قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

Thursday, 08 September 2016 11:43

الفتوى بين استهتار العامة و ظلم الدجاجلة

Written by  الأستاذ محمد الأمين مقراوي الوغليسي
Rate this item
(1 Vote)

إن الناظر في الساحة العلمية للأمة الإسلامية يرى بكل وضوح حجم المصيبة التي حلت بأقدس مجال شرعي للمسلمين، و نقصد به: مجال الفتوى، و هو مجال حيوي و خطير في نفس الوقت؛ حيوي لأنه يضمن للشريعة استمرارها و ديمومتها و مرونتها، و خطير لأن إهماله و عدم صيانته من العبث يؤدي إلى انهيار النسيج الثقافي للمجتمعات الإسلامية و انتشار الفوضى فيها. و تتأكد خطورته مع التساهل الذي باتت عليه نظرة عوام المسلمين لحقيقة الفتوى، و التي هي في الأصل توقيع عن رب العالمين، و قد صار استخفاف العامة بقدسية الفتوى علامة فارقة في عصرنا، خاصة مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، التي منحت للكثيرين فرصة التلاعب بالفتاوى، و إثارة فوضى علمية تراكمية في ساحات المسلمين، و يتخذ ذلك أشكالا  كثيرة، لعل أخطرها: نشر بعض الجهات المشبوهة لفتاوى شاذة و مكذوبة؛ لتشويه رموز الساحة الفقهية و العلمية، مما يجعل التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة أمرا واجبا على طلبة العلم و أئمة المساجد، من خلال تخصيص دورات علمية و خطب و ندوات و محاضرات دورية تشرح للأمة أهمية الفتوى، مع تناول الموضوع من كل جوانبه، و استعمال كل الأساليب لإقناع الناس بضرورة احترام هذا المجال الشرعي العظيم.

الفتوى بين مسلم الماضي و مسلم الحاضر:
يجمع أهل الشريعة في عصرنا أن مسلم العصر لا يعطي لمجال الفتوى حقه من الاحترام و التبجيل، بدليل أن الكثير من المسلمين يلجأ إلى استفتاء من تظهر عليه سمات التدين، بل ثبت أن بعض المسلمين قد يستفتي أي شخص فيما يشكل عليه أو يجهله، بل كثيرا ما يلجأ الناس إلى البحث عن الفتاوى بأنفسهم عبر شبكة الانترنت، و منهم من صار يعتقد أن له أهلية استخلاص الفتاوى من خلال النصوص الشرعية بفضل مستواه الجامعي، و صرنا نرى في الواقع مشاحنات ذات صلة بالشريعة، ممن لا يحق لهم الحديث فيها، فيأتي كل واحد من المتشاحنين بحديث أو واقعة قد قرأها في كتب السيرة؛ ليستدل بها لنفسه دون خوف و لا وجل، أي أن  كل من لا علاقة له بمجال الفقه و الشريعة صار يطأ بجرأته اللامحدودة على قدسية الفتوى، و قد وصف القرآن الكريم هذه الجموع الخائضة في شرع الله بالكذب فقال سبحانه: " وَ لاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَ هَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون"  - النحل:الآية 116 - و لاشك أن الكذب على الله أخطر أنواع الكذب على الإطلاق، و الكذب يتعارض مع حقيقة المسلم و رسالته في الأرض،  و كان سلفنا الصالح يدرك ذلك إدراكا عميقا تاما يقول أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه عن الخوض في الشريعة الإسلامية بغير علم: " أيُّ سماء تُظِلُّني و أيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن أنا قُلتُ في كتاب الله ما لا أعلم؟! ".

و قد نال الاستهتار الجمعي بالفتوى من هيبة الشريعة لدى مجموع أفراد الأمة، و قلل من قيمة العلم و العلماء و دورهم، مما يؤشر لدخول الأمة فوضى عميقة، لم تشهد لها مثيلا فيما مضى، ففي الماضي لم يكن هذا الاستهتار منتشرا أو موجودا بالصورة التي نراها اليوم -  حسب اطلاعنا - أو لم يصل لدرجة الظاهرة فيمن سبقنا لأسباب كثيرة، أبرزها احترام العلماء و العامة للعلم و الفقهاء، و معرفتهم بالحدود المرسومة بين المقلد و بين الفقيه يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: "أدركتُ عشرين و مائةً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه و سلم، فما كان مِنهم مُحدِّثٌ إلاَّ ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، و لا مُفتٍ إلاَّ ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا".. و كانوا لا يأخذون الفتوى إلا ممن زكته الأمة، و من خلال صفوتها، يقول مالك: " ما أفتيتُ حتى شهِد لي سبعون من أهل المدينة أني أهلٌ لذلك". و قد كان يرى على وجوه السلف الخوف من الخوض في مسائل الشرع،  و هذه شهادة مالك رحمه الله: " أدركتُ أهلَ العلم و الفقه ببلدنا إذا سُئِل كأن الموتَ أشرفَ عليه". و من خلال هذه الأقوال يتبين أن مشكلة استهتار الناس بالفتوى لم تكن مطروحة وقتها، و لم تكن ظاهرة حياتية، بل تشير هذه الآثار إلى أن فقهاء و علماء تلك الفترة كانوا يتهيبون الخوض في مسائل الفقه، و كان ذلك شائعا بينهم، و يتعمدون التأكيد عليه من خلال نشر مثل هذه الأقوال، التي تحض على احترام مجال الفتوى. و هو ما يجب أن تسترجعه نفوس طلبة العلم، كما يتأكد اليوم ضرورة إدخال مادة الفتوى و آدابها و ضوابطها في المناهج الدراسية لكليات الشريعة في العالم الإسلامي.

عامة الأمس و الشريعة:

كان الكثير من عوام المسلمين في مختلف الأقطار الإسلامية قبل الحركة الاستعمارية التي مزقت و دمرت العالم الإسلامي يحفظون المتون و المختصرات، و يهتمون بالكتب و المصنفات التي تناسبهم، و يطلب بعضهم من بعض العلماء و الفقهاء تأليف رسالة في فن ما حتى يسهل عليهم أخذها و فهمها، فقد كان عامة مسلمي المغرب العربي - على سبيل المثال - يحفظون القرآن الكريم،  و يجمعون بين متون كثيرة، حفظا و فهما، فكان الرجل يحفظ في الفقه متن ابن عاشر مثلا، و يحفظ الرسالة لابن أبي زيد القيرواني عن ظهر قلب، و كانت المسابقات و المباريات العلمية تقام بين الناس في حفظ مختصر خليل رحمه الله، و عدد مسائله بالتقريب 83 ألف مسألة بالمنطوق، و مثلها بالمفهوم.
يقول ابن القيم رحمه الله في ذلك : " لم تزل ألطاف الله بالمالكية تتوالى حتى أخرج لهم شابا جمع لهم مذهبهم في أوراق يتأبطها الرجل و يخرج، يتأبطها الرجل أي يجعلها تحت إبطه و يخرج، و هو عمدة المذهب اليوم، يحفظه الناس كما يحفظون القرآن، خدم بأنواع الخدمة".

أما اليوم فإن الكثير ممن يتخرج من الجامعة بشهادة جامعية، و لا علاقة له بالشريعة، و لا يحسن كتابة مقال علمي في تخصصه، و لا يعرف تدبيج بحث علمي، و يعجز حتى عن كتابة شكوى يدفع بها الظلم عن نفسه، يلجأ إلى طلب المساعدة و الاستشارة و التأكد من صحة عمله، إلا أنه يصبح جريئا عند الخوض في أمور الشريعة الإسلامية، و بصلف عجيب، و غرور مكشوف، فشتان بين العصرين، عصر يحفظ العامة فيه القرآن و المتون و المنظومات، و عصر صار فيه بعض العامة يحاكمون البخاري و مسلم رحمهما الله، و يشتمون تراث الأمة العظيم.

الغزالي يحذر من خطر العامة على الفتوى:
يقول أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين: " .. و العامي يفرح بالخوض في العلم، إذ الشيطان يخيل إليه أنك من العلماء و أهل الفضل، و لا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم في العلم بما هو كفر و هو لا يدري. و كل كبيرة يرتكبها العامي فهي أسلم له من أن يتكلم في العلم لا سيما فيما يتعلق بالله و صفاته".
بل يذهب إلى أكثر من ذلك فيحذر العوام من إنكار المنكر إلا في مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كحرمة الربا و الزنا و الرشوة و القتل، و كحرمة ترك الصلاة، و قد كان الغزالي بعيدا في نظرته إلى خطورة جراءة العوام على انتهاك حياض الفتوى؛ لأن العامي إذا تجاوز ذلك و حاول الإنكار فإن ما يفسده أكثر مما يصلحه، و الواقع شاهد على ذلك، يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: " العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليلات المعلومة كشرب الخمر و الزنا و ترك الصلاة، فأمّا ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال و يفتقر فيه إلى اجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.". و هذا التنبيه مما يجب إحياؤه في مجتمعاتنا الإسلامية.

 الفتوى بين يدي الدجاجلة:

باسم كذبة محاربة التطرف و استغلال الدين لأغراض سياسية، أصدر الكثير من دجاجلة العصر ممن يحسبون على أهل الفتوى و الشرع - أغلبهم لا علاقة له بالفقه أصلا -  فتاوى استباحت دماء المسلمين، و استحلت أعراضهم، و ذهبت إلى انفكاك العصمة الزوجية لأسباب ما أنزل الله بها من سلطان، فخربت الذمم و الأعراض و الأموال، و قد حذر ابن عباس رضي الله عنهم من هذا القسم عندما أوضح للمسلمين أن أهل الفتوى و العلم على قسمين يجب معرفتهما، و محذرا من خلال هذا القول من القسم الثاني: " إن لله قراء، و إن للشيطان قراء "، و يحق في دجاجلة الفتوى قول ربيعة الرأي رحمه الله : " و بعضُ من يُفتي هنا أحقُّ بالسّجن من السُّرَّاق".. و لو شاهد ما يجري على ألسنة هذا الصنف في عصرنا لشدد في اقتراح العقوبة الزاجرة. في هؤلاء الأشقياء، و قد كان السلف و الكثير من الخلف يرون أن مجال الفتوى قد يكون سببا في هلاك المفتي و شقائه، حيث يقول سحنون رحمه الله: " إنا لله. ما أشقى المُفتي و الحاكم! "، ثم أضاف و هو من هو في العلم و الفقه: " ها أنا ذا؛ يُتعلَّمُ مني ما تُضرَب به الرقاب، و تُوطَأ به الفُروج، و تُؤخَذ به الحقوق، أما كنتُ عن هذا غنيًّا؟! ". و يروى عن عبد اللطيف سلطاني عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قوله: " من أراد خيري الدنيا و الآخرة فليجتنب الإمامة و القضاء"، و هي مبالغة نابعة من شيخ فاضل نال بسبب تعظيمه حرمة الفتوى و صيانتها شديد المحن.

و باسم السماحة المفصلة على هوى النظام العالمي، و باسم حرية التعبير، و الحريات الشخصية، خرجت فتاوى هدامة تستبيح أركان الإسلام، و المعلوم من الدين بالضرورة، ممن لا ضمير لهم و لا مروءة، طلبا و استرضاء لقوى الاستكبار العالمي، و هي فتاوى ساقطة شرعا، مناقضة لروح الشريعة و مقاصدها، و أركانها، و تهدف إلى تفريغ الشريعة من روحها، و عزلها عن وظيفتها في دنيا الناس، و وصلت الجراءة إلى الدعوة الي إلغاء المناهج الإسلامية من المدارس و الثانويات باسم المواطنة و الاشتراك الأممي في الأخلاق، حتى إننا صرنا  نقرأ لمن يتبعهم الآلاف - عن الدعوة إلى مساواة الإسلام باليهودية و النصرانية، بحجة أن الأخلاق واحدة و أن الكتب السماوية واحدة.

و لاشك أن خطر دجاجلة العصر على بيضة الإسلام عظيم؛ لأن في جلوسهم للفتوى هدما للإسلام و حصونه، و تمزيقا لنسيجه و هم المقصودون بقول عمر رضي الله عنه: " يهدِمُ الإسلامَ زلّةُ العالم، و جدال المنافق بالكتاب، و حُكم الأئمة المُضلّين.". ما يجعل التصدي لخطرهم واجبا من واجبات العصر، و ليت أهل القرار و الكلمة المسموعة من: المسؤولين و العلماء يعيدون إحياء ملتقيات الفكر الإسلامي الكبرى؛ حتى تكون محلا لمثل هذه المواضيع التي تهم كل مسلمي العالم.

أنقذوا الفتوى يا معاشر العلماء و الفقهاء:

إن هتك العوام و دجاجلة الفتوى حرمات الفتوى و تسببهم في نشر فوضى علمية و فقهية كبيرة، أدت - الفوضى العلمية - إلى اهتزاز إسلام و إيمان الكثير من المسلمين، و النيل من هيبة الكثير من أعمدة الإسلام يستوجب التفاتة صادقة و مستمرة من أهل العلم و الفقه، للتصدي لهذه الغارة الخطيرة على مجال الفتوى، فهذا من صميم حفظ الدين الذي يمثل أحد الكليات الخمس، و التي جاءت الشريعة الإسلامية لحفظها، كما أن الذود عن حياض الفتوى يحقق للأمة استقرارها، و يحمي نسيجها الثقافي و يصون وحدة المجتمعات الإسلامية، و بالتالي يساهم في إمكانية تفرغ المسلمين للعودة إلى استئناف الحياة، وفق هويتهم الإسلامية، و العودة إلى ريادة العالم؛ لنشر الرحمة بين المسلمين خاصة، و في ربوع الأرض التي تئن من الظلم و الفساد، و تحقيقا للخيرية التي وصفت بها في النص القرآني الذي أسس هذه الأمة.

المصدر: الإسلام اليوم

Read 2071 times Last modified on Monday, 12 September 2016 17:24

Add comment


Security code
Refresh

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab