جميل أن يتداعى أهل الفكر و الأدب و صناع المشهد الثقافي، إلى المطالبة بتحرير المنظومة التربوية من التبعية للأجنبي، و جزأرة الكتاب المدرسي، لكي يتشرب أبناؤنا و بناتنا ثقافتنا، و يمتلئون بقيمنا، و يتعرفون على تاريخنا و مآثر رجالنا، فيتحصنون بذلك من الاستلاب و الذوبان في الغير، مهما كان هذا الغير، إلا أن بعض حملة مشعل هذه الدعوة فينا، الذين يرفعون شعار الغيرة على الإبداع الجزائري، و يطالبوننا بإدراج نصوصه في الكتاب المدرسي يبدوا من دعواهم تلك أن وراءها ما وراءها، و أن ما يرمون إليه في حقيقة الأمر هو علمنة الكتاب المدرسي، و تجريده من المضمون العربي الإسلامي على وجه التحديد، و ذلك باستبعاد نصوص الكتاب المشارقة منه، و تنقيته من النصوص ذات الطابع الإسلامي، فهذا هو ما يفهم على ما جاء على لسان الكاتب أمين الزاوي، في الندوة التي نشرت مضمونها جريدة الخبر الصادرة بتاريخ31 أوت 2015 في ص 16 فعندما يقول:" أن المشرفين على إعداد الكتب المدرسية لايزالون مصابين بعقدة التمشرق، فهم يعتقدون لأن اللغة العربية، باعتبار أنها وصلت مع وصول الفتوحات الإسلامية إلى إفريقيا البربرية، البحث عنها مثل الحج يجب الذهاب إليه في الحجاز، لذلك فاختيار النصوص المدرسية تحكمها هذه العلاقة ( التمشرق) و ( الموعظة)" فالدعوة إذن تستهدف النصوص التي لها علاقة بالمشرق و تلك التي لها علاقة بالدين، و يؤكد هذا الرأي أنه يعترض حتى على النصوص الجزائرية نفسها إذا ما كانت ذات مضمون إسلامي أو متأثرة بالروح المشرقية ، فها هو يضيف قائلا:" أعتقد بأن زمن نصوص رضا حوحو قد ولى... أتصور أن المشرفين على النصوص الأدبية باللغة العربية، حين يفكرون في الاختيار مقياسهم( حتى و لو كان ذلك في اللاوعي) هي نصوص جمعية العلماء المسلمين...و التحفظ على اختيار نصوص أدباء معاصرين و محدثين، و هم في غالبتهم من حساسيات فكرية جمالية و حداثية، هو ناتج عن هذا التقوقع داخل خيار النصوص الإصلاحية ".
و مما يؤكد أن هذه الدعوة يحركها التوجه الإيديولوجي، لا البعد التربوي التعليمي المحض، هو ما نسب للمفكر محمد ساري قوله في نفس الندوة من أنه:" يعتقد أن تأثير الإيديولوجيات الإسلاموية السلفية، و براغماتية و انتهازية السلطة، التي عملت على إرضاء أصحابها، حفاظا على مصالحها، و بقائها في السلطة أدى إلى حذف جميع النصوص الأدبية الراقية، التي تتغنى بالحياة و الحب و جمال الطبيعة، و استبدلوها بخطب دينية، و أشعار أخلاقية، فارغة من الحياة، و من الأساليب الراقية، نصوص تتغنى بالموت و الآخرة، ...".
و من هنا نقول: أن هذه المواقف و الآراء، تدل على وجود رغبة خفية، لا في جزأرة الكتاب و إنما السعي لعلمنته، و من ثمة فإن التعامل من هذا المنطلق مع الكتاب المدرسي الجزائري يعد منطلقا خاطئا تماما، لا يخدم التلميذ، و لا الدولة، و لا المجتمع، لكونه يستبعد وظيفة هامة ينهض بها الكتاب المدرسي و هي وظيفة الانفتاح على الآخر غربا و شرقا، و هذا يفرض ضرورة اشتمال الكتاب المدرسي على نصوص غير جزائرية سواء كان مصدرها الشرق أم الغرب، ثم أن جزأرة الكتاب المدرسي، لا تستدعي استبعاد النصوص المشرقية منه على وجه التحديد، بل تتطلب تنقيته من النصوص الضعيفة، أو تلك التي تجاوزها الزمن، و لم تعد منسجمة مع الوضع السياسي و التطور الاجتماعي، و استبدالها بأخرى أقوى تأثيرا، و أثرى معنى و أقدر على الإضافة، ثم أن وظيفة الكتاب المدرسي تتمحور حول تمكين التلميذ من الانسجام مع نفسه و عائلته و مجتمعه و النأي به عن التمزق و الانفصام، أي أن يتشرب ثقافة مجتمعه و معتقده و توجهه السياسي، الذي يحي في كنفه، و أن يتجاوب مع مقتضيات التطور العالمي و لا ضرورة إطلاقا لتجريده من البعد العربي الإسلامي، بل على العكس هناك اليوم ضرورة ملحة للتركيز فيه على هذا الجانب بالذات، للتصدي لتيار العولمة، الذي يسعى جاهدا لطمس هوية الشعوب و فرض أساليبه و مبادئه التي تحددها فلسفته في الحياة.
و الحقيقة أن مكمن الداء ليس في مضمون الكتاب المدرسي الحالي، بقدر ما هو موجود على مستوى انعدام الرؤية السياسية لما ينبغي أن تكون عليه الجزائر حاضرا و مستقبلا، فلو أننا تمكنا من الاتفاق على رؤية سياسية واضحة للدولة الجزائرية لأسهم ذلك بناء منظومة تربوية منسجمة مع الوضع، و لساعد ذلك في اختيار النصوص للكتاب المدرسي بما يتناسب و خدمة تلك الرؤية و لا علينا بعد ذلك تكون محلية أو أجنبية شرقية كانت أم غربية إذ العبرة فيها أن تكون وظيفية تحقق لنا ما نصبو إلى ترسيخه من قيم و ما نأمل أن ننجزه من أهداف...
Comments
الأستاذ السائحي بقدر ما استفيد مما تكتب بقدر ما استمتع جزاك الله خيرا
أستاذة-رومانسية
RSS feed for comments to this post