شمس عرفة تؤذن بالمغيب، القلوب التي ارتبطت فيه برباط التقرب و الطاعات، يعز عليها وداعه، العيون التي امتزجت دموعها بذرات ترابه في سجودها تمتليء بدموع الحنين، فترنوا إلى أرجائه الحبيبة، في نظرات تأمل بالعودة القريبة، و مواكب السائرين إلى المزدلفة تعج بالتكبير والتحميد، في محطة جديدة في هذه الرحلة العبادية، و يحط الركب رحاله سويعات، في المزدلفة ثم يتابع المسير الى منى، ينتظر شروق شمس يوم الحج الأكبر.
و هناك في الخيام التي نصبت للحجيج، تتوارد إلى الأذهان رحلة الحبيب المصطفى، منذ بدء الدعوة إلى توحيد الله، و ما رافقها من ضنك و عذاب و استنكار و تهجير، مرورا بذلك اليوم الذي عاد فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم من الحديبية، دون أن يسمح له بأداء عمرته، و ملء عينيه من نور البيت الحرام، ثم ها هو يؤيد بنصر من الله و فتح قريب، تفتح مكة و يقف النبي صلى الله عليه و سلم في الحرم مناديا، يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ و تأتي الإجابة المنصفة من نفوس عرفت في قرارتها دائما أن محمدارسول الله، [ أخ كريم وابن أخ كريم] و سماحة النبوة و رأفة الرؤوف تنطلق جوابا حانيا، [ اذهبوا فأنتم الطلقاء]. فيكون التسامح عنوانا لشريعة محمد و لأمته صلى الله عليه و سلم و تذكيرا لها بأن نصر الله قريب.
و ها هي سنة تسع للهجرة تهل بالكثير من الانتصارات و التباشير الطيبة لدولة الاسلام، و فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم يحج مع أصحابه يطوف و يسعى و يقف بعرفة و يتنزل عليه القرآن، [ اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا] و يتأذن ربنا بعزته و قدرته، ليوحي إلى نبيه بآيات كريمة ترسم للأمة ملامح العلاقة الأبدية بين الحق و الباطل، و الرشد و الغي، بين فسطاطي كفر و إيمان للإلتقاء بينهما، و لاتآلف عقائدي و لا توائم منهجي، و لا اندماج إجتماعي و خلقي في كلمات حاسمة، و براءة خالصة {و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين و رسوله} فتتلقف القلوب المؤمنة الأمر بالإذعان و القبول و الرضى، و الثقة بتشريع الله و رسوله، و تظل هذه البراءة منهجا يتّبع و قرآنا يتلى، و نصوصا لا تقبل اللّي و لا التطويع، فالكفر كفر و الإسلام إسلام.
و تشرق شمس يوم النحر بالتكبير و النحر، و الرمي و القربات، و يتردد في أسماع أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وصيته الخالدة لأمته الرشيدة، نصوصا تظل على إمتداد الزمان شرعة و منهاجا تستنير به الأمة، و هديا تتبعه دون تردد، و تواجه به متغيرات الزمان، و مرجعا تعود إليه كلما تنكبت جادة الصواب، و ابتعدت عن المسلك القويم، و نسيت استحقاقات أخوّة الإسلام، { ياأيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا:يوم حرام قال :أي بد هذا؟ قالوا:بلد حرام قال:فأي شهر هذا؟ قالوا:شهر حرام فإن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا اللهم هل بلغت اللهم قد بلغت. فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض}.
و تلهج الألسن بالدعاء إلى الله في هذا اليوم العظيم، يوم الحج الأكبر، بالدعاء أن يحقن سبحانه دماء المسلمين، و قد إستباحها أعداء الأمة، بل و بعض ولاة أمرها الذين نسوا أمانة الله التي حملوها، و جعلوا من بلدانهم سجونا كبرى، و من رعاياهم أسرى و سجناء، و من خيرات أرضهم نهبة يغتنموها بلا قيد و لا رقيب.
هناك في منى و هنا خارج حدودها، و بكل الآفاق الإسلامية، تسارع النفوس المتلهفة إلى الطاعات، بذبح الأضحيات، و صلة الأرحام، و مختلف القربات، في إعلان واضح و عملي، أن الأمة موحدة في عباداتها، متوحدة في مشاعرها، متآلفة في دعوتها و مقاصدها، و أن ما يمر بها من تفرق و ما يعتريها من ضعف، ما هو إلاعارض زائل بإذن الله، و أن العود الحميد إلى رحاب الله بات وشيكا، و أن النصر آت لا محالة، و لكنها سنن تجري بها أقدار الله، فإذا ما وفينا باستحقاقات النصر و التمكين أتانا من حيث لا نحتسب،{وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض وليمكنن لهم دينهم الذي إرتضى لهم} لقد إرتضاه سبحانه لنا، و إرتضيناه لأنفسنا، فيا من من الله عليكم بزيارة بيته أبشروا برضاه، و أكثروا من الدعاء لأمتكم و يا من لم تقدّر لكم هذه الوفادة، أكثروا من صالح الأعمال في هذه العشر المباركة، عسى أن لا يخيب رجاؤكم، و عسى أن يصلح الله بكم حال الأمة إنه سميع مجيب.