(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
طباعة
الإثنين, 28 حزيران/يونيو 2021 10:05

و دفع الثمن

كتبه  الأستاذة عليمة نعون
قيم الموضوع
(0 أصوات)

سألني ذات يوم: أمي.. أمي، هل الحنين يُشبه الموت؟

اندهشت لسؤال صبيٍّ في مثل هذا العمر، فكيف له أن يحمل في ذهنه أفكارًا أكبر من سنِّه و قدرة استيعابه، لم أكن أدري أنه يَكبَر بسرعة؛ لأنني كثيرًا ما كنت أراقبه من بعيد، و كيف لي أن أكون إلى جانبه و أنا طول اليوم مُنشغلة في عملي بالمكتب و المنزل؟

مرَّت الأيام و أنا لا أزال بعيدة عنه و هو يَكبر، و لم أجبه عن سؤاله؛ لأنني لا أملك قدرة فلسفية كقدرته.

حدث و أنِ التقيتُه ذات مرة بجانب بيت الجيران مع ابنهم فسألته: بُنيَّ، ألم تعد بعْدُ إلى البيت؟ فرد عليَّ: و كيف لي أن أعود و الحنين يُشبِه الموت في ذلك البيت يا أمي؟

ها هو يعاود نفس العبارة و أنا لم أفهم بعدُ ما يَقصده، ظننتُ للحظة أن هناك من يغذي أفكار هذا الولد و قد يُسمِّمها إن أنا بقيتُ بعيدة لا أراقبه، كنتُ أحس بضعف شديد و أنا أكلمه، فكلما حاولت فهمه يتمادى عشقه للفلسفات أكثر من أن يتكلم معي و بوضوح.

هو الآن في غرفته: طرقت الباب و طلبت إذنًا بالدخول؛ حتى أتمكَّن من توطيد علاقتي بابني الوحيد الذي لا أملك غيره و لا يملك غيري، فوالده هجرَنا بسبب الإدمان، و أنا خائفة من أن يسلك هذا الولد الصغيرُ في عمره الكبيرُ في ذهنه نفسَ الطريق، ما أن سمح لي بالدخول حتى أخذته في حِضني و قلت له: أمك تحبك و تشتاق إليك كثيرًا، و أنت أملها الوحيد في هذه الحياة، من أجلك تفعل أي شيء، و كأني بذلك أقدم له مبرر غيابي عن المنزل، فلم أشأ أن أقولها له بطريقة مباشرة: أنا أعمل لتعيش أنت؛ حتى لا أُحسِّسه بذنب وجوده، مع أن الذنب كان على والده أن يتحمَّله، سكت قليلاً ثم قال لي: أمي، ما هو الحب؟ بدا لي سؤاله محيرًا لكنه عادي في الوقت ذاته، أجبتُه: الحب يا ولدي هو ما أَشعُر به تجاهك، و ما نشعر به نحن تجاه والدينا، و قبلهما الله، الحب هو أن أحس بغيري عندما يَحتاجون لي و أحس بهم عندما يفرحون أو يتألمون، الحب هو مشاعر بين صديقين، أخوين، حبيبين... ثم قاطعني قائلاً: هل أبي يُحبني يا أمي؟ تلعثم لساني و لم أجد ما أقوله له غير كلمة واحدة: نعم يا حبيبي، فقال لي: لماذا تركني إذًا؟ تأخر الوقت يا بني، نمْ و غدًا بحول الله نكمل حديثنا.

انتفض من مكانه كأسد يهمُّ بالهجوم صارخًا: لماذا أنتم - الكبار - تتهرَّبون من كل ما نودُّ معرفته منكم؟ لماذا توهموننا بواقع ليس لنا و لا نعيشه؟ لماذا تُحاولون دائمًا إخفاء الحقيقة مع أنكم تعلِّموننا ألا نُخفيها؛ فالله يُعاقبنا لأجل ذلك؟ ألن يعاقبكم الله لأنكم تفعلون كل هذا بنا؟

ابني يَكبر، هذا ما استنتجته، و عندما يكبر الولد يسأل أكثر من الصغر، أمسكت بيده و قلت له: اجلس يا بني سأجيبك لماذا فعلت كل هذا، إنه نوع من التضحية يا بني، ألا تحب السمك؟ قال: بلى يا أمي، و لكن لماذا هذا السؤال؟ أنا أيضًا - يا بني - أحب السمك، و معظمنا يحبه، و لكن لكي نأكله لا بد على السمك أن يترك البحر، هو بذلك يضحي و نحن أحيانًا علينا أن نكون مثل السمك، فقال: كيف يا أمي، أنموت ليعيش غيرنا؟ قلت له: تقريبًا، لكن الموت مختلف هنا، فالسمك يموت حقًّا، أما نحن فنموت مجازًا، مثلاً أنا أعمل في المكتب طول اليوم، و في المساء مشغولة بأعمال المنزل، و التسوق، و تَصليح ما يفسد في المنزل، أنا امرأة و رجل في الآن ذاته، و كأنني بذلك أموت لأضمن لابني حياة مريحة، قال لي: لكنَّني لا أرتاح إلا بوجودك إلى جانبي، و أنا لا أحتاج إلى شيء آخر إلا أنت، أمي ألا ترين كم أتعذَّب؟ أبي لا أعرف حتى ملامحه و لا أتذكرها، و أنت طول اليوم بعيدة عني، فلماذا لا أموت أنا و هكذا أضحِّي لتعيشين أنت مرتاحة، و ربما يعود إليك أبي؟

يا بني، يا قلب أمِّك، كيف لي أن أعيش من دونك؟ أما والدك، فهو قد أخطأ حقًّا، لكنه الآن نادم و هو يعالج، هو اختار طريقًا سيئًا جرَّبه وعرف كم هو مؤلم هذا الطريق و كم جعله يخسر، لكنه لم يتركك، سيعود إلينا يومًا.

أمي، ألم تدركي ما معنى الحنين يُشبه الموت؟ أنت تتحدثين عن التضحية و تُعرِّفينني بالحب و تشرحين لي غياب أبي، لكنك لم تجيبيني عن سؤالي؛ لأنك تجهلين يا أمي حجم حنيني لمن أحبهم، تجهلين كم أحنُّ إليك و إلى أبي، كم تمنيتُ في مرات عديدة أن أمسك يده و نذهب معًا إلى المسجد أو التسوق، كم تمنَّيت أن أذهب أنا و هو إلى الحديقة، كم تمنيت أن أجده إلى جانبي و هم يقدمون لي جائزة نجاحي، كم و كم و كم... أليس هذا موتًا يا أمي؟

أعلم كم تتألم يا ولدي! و أعلم كم تحتاج إلى والدك ليكون صديقًا لك، و أعلم أنك تشتاق لنا معًا، لكن ما الذي يُمكنني أن أفعله لك؟ إنه قدَري و قدَرُك يا بني.

يومًا ما ستدركين يا أمي أن الموت أهون من الحنين عندما لا تَجدينني إلى جانبك، ستُدركين ذلك... قالها ثم نام، و دخلتُ أنا مرة ثانية في دوامة الحيرة.

مرت أيام و الولد يذهب إلى مدرسته و يعود دون أن يتكلم كثيرًا، تغيَّر مؤخرًا، صار انطوائيًّا، و لم يعد يسأل كالسابق، فقَلِقتُ لهذا الوضع و أجبرته على أن يتكلم معي و يُخبرني ما به، فردَّ عليَّ بنفس الكلام: الحنين يشبه الموت يا أمي، و بدأت أدرك تمامًا ما يَعنيه، أتراني سأفقد ابني؟ لا لا هي مجرد أفكار سوداء، ربما يحتاج للحظات يبقى فيها وحده، هذا فقط ما يمر به في هذه الأيام.

ذات يوم و أنا في عملي جاءتني مكالمة هاتفية، أجبتُ فإذا بها مديرة المدرسة التي يدرس بها ابني تخبرني أنه قد مات فجأة! أحسست لحظتها بسكين قطع قلبي، انهرتُ و كم بكيت و كم صرخت و كم تألمتُ فقط لأنني أدركت أن الشوق يَقتل، و ابني مات شوقًا إليَّ و إلى أبيه، أيعقل أن نكون مجرمين؟ أنا و هو قتلنا ابننا الوحيد، قتلناه شوقًا، هذا ما قصده ابني، ابني مات؛ لأنه كان يحنُّ إلينا بشدة، دفع ثمن خطأ والده و خطئي ببُعدي عنه، و كأن الحياة هي احتياجات فقط، مع أنها مشاعر قبل كل شيء، أنا تكلَّمتُ مع ابني عن الحب، و قلت له: أن تحسَّ بغيرك، و أنا لم أكن أحس بما هو فيه... ابني دفَعَ ثمن أنانيتنا... دفع ثمن أخطائنا نحن الكبار.

الرابط : https://www.alukah.net/literature_language/0/67669/

قراءة 917 مرات آخر تعديل على الإثنين, 28 حزيران/يونيو 2021 17:48