إن ما جرى و يجري في مصر اليوم من أحداث يدل بطريقة ما على أن ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي الذي كان يعول عليه لتطهير الساحة العربية من الأنظمة الجبرية الديكتاتورية، لينفسح المجال لقيام أنظمة ديموقراطية حقيقية لم يكن كذلك، و هذا لأن الحراك السياسي الذي عصفت رياحه بالبلاد العربية شرقا و مغربا إن كان قد نجح في إسقاط الأنظمة القديمة، فإنه مع الأسف كل الأسف، قد أخفق في إرساء دعائم الحكم الديموقراطي إخفاق تاما، و السبب في ذلك ليس كما قد يتوهَّمه البعض، من أن الشعوب العربية لم تستوعب الفكر الديموقراطي، و لا هي تشربت روح الديموقراطية بعد، يدل على فساد ذلك الزعم أنها لم تتأخر في الجود بدمائها لتحقيق ذلك الهدف و إدراك تلك الغاية، و إنما يشير بكل وضوح إلى وجود قوى داخلية و قوى خارجية أخرى تتوجس خيفة من الديموقراطية، و ترى في قيام الحكم الديموقراطي خطرا عليها يتهدد مصالحها إن عاجلا أو آجلا، و لذلك هي تعمل على منع قيامه بكل وسيلة ممكنة، و قد دفعها إلى ذلك بروز الإسلام السياسي كلاعب أساسي في هذا الحراك السياسي، سواء أكان ذلك في الجزائر أو تونس أو ليبيا أو مصر، و ها نحن نرى نفس السيناريو الذي نُفذ في الجزائر حيث استدرج الإسلام السياسي إلى ركوب موجة العنف، يجري تنفيذه اليوم بكل تفاصيله في مصر، فالاشتباكات التي وقعت في محيط مسجد سيدي جابر في محافظة الإسكندرية، التي ذهب ضحيتها اثنا عشر قتيلا وما يزيد عن ثلاث مائة جريح، والمصلون الذين كانوا بأحد مساجد العريش فأطلق عليهم الرصاص ليسقط منهم عشرون مصابا، دون الحديث عما وقع في المحافظات الأخرى مما جعل حصيلة القتلى ترتفع إلى ثلاثين قتيلا، والجرحى إلى أربع مائة و ستين جريحا، و المطاردات الأمنية لتوقيف قيادات الإخوان، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الهدف الأساسي للقوى المعارضة للحكم الديموقراطي هو جر الإسلام السياسي إلى دائرة العنف المسلح، لتمكين الجيش في النهاية من التدخل، لترجيح كفتها في الاستيلاء على الحكم الذي أعجزها الوصول إليه عن طريق الصناديق الانتخابية، وهي تفعل ذلك بإيعاز و دعم من القوى الخارجية التي أفزعها ما يتمتع به الإسلام السياسي من نفوذ و ثقل في الساحة العربية، خاصة أنه قد اتضح للجميع أن تدخله هو الذي حسم المعركة ورجح كفة العارضة، و ذلك من حيث أن وصول الإسلام السياسي إلى الحكم في البلاد العربية عامة و مصر خاصة، لا يهدد أمن إسرائيل ربيبة الغرب وحدها فحسب، بل سيُلحق الضرر بمصالح اقتصادية كبرى للغرب، فضلا عن كونه يفتح المجال واسعا إلى عودة الإسلام للتأثير في الإنسانية برمتها، أعني عودته إلى الفعل الحضاري كما كان عليه من قبل، وذلك مالا يريده الغرب بأي حال من الأحوال، و هذا حتى لا يدخل الإسلام الساحة الدولية كطرف خطير منافس له، فيقلص من نفوذه عليها، ويحد من تحكمه فيها، و لذلك رأينا هذا الغرب يحول دون استقرار الأوضاع في الدول التي هبت فيها رياح التغيير، كما هو عليه الحال في تونس وليبيا واليمن، و يعارض بشدة تزويد المعارضة السورية بالسلاح خوفا من وصوله إلى أيدي جبهة النصرة التي صرحت بنيتها في إقامة دولة إسلامية، و يتدخل بقوة لدعم دولة جنوب السودان حتى تكون شوكة في حلق جمهورية السودان العربية لكونها ذات توجه إسلامي صريح، و يعرقل القروض الاقتصادية لمصر تأزيما للوضع، و من هذا تكتسب الأحداث التي تجري في مصر أهميتها لأنها لا تمثل مجرد صراع سياسي بين طرف و آخر بقدر ما تمثل صداما حضاريا بامتياز بين الإسلام ومن يمثله، و الغرب و من يمثله في مصر، و من ثمة فإن هزيمة الإخوان في مصر- لا قدر الله – سينجر عنها تضرر الإسلام السياسي في كل البلاد العربية و الإسلامية، كما سيكون انتحارا صريحا للديموقراطية، و آخر مسمار يدق في نعشها في هذه الربوع..