حين كان رسول الله يبني الأحجار الأولى للمسجد كان على الضفة الأخرى يضع القواعد الأولى للمجتمع الجديد في المدينة المنورة، و ذلك من خلال المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار.
لكن و في الأيام الأولى بدأ التفكير بالمؤاخاة يمشي في طرق خطرة، فالأنصار عرضوا على المهاجرين أن يتبرعوا لهم بنصف أراضيهم و أصولهم الزراعية التي يملكونها، و جاؤوا للرسول و قالوا: “اقسم بيننا و بين إخواننا النخيل”. قال النبي: “لا”.
رفض صلى الله عليه و سلم هذا المقترح، رغم أنه يبدو في قمة الخيرية و الروح الطيبة، فهم الأنصار سبب الرفض، فقدموا المقترح الثاني الذي يضمن مصالح الطرفين، فقالوا للمهاجرين: “تكفونا المدونة و نُشرِككم في الثمر”، بأن يدخلوا مع المهاجرين في شراكات، المهاجر يعمل في أرض الأنصاري ثم يتقاسمان الربح مقابل عمله: “فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، و يكفونهم العمل و المئونة” (البخاري ومسلم).
رفض الرسول أن ينظر الناس للمؤاخاة أنها تبرعات و قيم مجردة عن المصالح الدنيوية المتبادلة، إذ أراد أن يبني أساس الاقتصاد و المجتمع الجديد على مؤاخاة عميقة تتركب فيها القيم و المصالح، و تأتي التبرعات لتدعم هذا الأساس الاجتماعي و تسد ثغراته، و هنا تكون الأهمية الفائقة للصدقات و التبرعات و القرض الحسن و غير ذلك.
أساس المؤاخاة في المجتمع المديني مؤاخاة قيم و مصالح، و دعائمها مؤاخاة بذل و تبرع بلا مقابل، و يبدو أن من يعكس هذه المعادلة سيجر الويلات على مجتمعه، و ما يشيع اليوم من “مرض تلقي المساعدات” من هذا الباب.
وضع الفقهاء قاعدة كبيرة في هذه الأمور، و هي أن “الجمع بين المصلحتين أولى من إهدار أحدهما”، فكلما قمنا بتركيب مصالح أكثر في التنظيمات الاجتماعية و الاقتصادية لبلادنا، أولى من أن يكون هناك يد معطية و يد آخذة بلا مقابل.
استطاع مجتمع المدينة أن يبني طريقة تفكير تؤمن بمبدأ الوفرة و تتقن تركيب مسننات المصالح مع بعضها، و هذا يحتاج إلى:
1-ثقافة اجتماعية و أعراف تدفع الناس نحو تركيب المصالح، و تجعلهم يفكرون بها في الحياة اليومية.
2- مهارة عملية و تنظيمات تساعدهم على فعل ذلك بسهولة.
أشعر أننا في بعض الأحيان نقيم شرخًا بين القيم والمصالح في عقول أطفالنا و من حولنا من الناس، و تصلهم منَّا رسالة أن عالم القيم الأخلاقي و عالم المصالح لا يلتقيان، و أن الشكل الأخلاقي أن تعطي تبرعًا بلا مقابل و إلَّا كنت انتهازيًا، و حين تريد تحقيق مصالحك فابحث عنها وحدك، و ليس من المهم أن تبحث عن تركيبة مصالح بينك و بين أصدقائك و إخوتك.
هذه العقلية لها آثار ممتدة، و لعل أحد المعضلات التي تعيشها بلادنا هي عدم قدرة أبنائها على تركيب مصالحهم السياسية و الاقتصادية بشكل معقول.