يؤسس التكافل الاجتماعي في الإسلام بناءً فكريًا متكاملاً، شاملاً لمنظومة أخلاقية تلبي حاجات الإنسان، وتربط الفرد بالمجتمع بوشائج متينة، تؤلف بينهم بصلات الولاية تتحقق بالتعاون، و الإشراف، و المساندة، و التكافل المشترك، وفقًا لما وصف الله به أحوال المؤمنين و المؤمنات فقال: {وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَ يُطِيعُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة: 71)؛ لإخراج جيل قوي، متماسك بين أعضائه، كما وصفهم الرسول صلى الله عليه و سلم فقال: "مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر".
ولإخراج جيل يتحمل المسؤولية المشتركة في الإصلاح و إحداث التغيير، و تهذيب النفس و تزكيتها، و حفظها، و رعايتها، و وقايتها، و إرشادها ..
و جيل يدرك حقيقة التكافل في توحيده بين المجتمعات الإنسانية -على اختلاف أجناسها، و لغاتها، و ألوانها، و ثقافاتها- بمبادئ تحفظ لكل مجتمع كرامته الإنسانية، و تحمي حقوقه، و حرياته الخاصة، و تحافظ على كيانه المستقل، و قيمه و مبادئه، و أسس دينه، و هويته ..
و تربط بينهم برباط المودة و الرحمة، و تبادل المنافع المادية، و المعنوية، و العلمية، و الاقتصادية، و السياسية، كما أقر قواعده الحق سبحانه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَ أُنْثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 113 ).
و هذا التكافل بشمولية مقاصده هو ما نحتاجه اليوم لحل مشاكلنا، و لمواجهة تحدياتنا المعاصرة، و مكافحة ما يهددنا من المخاطر، و من أشدها أن يفقد جيل الحاضر ارتباطه بالعلاقة المتبادلة بين الأغنياء و الفقراء، و بين من أغرقوا في الملذات و الشهوات و من أغرقوا في الحرمان من متاعها، و بين من أسرفوا في التنعم بالترف و الرخاء و من أسرفوا في الزهد و الإملاق، و بين من أتيحت لهم الحياة المرفهة الراضية و من أتيحت لهم الحياة العسيرة البائسة، و بين من تقلبوا في النعمة السابغة و العيش الهادئ، و من تقلبوا في المحنة وشدة البلاء، و بين من جمعت بين أيديهم الآمال العراض و الأحلام السابحات، و من جمعت بين ايديهم الآلام الملمات و الجراح النازفات..
و أن لا يحس هذا الجيل بآثار تصرفاته على من سيأتي بعده من أجيال، و لا يعبأ بما يهدد مستقبله، و لهذا نبه الإسلام لمراعاة هذا النوع من التكافل، و وجه الحق سبحانه خطابه لتحقيق هذا التضامن في كثير من النصوص فقال: {وَ لَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوَاتٌ وَ مَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا} (الحج: 40)، و قال تعالى: {وَ الَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَ لاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا} (الحشر: 10).
فالواجب يحتم علينا أن نجدد العلاقة فيما بيننا، و نراعي مصالحنا و مصالح أجيال المستقبل، و نصل ما انقطع بيننا من أسباب المودة و المحبة، و نجمع ما تفرق من شملنا، فقد فرطنا في حقوقنا و قصرنا في واجباتنا، و قطعنا ما بيننا من صلات الإخاء، و ما بيننا من صلات إنسانية، حتى خلا كل منا إلى نفسه، و تخلى عن مجالسة أهله، و أقربائه، و جيرانه، و إخوانه، و اكتفى كل منا بخدمة مصالحه و جلب منافعه، فلا يلتفت إلى شؤون من حوله، حتى تعبث بنا الشيخوخة يومًا بعد يوم، فتفنى أحاسيسنا، و لا يتبقى منها إلا أشياء يفترق لأجلها الناس بعد اجتماع، حين يستأثر بهم الرياء، و التجمل، و التكلف بحظ وافر، حتى إذا جد الجد و افتقدتهم لم تجد عندهم إلا الحزن، و اليأس، و خيبة الأمل، و إذا تلمست خطاهم لم تجد إلا سراباً يحسبه الظمآن ماءً..
و الواجب يحتم علينا أن نحيي عادات حسانا، حرمتنا من متعة المكاتبة، و التزاور، و اللقاء المباشر الذي يضمنا بضمات الشوق، حتى صرنا لا نلتقي إلا لقاء الغرباء، و لا نتواصل إلا وصلاً يشوبه الجفاء، فسقطنا في هوة سحيقة، لا سبيل إلى عبورها إلا إذا تجاوزنا أسباب القطيعة، و تعودنا أن نتجنب فيما بيننا من صلات ما من شأنه أن يخزينا، و أن ننتقل بالإنسان من ترابط يصله بنفسه و ذاته، إلى ترابط محكم يصله أولاً بأسرته بصلات التشارك في تحمل المسؤولية، و في أداء الحق و الواجب، و توزيع مسؤوليات الرعاية داخل البيت و خارجه بين الرجل و المرأة، بما يضمن قيام أسرة متعاونة متآلفة "فالرجل راع في بيته و مسؤول عن رعيته، و المرأة راعية في بيت زوجها و مسؤولة عن رعيتها"، و يصله ثانياً بمن هو خارج محيط بيته و أسرته، بصلات الالتزام الذي تمتزج فيه المصلحة الفردية بالمصلحة العامة، و يتضامن الأفراد فيما بينهم في حمل أثقال الحياة، و النهوض بأعبائها، و يتحركون بروح تضامنية، تحتم عليهم الالتزام بالنظام العام، و حفظ الحرمات، و كفالة الحقوق، و الحريات المشروعة، و تجنب ما يسيء للآخرين أو يعطل مصالحهم..
و قد رسخ الإسلام هذه الصورة التكافلية، و وضع قواعدها الرسول -صلى الله عليه و سلم- في أمثلة يحتذى بها في حفظ النظام العام للمجتمع و أفراده، منها قوله: "مثل القائم على حدود الله و الواقع فيها، كمثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقا و لم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم و ما أرادوا هلكوا، و إن أخذوا على أيديهم نجوا و نجوا جميعا ".
و نحن كذلك علينا أن نتمم هذا البناء التكافلي ليحتذي بنا جيل المستقبل، و أن نخلف لمن سيأتي بعدنا آثارنا، لنشعرهم بأننا خلقنا للتضامن و التعاون على حماية مواردنا، وما نمتلكه من طاقات الحياة، و نضع النبات و السماد الطيب في تربة تمتد جذورها و تتشابك أصولها بفروعها، و نشق لهذه الأمة طريقًا يصل خطى الأجيال في صورة إنسانية مثلى للتكافل الشامل يضم قلوبهم بالود، فتهفو أرواحهم شوقاً للقاء..
المصدر: المركز العالمي للوسطية
مأخوذ عن موقع:
http://www.veecos.net/portal/index.php?option=com_content&view=article&id=9764:2013-06-04-22-59-25&catid=231:family-society&Itemid=316