تحدثنا في الحلقة السابقة عن الصدق مع الله تعالى و كيف أنه الأمر الأساس للإنسان في حياته و معاده.
و سنتحدث الآن – إن شاء الله – عن المرتبة الثانية من الصدق و هي كذلك ذات أهمية بالغة، ليرسخ الإنسان قدميه في أرض القبول واقفا، ليصل إلى الخُلق المنشود و الإيمان المحمود و الدرجة الفاضلة الكريمة.
ثانيا: الصدق مع النفس
هو ترجمة لصدق العبد مع ربه سبحانه و دلالة عليه، و هو أن يعرف الإنسان نفسه - أولا- بشكل جيد متكامل ، فيعاملها بما خَبِره عنها من قوة و ضعف، و تقدم و إحجام، و رضا و نفور، فيكثر في الرضا و القوة و يحافظ على الحد الأدنى عند النفور و الإحجام.
إذا هــبّــت ريــاحك فاهتـــبــلـــها فإن لـــكـــل خافـــقـة سُــكــون
و من يعرف نفسه جيدا لا يدّعي كمالها و لكن يتعامل معها كما هي، مع وجوب التحسين دوما " و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن..."
هذا و إنّ من شيم الصادق مع نفسه أن يصارحها بعيوبها حتى يتسنّى له علاجها و مداواتها، فهو لا يبرر أخطاءه و يتغافل عن عيوبه ، و إنما يقف مع نفسه وقفة المحاسب الشديد ، فيتصارح معها باحثا عن علاج لنقائصه في صيدلية الهدى و مستشفى الإيمان و عيادة أهل العلم و الإحسان.
أما الكاذب فإنه يوهم نفسه أنه على أحسن حال و أنه صالح طيّب، و هذا التصرف أكبر صادّ له على المعالجة و التربية، حتى إذا رأى خللا برّره و تحاشى مواجهته، بل لسان حاله " أنا خير من أناس كثيرين ".
دون أن ننسى سمة الكاذب مع نفسه أنه يعيش على التصنّع و استعمال " المكياج المعنوي " عكس الصادق الذي لا يحسن الكلام الكثير و الثرثرة الفارغة و إنما تجد مبادئه على الأرض مسطّرة، و مُثله و قِيمَه في سلوكه بارزة، و شعاره في حياته " الميدان هو المحكّ".
و لنتأمل معا – أيها القرّاء الأفاضل – هذا المثال من سنّة الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم لنتعلم العبرة و النجاة.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:
(( أِنَّ فَتًى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا،فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يا رسول الله، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يا رسول، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ،وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ))
الله الله ، نحن أمام مثال الصادق مع النفس حقا...
فقد أتى هذا الشاب و مجامع قلبه و عقله نازحة تحت نير الشهوة و لهيبها و غواية الشيطان و تأثيرها، و قد صدق في طلبه، فلم يدار مسألته و لم يلتوِ في حاجته.
أتى يطلب الإذن بالفاحشة لأن الصادق مع نفسه لا يفعل إلا ما يراه حقا و جيّدا،و لا يتعامل إلا في وضح النهار و لا يستتر من عمله لأنه يراقب الله وحده و لا يهمّه أرَضِيَ الناس أم سخطوا إن كان على الحق و الصواب.
فلمّا علم طبيب القلوبصلى الله عليه و سلم أمره سأله أسئلة لا يمكن لكاذبٍ مع نفسه أن يجيب عنها، أتدرون لماذا؟؟ لأن الصادق لا يقبل بازدواجية المعايير فكما أنه لا يرضى الفاحشة لأخته و أمّه و محارمه فإنه لا يرضاها كذلك لأخوات الآخرين و أمّهاتهم و محارمهم.
ألا ترى - أيها القارئ الكريم – أن الصدق أنجاه من مغبّة المعصية و ذل الخطيئة و أكرمه بدعاء سيّد النبيين صلى الله عليه و سلم.
أما ترى أنّ الصدق مع النفس يورث راحة البال و طمأنينة القلب و استقرار الطويّة و جمال السجيّة، فالصادق لا يتلون مع مصالحه تلوّن الحرباء، و لا يجرِ خلف منفعته الضيّقة جري البُلهاء، بل هو بالهدوء متصفا و بالاستقامة معروفا لأن صدقه يقوده إلى أنّ " ما أصابك لم يكن ليخطئك و ما أخطأك لم يكن ليصيبك ".
جعلني الله و إيّاكم ممن تمثل و عمل بآية "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين " حقّ التمثل و العمل .
و إلى حلقة أخرى من موضوعنا إن شاء الله قريبا...
sThis email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.