التفكير و رحابة الميدان، و روعة الوجود، و عظمة الدقّة و انتفاء التفاوت في خلق الرحمن جل و علا، فتظهر بذرة الخير في تلك النفوس العطشى للعطاء، الظمأى للعلم و المعرفة، و تورق شجرة الخير في القلوب الرّحيمة، و هي تمدّ فروعها الوارفة الظلال، لتبسط خيرها و فيضها و نداها على البائسين، و تمدّ يد العون في كل مجالات الحياة، بدءا من السعي الدؤوب لاخراج العقول من وحول الشرك و الضلال و عتمة الكفر و الفسوق، مرورا بالسعي الى تأصيل فكرة العمل و الجد ّو الكسب الحلال، و فرضيّة العلم و العمل به، و التوقّف المستمرّ المتفقّد لحال البشرية و ضعفها، و الأخذ بيدها الى شاطئ الامن و الامان و الهداية.
الخير بذرة إلهية اختصّ بها سبحانه الصالحين المصلحين، الراحمين المشفقين، الذين حملوا على عاتقهم إيقاظ هذه البذرة الطيبة في النّفوس، و خاصّة تلك التي ظنّ حتّى أصحابها أنّها لم توجد او أنها لم تعد موجودة في أعماقهم، و هم يهيلون عليها أكوام السراب الخادع، و الانحراف القسري او الاختياري، و الاستهتار بالقيم الإنسانية و التشريعات الربانية، و السلوكيات الحضارية، فاذا هم يكتشفون ذواتهم الخيّرة على أيدي هؤلاء الدعاة المخلصين، الذين لم يسمحوا لذنوب الآخرين و عدوانيتهم، و استخفافهم بكل ماهو خيّر و جميل، أن تقف حائلا بينهم و بين تقويمهم و إصلاحهم، فاستوعبوهم برحابة صدر، و أناة و صبر، متوّجة كلّها بتاج المحبّة الأخوية الصادقة، و منطلقة من دعوة الله الواسعة الرحبة، الودودة الملهمة، فإذا الرّكام الثقيل يحول غبارا متطايرا الى عنان الفضاء، و إذا الأقفال الوهمية تتكسّر جذاذا، و اذا الاستهتار و العداء و الانحراف سيرة قديمة، لا تفتح الا في لحظات الاختلاء بالله سبحانه طلبا للغفران و الرضى، كلّ ذلك التغيير الإيجابي في النفوس يجري بتوفيق الله و رعايته لتلك الخطوات التي يمشيها اولئك الطيبون، الذين لم يتعالوا و لم يترفعوا عن التعامل مع المذنبين، الذين حكم عليهم البعض بأنهم اشرار، و ظلت هذه الصفة لصيقة بهم حتى تلقّفتهم تلك الأكف المؤمنة بخيريتهم، فاذا هم يبرزون مكامن الخير فيهم و سيل العطاء الغزير في أكفهم، يمنحون الثقة لغيرهم، و يحصدونها برّا و ثقة و حبّا و عطاءً، ذلك لأن من الفهم الصحيح لرسالة الدعاة الى الله، ألا يبخلوا بجهدهم و حنانهم و توجيههم و تذكيرهم على فئة من النّاس، حرمت الفرصة في ان تكون بناءة و صالحة، فظنّ البعض أنّهم خير منهم، فالخير مبثوث في كل زوايا الحياة، و علينا أن نبحث عنه بإخلاص و مودة و احتساب و سعة صدر بلا حدود «و لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النّعم».