تُعَد الأجسام المضادّة التي تُهاجِم أجزاءً من دفاعاتنا المناعية عاملًا أساسيًّا وراء الإصابة بالحالات الشديدة من مرض «كوفيد-19»، و من ثمّ وفاة البعض عقب الإصابة بعدوى فيروس «سارس-كوف-2» المسبب لهذا المرض، و ذلك وفقًا لما جاءت به دراسة دوليّة كبرى، و جدير بالذكر أن هذه الأجسام المضادة المارقة، المعروفة بالأجسام المضادة الذاتيّة، توجد أيضًا لدى نسبة قليلة من الأفراد الأصحاء غير المصابين بالعدوى، و تزداد نسبة انتشارها مع التقدم في العمر، و هو ما قد يفسِّر ارتفاع احتمالية الإصابة بالأعراض الشديدة لمرض «كوفيد-19» بين كبار السن.
و تقدم هذه النتائج، التي نُشِرَت بتاريخ التاسع عشر من أغسطس الماضي في دورية «ساينس إيميونولوجي» Science Immunology، أدلّةً دامغةً تدعم ملحوظاتٍ رصدها فريق الدراسة نفسه في أكتوبر الماضي، و يتولى قيادة الفريق طبيب المناعة جان لوران كازانوفا، من جامعة روكفلر بمدينة نيويورك، الذي وجد مع فريقه البحثي أن حوالي 10% من المصابين بالأعراض الشديدة لمرض «كوفيد-19» كانت لديهم أجسام مضادة ذاتية هاجمت و ثبَّطت الإنترفيرونات من النوع الأول، و هي جزيئات بروتينيّة في الدم تؤدي دورًا مهمًّا في مكافحة العدوى الفيروسيّة.
حول ذلك، يقول آرون رينج، اختصاصي علم المناعة من كلية طب جامعة ييل في مدينة نيوهايفن، بولاية كونيتيكت الأمريكية، و الذي لم يشارك في الدراسة: “ربما كان التقرير المبدئي لدراسة العام الماضي من أهم الأوراق البحثية عن الجائحة، و ما فعله الباحثون في هذه الدراسة الجديدة هو إجراء استقصاء متعمق لمعرفة مدى انتشار هذه الأجسام المضادة لدى سكّان العالم، و قد اتضح أنها سائدة إلى حدٍّ مذهل”.
ركَّز فريق البحث الدوليّ الذي أجرى الدراسة على اكتشاف الأجسام المضادة الذاتيّة التي قد تعطِّل التركيزات المنخفضة و ذات الأهمية الفسيولوجيّة من الإنترفيرونات، من ثم، فحص الفريق 3595 مريضًا من 38 دولة مصابين بحالات حرجة من مرض «كوفيد-19»، أي مرضى ممن أصيبوا بدرجة شديدة من المرض استلزمت إيداعهم بوحدة للرعاية المركَّزة، وبوجه عام، حملت أجساد 13.6% من هؤلاء المرضى أجسامًا مضادةً ذاتيّة، تراوحت نسبتها بين 9.6% لدى المرضى الذين تقل أعمارهم عن أربعين عامًا، و 21% لدى المرضى الذين تربو أعمارهم عن ثمانين عامًا، كذلك وُجِدت الأجسام المضادة الذاتيّة في 18% من الأشخاص الذين قضوا من جرَّاء المرض.
و قد اشتبه كازانوفا وفريقه البحثي في أن هذه الأجسام المضادّة المارقة كانت سببًا، لا نتيجة، للحالات الحرجة من مرض «كوفيد-19»، و كان هناك ما أشار إلى أنها السبب، إذ كان قد سبق للفريق البحثيّ رصدها في حوالي 4 من 1000 شخصٍ تمتعوا بصحةٍ جيدة، و جرى سحب عينات منهم قبل الجائحة، كما اكتشف الفريق أن الأفراد المصابين بطفرات جينية تعطِّل نشاط الإنترفيرونات من النوع الأول أكثر تعرضًا للإصابة بأعراض المرض التي تهدد الحياة.
و لتقصِّي هذه العلاقة أكثر، أجرى الباحثون بحثًا مدققًا عن هذه الأجسام المضادة الذاتية في مجموعة ضخمة من عينات الدم المأخوذة من حوالي 35 ألف شخصٍ تمتعوا بصحة جيدة قبل الجائحة، و وجدوا أن 0.18% من الأشخاص ما بين سنّ 18 إلى 69 عامًا كانت لديهم أجسام مضادة ذاتيّة ضد الإنترفيرون من النوع الأول، و أن هذه النسبة تزداد مع التقدم في العمر؛ إذ وُجِدت الأجسام المضادة الذاتيّة في حوالي 1.1% من الأشخاص بين سنّ 70 إلى 79 عامًا، و في نسبة قوامها 3.4% من الأشخاص فوق سن الثمانين.
في ذلك الصدد يقول كازانوفا: “إن ثمة زيادةً هائلةً في انتشار هذه الأجسام المضادة الذاتية” مع التقدم في العمر، و هذا يفسر بشكلٍ كبير ارتفاع خطر الإصابة بالأعراض الشديدة لمرض «كوفيد-19» في كبار السن”، و يضيف: إن هذه النتائج لها تداعيات واضحة من الناحية الإكلينيكية، و يشير إلى أنه على المستشفيات فحص المرضى تحسبًا لوجود هذه الأجسام المضادة الذاتيّة لديهم، و أن عليها اكتشاف الطفرات التي تُسهم في تعطيل الإنترفيرونات من النوع الأول، و هذا قد يساعد على اكتشاف الأشخاص الأكثر تعرضًا للحالات الحرجة من مرض «كوفيد-19»، و هو ما يساعد الأطباء على تصميم علاجات ملائمة لهم.
و وفقًا لما صرح به رينج، فإنه “من الصعب تجاهُل” ما تفيد به عينات أكثر من 30 ألف شخص، و يقول: “هذا يوضِّح أن هذه مسألة علينا أخذها في الاعتبار”، و يضيف أنه على الباحثين الآن دراسة ما إذا كانت الأجسام المضادة الذاتيّة تؤدي دورًا في تحفيز الإصابة بأمراضٍ معديةٍ أخرى، أم لا، و قد وجد فريق رينج بالفعل أدلةً على وجود أجسام مضادة ذاتيّة تهاجم مكوناتٍ مختلفةً من الجهاز المناعي في الأشخاص المصابين بمرض «كوفيد-19»، و حاليًّا يولي مع فريقه البحثي هذا الاكتشاف المزيد من الدراسة، و تعقيبًا على ذلك يقول: “أظن أننا بدأنا للتو سبر أغوار جانب بسيط من المشكلة”.