“لا أعتقد أننا عَمَينا، بل إننا عُميان، عُميان يرون، بشر عُميان يستطيعوا أن يرون، لكنهم لا يرون”[1]. بهذه العبارة موحية الدلالات يختتم الأديب البرتغالي جوزيه ساراماجو، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1998، أحداث روايته “العَمَى”، و التي يلجأ فيها إلى رمزية فقدان البصر كحاسة إنسانية لفهم مأزق السياسة في الدول و المجتمعات، عندما تتعرض إلى حالة عَمَى البصيرة في أوقات الاستثناء و الطواريء.
في تلك السردية المتخيلة، يُظهر ساراماجو استهانة حكومة ما بوباء أبيض أصاب أعين الأفراد، حتى انهارت مؤسسات الدولة و ضربت الفوضى المجتمع في وقت وجيز. في الوقت نفسه، يكشف ما يسميه “التوحش السلوكي” للعُميان، الذي بلغ حرب الكل ضد الكل في الحجر الصحي، بعد أن حشرتهم فيه الحكومة لمنع انتشار العدوى. مع ذلك، يرمز للبصيرة، من خلال شخصية زوجة الطبيب التي لم تصب بالوباء، حيث مارست سلوكاً يتسم بالتعاطف و الكرامة و التضامن ومساعدة العُميان على “تنظيم” أنفسهم للتعامل مع الفوضى إلى أن بدأ الوباء يزول عن العُميان واحداً تلو الآخر.
تناقش الرواية، التي تعد من العلامات البارزة في الأدب السياسي العالمي، عَمَى البصيرة من منظورات سياسية و اجتماعية و أخلاقية، حيث تربطه بأبعاد متعددة، كإنكار الحقائق و عدم التعامل معها بجدية، و انتشار الخوف و الأنانية و تجنب المسئولية و إهدار الكرامة و حقوق الآخرين، فضلاً عن انعدام الأمل في غدٍ أفضل. غير أن تلك المعاني لا تمس فقط التفاعلات داخل الدول و المجتمعات، و إنما تمتد أيضاً إلى السياسات في العالم و الإقليم، بحكم عدم انفصال عوامل الداخل و الخارج في تشكيل الظواهر السياسية.
قبل سنوات، برزت سلوكيات الأنانية في خضم جائحة كورونا، عندما استأثرت دول الشمال بتوزيع اللقاحات على حساب دول الجنوب، فيما تباطأت الدول الصناعية الكبرى في تحمل كلفة الأضرار المناخية برغم مسئوليتها عن غالبية انبعاثات الكربون المسبب للاحتباس الحراري. أما في الحرب الراهنة على قطاع غزة، فتغض القوى الغربية الطرف عمداً عن جرائم الإبادة و التجويع التي تقترفها إسرائيل بحق الفلسطينيين، بينما على العكس يبدو دعمها المعنوي و المادي لأوكرانيا نشطاً في مواجهة الغزو الروسي.
قد يجادل البعض بأن السياسة العالمية، في جوهرها، لعبة “عَمْياء” عن القيم الإنسانية و الأخلاقية و الإيثارية، حيث يحكمها منطق المصالح و القوة. إلا أن هذا الفهم الواقعي قد يكون صحيحاً جزئياً و ليس كلياً، فالقادة و الحكومات قد يلجئون إلى القيم الإنسانية و سياسات التعاطف لتسويغ سياساتهم البراجماتية و مصالحهم في الخارج، كما أن طبيعة القوة تغيرت في عالمنا المعاصر، فباتت تنطوي على أبعادٍ مادية و معنوية، بل إن استخدام القوة المادية لتحقيق أغراض جيوسياسية يواجه قيوداً دولية. فليس مفارقة نشوء احتجاجات عالمية و تحركات حقوقية و قانونية لإيقاف حرب غزة و محاكمة قادة إسرائيل على جرائم الإبادة كي لا يتحول العالم إلى “غابة” تنهار فيها القيم و القوانين و المؤسسات الدولية.
إن حالة عَمَى البصيرة، كطريقة تفكير و سلوكيات في المجال السياسي، تستدعي محاولة فهم و تفسير أبعادها و تجلياتها في إنتاج خطابات و سياسات “عَمْياء” في إدارة الأزمات و الصراعات حول العالم. صحيح أن تلك الحالة تنطوي على مدلولات واسعة بسبب أبعادها المتعددة (النفسية و المعرفية و السلوكية و السياقية)، مع ذلك، فقد تكون أحد العوامل المفسرة لنشوب الأزمات و الصراعات أو تفاقمها بدلاً من احتوائها أو الحد من آثارها.
العَمَى في السياسة.. مقصود و غير مقصود
تقترن لفظة العَمَى بالبصيرة، كي ينصرف الذهن إلى مناقشة عدم إدراك المرء الصواب و الحقائق و ليس الإعاقة البصرية للأعين، و هي حالة لاقت اهتماماً واسعاً في الأديان السماوية و الفلسفات الإنسانية التي تنظر لها، كانغلاق للقلوب و العقول يحجب عن البشر القدرة على التمييز بين الخير و الشر أو الإيمان و الضلال أو امتلاك الحكمة اللازمة للرؤية المستقبلية.
انتقل معنى عَمَى البصيرة إلى العلوم الإنسانية ليأخذ معانٍ متعددة، تارة قد يرادف الجهل المعرفي أو الاستراتيجي للأفراد أو المؤسسات. تارة ثانية قد يرتبط بسوء التفكير و الإدراك للذات أو الآخرين أو الواقع، تارة ثالثة قد يتعلق بالسلوكيات المنحازة، تارة رابعة قد يتصل بعدم القدرة على توقع الأحداث القادمة. تلك المعاني تشتبك مع تفاعلات الظواهر السياسية ليعبر عَمَى البصيرة عن تجاهل أو تغافل الفاعلين السياسيين (أفراد، جماعات، مؤسسات، دول) عن الحقائق أو القيم أو الحقوق أو موضوعات بعينها مطروحة في الحاضر أو متوقعة في المستقبل أثناء عملية صنع و اتخاذ القرارات و السياسات.
يعبر هذا التغافل عن ما تسميه الأدبيات النقاط العَمْياء (Blind spots)، أي المناطق المظلمة التي لا نتمكن من رؤيتها بسبب تحيزات ضمنية أو صريحة في التفكير أو التعامل مع الواقع، بما قد يقود إلى استجابات أو سياسات تنطوي على الانحياز أو عدم المساواة أو الأنانية أو إهمال دروس الماضي أو عدم الموازنة بين الحاضر و المستقبل. قد تطول تلك السياسات العمياء مجالات عديدة، كالسياسة الخارجية، الديمقراطية، الاقتصاد، المناخ، التكنولوجيا، الصراعات، النظريات السياسية، مؤسسات الأعمال، البيروقراطية، و غيرها، و هو ما جعل فكرة عَمَى البصيرة تُستخدم على نطاق واسع للتعبير عن اختلالات الرؤية أو السياسات أو السلوكيات السياسية.[2]
إلا أن دراسات علم النفس أعطت أبعاداً أكثر عمقاً لفهم ديناميات ظاهرة العمى كفقدان للبصيرة لا البصر في المجال السياسي، حيث فرّقت بين نمطين رئيسيين، أحدهما، العَمَى المقصود Willful Blindness، و الآخر العَمَى غير المقصود Inattentional Blindness، و يمكن توضيحهما على النحو الآتي:
أولاً: العَمَى المقصود: لا يتعلق هذا النمط من العَمَى بغياب المعلومات أو الحقائق أو إدراك أن سلوكاً ما منحاز أو يتنافى مع القيم و المعايير أو حتى وجود تنبؤات حول المستقبل، فقد يكون كل ذلك متاحاً و مدركاً، لكن يتم تجاهله أو التقليل من أهميته “عمداً”، أي يتوافر لدى المرء النية و الوعي و الإرادة لتجنب رؤية أمور دون أخرى.[3]
يشيع هذا النمط السلوكي لدى الأفراد، فقد يرون ظلماً أو انتهاكاً لأنفسهم أو للآخرين أو تحذيرات مما هو قادم، لكنهم يتعامون عنها عن قصد، خشية الدخول في صراعات أو تلقي صدمات، أو تجنب الحرج، أو السعي إلى الحياد، أو الحفاظ على مصالحهم الذاتية أو التنصل من المسئولية. و مع أن تلك الممارسات الفردية تشكل جزءاً اعتيادياً في التفاعلات اليومية المجتمعية، لكن تراكمها و امتدادها من أحداث يومية إلى قضايا كبرى قد يشكل العَمَى الجماعي المقصود بما يحمله من مخاطر على الدول و المجتمعات.
قد يتحول نمط العَمَى المقصود في المجال السياسي إلى نهج للقادة أو المؤسسات أو الحكومات لعدم الشفافية أو التجهيل العمدي للرأي العام الداخلي أو الخارجي، من خلال حجب المعلومات عن قضايا معينة، كإخفاء الحكومات اتفاقات سياسية تنطوي على تنازلات للدول الأخرى لتجنب اللوم و المحاسبة. كما قد يظهر في الانحياز الواعي لطرف سياسي على حساب آخر أو تهميش مخاطر محدقة على الرغم من وجود مؤشرات عليها، أو التركيز على سياسات ضيقة الأفق تستنزف موارد الحاضر على حساب المستقبل، كالتعامل غير المستدام مع الموارد الطبيعية، أو تحميل الدول بأعباء اقتصادية مثل الديون يدفع ثمنها الأجيال القادمة.[4]
يعزو بعض الدراسات العَمَى المقصود إلى عوامل معرفية و نفسية و اجتماعية، حيث قد يصاب الأفراد أو المسئولون في الحكومات و الشركات على حدٍ سواء بالغرور و الغطرسة أو الإيمان بأفكار كبرى تجعلهم يتعمدون رفض الحقائق المتاحة التي لا تتسق مع تصوراتهم حول العالم، كما قد ينظرون إلى العلاقات المؤسسية و التنظيمية على أنها جزء من ذواتهم، من ثم يرفضون ما تطرحه من معرفة وبدائل ما لم تكن متوافقة مع رؤاهم، ناهيك عن معضلة الرغبة في التشابه و تفضيل التفكير الجماعي المتماثل الذي يُبقِي أولئك الأفراد أو المسئولين في الدائرة الآمنة و يجعلهم يرفضون أي حقائق غير مريحة قد تسبب لهم تنافراً معرفياً، بالتالي يصبح كل ما هو خارج تلك الدائرة نقاطاً عَمْياء لهم.[5]
ثانياً: العَمَى غير المقصود: يعني فشل المرء في إدراك أو رؤية شيء ما عن غير قصد لأن انتباهه أو تركيزه ينصب على شيء آخر، بالتالي، فهو لا يدرك عجز بصيرته. لاحظ علماء النفس تلك الحالة في سلوكيات الأفراد أثناء قيادة المركبات، فقد يعانون نقاطاً عَمْياء غير مقصودة قد تؤدي لحوادث مفاجئة، و ربطوها بعوامل متعددة كالقدرة الإنسانية المحدودة على الانتباه، أو التعرض للتشتيت الذهني أو كوسيلة للتعامل مع تعقيد المعلومات في موقف ما عبر التركيز على بعضها دون الآخر.[6]
غير أن العَمَى غير المقصود يعبر هو الآخر عن حالة اعتيادية عرفتها المجتمعات، فكل تقدم إنساني في حياة البشر قد ينطوي على نقاط مظلمة قد لا يتم الالتفات لها عن غير قصد، إلا بعد التنبيه اللاحق، كأدوات ثورة الاتصالات و التكنولوجيا مثل وسائل التواصل الاجتماعي و الذكاء الاصطناعي و غيرها، فمع انتشارها الواسع في العالم برزت معضلات كالخصوصية و البعد الأخلاقي و تدخلات الشركات التكنولوجية الكبرى في تقييد المحتوى الإلكتروني.[7]
ينتقل هذا النمط من العَمَى إلى المجال السياسي، عندما لا يرى الفاعلون السياسيون عن غير قصدٍ حقائق أو قيم أو قضايا أو تهديدات أو تناقضات سلوكياتهم أو تأثير سياساتهم الراهنة على المستقبل. يصبح هنا العَمَى نابعاً من تحيزات ضمنية، أي أن أولئك الفاعلين قد لا يسيطرون على تلك التحيزات بشكل واعٍ لكونها تشكلت عبر مخزون متراكم من الخبرات و المواقف و المشاعر، بما يجعل رد فعلهم تلقائياً إزاء المواقف و الأزمات[8]، و يترتب على ذلك عدم إدراك عَمَى السياسات إلا متأخراً، أي بعد وقوع الأزمة أو تفاقمها.
ينعكس العَمَى، سواء أكان مقصوداً أم غير مقصود، في دورة صنع و اتخاذ القرار في السياسات الداخلية أو الخارجية، فقد يكون هنالك تحيز انتقائي في تشخيص موقف أو أزمة مما يقيد نطاق التحليلات و التقييمات، و من ثم قد يؤدي إلى اختلال أولويات التعامل، و إنتاج سياسات لا تتلائم مع الاستجابات المنطقية المفترضة للأزمة. و عندما لا تتعرض تلك السياسات العَمْياء إلى تعديل أو تغيير، بفعل ضعف أو غياب آليات المراجعة و المحاسبة أو ارتباطها بشبكات مصالح أو تحالفات سياسية، فقد يتحول العَمَى إلى مسار متكرر في عملية صنع و اتخاذ القرار في الأزمات المختلفة، خاصة إن لم يكن هنالك ضغوطات من المتضررين منه.
مع أهمية التفرقة العامة في الأدبيات بين نمطي العَمَى المقصود و غير المقصود، لكنها تثير عدة إشكاليات و ملاحظات لفهم طريقة تأثيرهما في الواقع السياسي، منها:
1- إن العَمَى المقصود الذي يُقدم عليه المرء بوعي، قد يتضمن أيضاً في دينامياته جانباً من العَمَى غير المقصود، فالتصرف بوعي لرفض رؤية أمور أو الانحياز لشيء دون آخر ليس معزولاً عن السياقات التي تخلق تحيزات ضمنية، فالتنشئة السياسية و الخلفيات الأيديولوجية و الثقافة المؤسسية للقادة و المسئولين تلعب دوراً مؤثراً في بناء تصوراتهم و سياساتهم و قناعتهم بصحتها، حتى لو ثبت تجاهلهم عمداً لمعلومات أو بدائل. يعني ذلك أن العَمَى المقصود و غير المقصود قد يحضران بدرجات متفاوتة في طريقة التعامل مع الأزمات.
على سبيل المثال، فعلى الرغم من وجود إنذارات مبكرة على الأزمة المالية العالمية في 2008، بسبب تنامي أزمة مشتقات الرهن العقاري و تهافت البنوك على منح قروض عالية المخاطر، إلا أنه تم غض الطرف عليها من المسئولين و الخبراء الماليين، حتى تفجرت الأزمة، و هو ما أرجعه البعض إلى عوامل متداخلة تجمع بين إيمانهم بأفكار كبرى حول قدرة نموذج السوق الرأسمالي على تصحيح ذاته، إضافة إلى وقوعهم في فخ التفكير الجماعي المتماثل في الأزمات بسبب تشابه الخلفيات المهنية و الفكرية للمسئولين على إدارة السياسات المالية.[9]
2- إن الحكم على طريقة تفكير أو سلوك ما بأنه أعمى البصيرة عن قصد يتطلب دليلاً بأن هنالك تجاهلاً “عمدياً” من قبل صناع القرار و السياسات لمعلومة أو حقيقة أو بديل كان مطروحاً أو متاحاً لمنع أزمة أو الحد من تفاقمها، و لم يتم الإقدام على معرفته. لذلك، تعمد بعض الدول إلى إنشاء لجان تحقيق لمعرفة ما إذا كان هنالك سلوكيات مقصودة أم غير مقصودة من قبل صناع القرار في تجاهل معلومات أو حقائق بما قاد إلى الأزمات و ذلك لضمان المحاسبة و تحديد المسئولية السياسية و المؤسسية، فضلاً عن عدم تكرار الأخطاء مثل، لجنة التحقيق في أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة.
3- يثير العَمَى غير المقصود جدالاً عند ارتباطه بالعامل القيمي و الأخلاقي، فالقادة و المسئولون قد يتخذون قرارات غير أخلاقية لكنهم قد يكونون مقتنعين بأنهم يفعلون الصواب، أي لا يرون أنهم مخطئون إلا لاحقاً. ارتبط هذا المعنى بمفهوم “تفاهة الشر” لحنا أرندت، أي أن من يقوم بفعل الشر لم يكن شريراً بطبيعته أو لا يقصد ذلك بسبب الجهل. ربطت أرندت مفهومها بحالة أدولف إيخمان، أحد كبار القادة في النظام النازي الألماني المتهم بارتكاب جرائم حرب بسبب مسئوليته عن معسكرات الاعتقال في الحرب العالمية الثانية. فإيخمان اعترف بمسئوليته عن الاعتقالات، لكنه قال إنه كان ينفذ أوامر هتلر، و لم يقصد ذلك، أي أنه كان بيروقراطياً عادياً يلتزم بتعليمات رؤسائه من وجهة نظر أرندت، لكن آخرين رفضوا ذلك، معتبرين أن إيخمان، الذي أعدم لاحقاً بعد اختطافه و محاكمته في إسرائيل، كان محملاً بأيديولوجية نازية، أي أنه لم يكن أعمى عن جهل.[10]
4- إن عَمَى البصيرة يصبح أكثر خطورة و ترسيخاً في المجال السياسي، عندما لا يتعلق فقط بالقادة و إنما أيضاً بالنخب و الهياكل المؤسسية و الدعم المجتمعي، أي يصبح هنالك عَمَى متطابق المستويات، يتضح ذلك الأمر في ظاهرة العنف ضد الآخر دون تمييز في مناطق الصراعات و الحروب، فانتهاج القادة و النخب للعنف كسياسة ممنهجة مدعومة من المؤسسات و لديها تأييد من شرائح مجتمعية يؤدي إلى تجذره في الوعي العام، حيث ينظر حينها إلى إيذاء أو انتهاك حقوق الآخرين على أنه ليس اقترافاً لخطأ. هنا، فإن السياقات الاستقطابية في الصراعات قد تخلق معنى و معايير الصواب و الخطأ، و هو ما قد يفسر انخرط الناس العاديين في دعم أو ممارسة القتل الجماعي في الصراعات المسلحة دون استشعار للذنب في وقت الأزمة، على غرار حالة الابادة الجماعية في رواندا في تسعينيات القرن العشرين.
السياسات العَمْياء.. الانحياز و الأنانية و الإنكار
تتجلى ظاهرة العَمَى في إنتاج الفاعلين السياسيين لخطابات أو سياسات عَمْياء قد تتسم إما بالانحياز أو الأنانية أو الإنكار أو الإقصاء أو التهميش للآخر أو عدم القدرة على التفكير في عواقب سياسات الحاضر على المستقبل. و يمكن استكشاف نماذج من تلك السياسات، على سبيل المثال لا الحصر، في ديناميات بعض الأزمات في العالم و الإقليم، و ذلك على النحو الآتي:
أولاً: سياسات الانحياز: أي أن الفاعل السياسي قد ينتهج سياسة تتسم بعدم الحياد عند التعامل مع أزمة أو قضية ما، بفعل وجود موقف أو حكم مسبق له. تبرز في هذا الصدد حالة السياسة الأمريكية في المنطقة، و التي تنطلق من تشخيص منحاز للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني سواء أكان يحكمها إدارات جمهورية أم ديمقراطية، و هو تشخيص مدعوم بعوامل متداخلة تجمع بين التاريخ و الأيديولوجيا و شبكات مصالح داخلية (اللوبي اليهودي) أو خارجية في الشرق الأوسط (أمن إسرائيل، النفط، مكافحة الإرهاب، مواجهة نفوذ روسيا و الصين).
قد يكون هنالك اختلاف في درجات الانحياز و أدوات تلك الإدارات الأمريكية، من حيث تشدد الجمهوريين (اعتراف ترامب بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل في عام 2017) مقارنة بمرونة الديمقراطيين (التركيز على خطاب حل الدولتين دون إجراءات فعالة)، إلا أنها تتفق على إيلاء أهمية أكبر للمطالب الإسرائيلية مقارنة بالفلسطينية و تجاهل تفاوت القوة بين الجانبين، كما تغفل أن القضية الفلسطينية تتعلق باحتلال إسرائيلي لأرضٍ عربية يستدعي حق المقاومة إلى أن تتحقق للفلسطينيين دولتهم المستقلة. يقود ذلك إلى سلسلة من الانحيازات الأمريكية في التقييم و الأولويات و القرارات الداعمة معنوياً و مادياً بالمساعدات و السلاح لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، و الصامتة على جرائمها كما في حرب غزة الأخيرة، و المنكرة على الفلسطينيين حقهم في تحرير أراضيهم من الاحتلال بالقوة.
اللافت أن تلك السياسات المنحازة تنعكس على رؤية واشنطن لتهديدات أخرى بالمنطقة في مسار يعبر عن عَمَى متصل، مثل، التعامل مع أزمة الملاحة الأخيرة في البحر الأحمر التي نتجت عن مهاجمة جماعة الحوثيين في اليمن للسفن المارة بالمنطقة بهدف دعم الفلسطينيين في حرب غزة حسب تصريحات قادتها. فعلى الرغم من أن إيقاف تلك الحرب كان كفيلاً بإيقاف هجمات الحوثيين و استعادة الاستقرار في البحر الأحمر، إلا أن الانحياز الأمريكي بل و الأوربي لإسرائيل، فضلاً عن مساعيهما لعسكرة الممرات الملاحية لمواجهة نفود روسيا و الصين، دفع صناع القرار في الغرب إلى التشخيص الانتقائي المتحيز للأزمة، حيث تم قصر سبب تهديدات الملاحة على جماعة الحوثيين.
تبع هذا التشخيص القاصر سياسات غير فعالة، كتدشين تحالف عسكري أمريكي هجومي (حارس الازدهار) في ديسمبر 2023، و آخر أوربي دفاعي (قوة إسبيدس) في فبراير 2024 في منطقة البحر الأحمر، لكن أياً منهما لم ينجح في تقليص تهديد الحوثيين، بل تفاقمت الأضرار على حركة الملاحة في المنطقة، برغم التحذيرات المسبقة التي طرحتها العديد من التحليلات حول صعوبة ردع الحوثيين عسكرياً، فضلاً عن إغفال خبرات دول المنطقة في التعامل مع الحوثيين، فلم ينجح التحالف العربي بقيادة السعودية في هزيمتهم على مدار تسع سنوات من الحرب، مما قد يفسر رفض بعض دول المنطقة الانخراط في التحالفات الغربية في البحر الأحمر، و يعكس في الوقت نفسه تراجعاً للقيادة الأمريكية في المنطقة.[11]
ثانياً: سياسات الأنانية: أي ينزع الفاعل السياسي إلى تفضيل مصالحه أو الاستعلاء أو عدم التفكير فيما قد يصيب الآخرين من أضرار جراء سلوكياته. ترد هنا الأنانية (Selfishness)، كمعنى مضاد للإيثار الذي يتضمن مشاعر و قيم وسلوكيات تحمل نوعاً من التعاطف و التضامن و الدعم و المنافع للآخرين. قد يظهر أحد أوجه الأنانية السياسية في منطق السياسات الأوروبية في الإزاحة أو الإبعاد الجيوسياسي لمخاطر اللجوء و الهجرة لتخفيف العبء عليها، حتى لو تضمن ذلك انتهاكاً للقيم و المعايير الإنسانية الدولية أو زيادة المخاطر على دول أخرى أو تحويل قضية إنسانية إلى ساحة للمساومات الاقتصادية بين الدول على حساب حقوق البشر.
برز ذلك الأمر في اتفاقات الحد من تدفق الهجرة و اللجوء مقابل مساعدات مالية، كما الاتفاق الأوروبي مع تركيا في 2016[12] الذي خفّض بالفعل تدفقات المهاجرين غير النظاميين إلى دول أوروبا لكنه خلّف بالمقابل انتهاكات لحقوقهم، كما جرى في نقاط تجمعهم على الحدود اليونانية-التركية. تظهر أيضاً حالة الأنانية في خطة الترحيل القسري لطالبي اللجوء إلى دول أخرى مثل، القانون البريطاني، الذي صدر في إبريل الماضي و يتيح ترحيلهم إلى رواندا، برغم أن المحكمة البريطانية العليا اعتبرت هذا الترحيل مخالفاً للاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، و كان إلغاء تلك الخطة أول قرار لكير ستارمر زعيم حزب العمال اليساري بعد فوزه في الانتخابات البريطانية في يوليو 2024.[13]
صحيح أن الأنانية الأوروبية في ملف اللاجئين تعبر عن مصالح دول و تغيرات مجتمعية و هوياتية و صعود لليمين المتطرف و نظرة استعلائية تاريخية إزاء دول الجنوب بفعل تفاوت توازنات القوى. مع ذلك، فإنها تتناقض مع المنظور القيمي الإنساني و المعياري الذي لطالما روجت له أوروبا عن نفسها، كقوة معيارية في السياسة العالمية. أضف لذلك، أن إزاحة تهديدات الهجرة من أوروبا إلى دول في أفريقيا مقابل مساعدات مالية قد لا يضمن تحول تلك المساعدات إلى واقع تنموي مزدهر يحد من تدفقات الهجرة بسبب تعثر التنمية في بعض الدول الأفريقية بفعل سياسات الفساد و ضعف آليات المحاسبة. من جانب آخر، تعمق الإزاحة الجيوسياسية للاجئين أزمة تراجع النفود الجيوسياسي الأوروبي عالمياً، على نحو يبرز في بعض دول الساحل الأفريقي التي تفقد الثقة في القوى الأوروبية كفرنسا مقابل تزايد ميلها الجيوسياسي لقوى غير غربية، كروسيا و الصين.[14]
ثالثاً: سياسات الإنكار: أي رفض الفاعلين السياسيين الاعتراف بالحقائق أو عدم الإقرار بفشل سياسة ما أو تجاهل مطالب و حقوق أطراف سياسية و رفض استيعابها. تربط بعض الدراسات حالة الإنكار السياسي كأحد مظاهر العَمَى السياسي بمأزق سوء الإدراك الذي ينشأ لدى أولئك الفاعلين، بمعنى وجود فجوة بين تصوراتهم و الواقع أو انحراف عن النموذج العقلاني في التعامل مع المعلومات[15] قد يقود القادة أو النخب أو المؤسسات إلى إدراك مشوه أو متأخر للواقع.
يذكر الكثيرون في منطقتنا العربية حالة الإنكار التي قادت إلى إدراك متأخر للأزمة، في الكلمة الشهيرة للرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي للمحتجين المطالبين برحيله في ثورة تونس في يناير 2011: “فهمتكم جميعاً”، حيث سبق تلك الثورة التي امتدت لدول أخرى بالمنطقة تجاهل التحذيرات من أن الهيمنة على السلطة لفترات طويلة و تعطل الإصلاح السياسي و تزايد التفاوتات الاقتصادية-الاجتماعية و مركزية النموذج التنموي على حساب تهميش الأطراف قد يقود في وقت ما إلى تفجر أزمات كبرى.
يستخدم هنا فؤاد السعيد سوء الإدراك للذات أو المتبادل بين الفاعلين السياسيين أو ما سماه العَمَى الإدراكي كمدخل لتفسير تعثر المراحل الانتقالية للثورات خاصة مع تغافل الفاعلين السياسيين عن اختلاف السياقات السياسية و الثقافية و المجتمعية بين منطقتنا و تجارب الانتقال السياسي في شرق أوروبا، ناهيك عن تجاهل أهمية الدور الدولي أو الإقليمي في دعم الثورات من عدمه. و طرح السعيد أسباباً لهذا العَمَى من قبيل: خطأ القياس على نموذج سابق، التضارب الإدراكي بين القوى الثورية و الدولة، خطأ الاحتكام للمنطق الصوري، تثبيت الصور الذهنية على الأحداث.[16]
لم تتعرض حالة سوء الإدراك المولدة للإنكار السياسي إلى إصلاح أو حتى تم أخذ درس تعثر الانتقال السياسي، كعبرة لدى الفرقاء السياسيين في منطقتنا، كي يتم الحد من حالة العَمَى السياسي لديهم، بل على العكس تفاقم الأمر أكثر بعد تحول الثورات في بعض الدول سواء في موجتها الأولى أو الثانية إلى صراعات مسلحة، على غرار ليبيا و سوريا و اليمن و السودان. إذ فشلت الأطراف المتنازعة في التوصل إلى تسوية سلمية بفعل عدم استيعاب مطالب كل طرف للآخر أو ممارسة سياسات الاستقطاب و الإقصاء، ناهيك عن الانكشاف الداخلي لدول المنطقة للتدخلات الخارجية.
مُحفِّزات العَمَى.. القادة و الأنظمة و المجتمعات
ثمة مُحفِّزات متعددة لنشوء ظاهرة عَمَى السياسات في إدارة الأزمات الداخلية أو الخارجية، و هي تنبع بالأساس من العوامل المسئولة عن عملية صنع القرار أو ردود فعل المتأثرين به، و التي تتراوح ما بين القادة السياسيين و الأنظمة السياسية و العلاقات المؤسسية و طبيعة الأزمات و السياقات المجتمعية. مع ذلك، يكتسب عامل القيادة السياسية وزناً نسبياً أكبر بحكم تصاعد أدواره على حساب المؤسسات في صنع و اتخاذ القرار سواء في سياقات الأنظمة الديمقراطية أو التسلطية، و إن كان بدرجات متفاوتة بفعل اختلاف آليات المراجعة السياسية و المجتمعية، و يمكن توضيح ذلك كالآتي:
أولاً: القادة السياسيون: يلعب القادة دوراً أساسياً في إنتاج سياسات عَمْياء، وفقاً لعدة محددات منها: سماتهم الشخصية، طريقة توليهم السلطة (ثورة، انقلاب، انتخابات)، طبيعة نظام الحكم (رئاسي، برلماني)، حدود صلاحياتهم و علاقاتهم بالمؤسسات، ردود فعل المجتمعات. و على الرغم من وجود أنماط عديدة للقادة طرحتها الأدبيات، إلا أن هنالك نمطين حديين على طرفي النقيض أحدهما القادة المرنين و الآخر القادة غير المرنين، و بينهما توجد درجات متفاوتة. تتسم إجمالاً القيادة المرنة بالانفتاح و الاستيعاب و التعديل و التكيف و تعبئة الموارد المؤسسية و الاجتماعية في القضايا و الأزمات، و هو نمط يسميه البعض “القيادة التحويلية”، على غرار شخصية “غاندي”، بينما على العكس، هنالك قيادات غير مرنة تنزع إلى استخدام القوة لفرض تصوراتها على الأتباع و إخضاعهم أو إجبارهم على الامتثال السياسي، على غرار جوزيف ستالين.[17]
قد ترتبط فرص ظهور سياسات عَمْياء أكثر بالقيادات غير المرنة، كونها تعاني جموداً أو تصلباً إدراكياً، أي ترفض تغيير أو تعديل تصوراتها و معتقداتها بغض النظر عن التغييرات المحيطة، و يتفاقم الأمر إن كانت تملك سمات الشخصية النرجسية، أي النزوع لتضخيم الذات، الأنانية، توهم العظمة و المعرفة، ازدراء وجهات نظر الآخرين، تبني خطابات المؤامرة و سرديات تبرئة الذات للتنصل من المسئولية عند الفشل في مجابهة الأزمات.
تشير بعض الأدبيات إلى أن العزلة النفسية و الاجتماعية لممارسة السلطة و الاستمرار فيها لوقت طويل قد تحفز على عدم مرونة القادة، حيث تخلق لديهم ثقة مفرطة و استحقاقاً ذاتياً يجعلهم يعتبرون تصوراتهم و سلوكياتهم عادلة و أخلاقية، حتى لو لم يراها الآخرون كذلك. كما قد يتحيزون أكثر لخياراتهم أو المعلومات و الحقائق، و لا يستوعبون وجهات النظر المتعارضة التي تنشأ إثر تعقيدات الأزمات، ناهيك عن الميل إلى الحدس الشخصي للتعامل مع الأزمات، مما يقودهم إلى تجاهل الأضرار الناجمة عن سياساتهم على المجتمعات.[18]
لا تولي أيضاً القيادات غير المرنة الثقة سوى للمعلومات و الحقائق و الآراء المتدفقة حول الأزمات من الدائرة الآمنة المحيطة بهم من المسئولين أو المستشارين الأكثر ولاءً لهم، و الذين قد يمارسون تملقاً أو مجاراة لتوجهات أولئك القادة لإرضائهم، بما يخفض كفاءة صنع و اتخاذ القرار. و عرفت السياسة العالمية هذا النمط من القيادات في سماته القصوى المتطرفة، كهتلر و موسوليني في الحرب العالمية الثانية، أو قادة أفارقة بعد الاستقلال، كعيدي أمين في أوغندا و جان بيدل بوكاسا في أفريقيا الوسطى و غيرهم.[19] غير أنه من المهم إدراك أن هنالك اختلافات في درجات و سمات عدم مرونة القادة، وفقاً للخلفيات الفكرية و الخبرات و السياقات السياسية و الزمنية و المؤسسية، و الأهم أن القادة غير المرنين قد يكون لهم قابلية أكبر للظهور في النظم التسلطية من الديمقراطية، بفعل عدم تداول السلطة و ضعف قوى المراجعة و الرقابة المؤسسية أو الإعلامية.
ثانياً: الأنظمة و المؤسسات: مع أن فرص ظهور السياسات العَمْياء أكبر في سياقات الأنظمة التسلطية مقارنة بالديمقراطية، إلا أن هذا الافتراض على وجاهته و شواهده لا يمكن تعميمه، خاصة مع تطور طبيعة الأنظمة التسلطية، من حيث مدى انفتاح أو انغلاق القيادات أو درجات التماهي بين القيادة و النظام و الدولة أو السياقات المؤسسية أو الثقافات المجتمعية.
قد تكون هنالك أنظمة تسلطية، لكن بنيتها الداخلية تسمح بقدر ما من المرونة السياسية التي تحد من السياسات العَمْياء. يعزو البعض ذلك إلى أن انتشار الرأسمالية عالمياً لم يرافقه تلازم بين سياسات السوق و الديمقراطية، حيث برزت نماذج لأنظمة تسلطية، كالصين تنتهج سياسات رأسمالية دون قاعدة ديمقراطية بالمنظور الغربي[20]، مع ذلك تملك آليات لمراجعة السياسات في إطار نخبوي مؤسسي داخل الحزب الشيوعي الحاكم.
تظهر تلك المرونة في مثالين للسياسات الصينية، أحدهما، التراجع عن سياسة الطفل الواحد التي أدت إلى تقليل النمو السكاني بحوالي 400 مليون نسمة، و أسهمت نسبياً في النمو الاقتصادي الصيني، إلا أنه تم التراجع عنها، عندما برزت آثارها السلبية على صعيد تباطؤ النمو الاقتصادي، و الاختلال الديمغرافي الاجتماعي، و زيادة شرائح كبار السن و غيرها. أما الحالة الأخرى، فتتعلق بتراجع سياسات الإقراض السيادي الصيني إلى أقل من مليار دولار في عام 2022، ليسجل أدنى معدل له مند عقدين، بعدما تفاقمت أزمة الديون للدول الأفريقية بسبب عدم قدرة بعضها على السداد، فضلاً عن تباطؤ النمو الصيني.[21]
من جانب آخر، تلعب المؤسسات البيروقراطية في الأنظمة السياسية دوراً مؤثراً في التحفيز على السياسات العَمْياء بفعل طريقة معالجة المعلومات، فمع تعدد الأجهزة و وظائفها المتخصصة قد ينشأ إدراك انتقائي للمخاطر، أي أن كل مؤسسة تدرك المعلومات حول الأزمات و القضايا من منظورها الوظيفي الضيق، أو منافستها مع المؤسسات الأخرى، و إذا رافق ذلك عدم تنسيق مؤسسي فقد يقود إلى تشوش في رؤية الخطر و عدم القدرة على توقع أزمات مفاجئة.[22]
المثال الأبرز في هذا الإطار هو فشل الولايات المتحدة في توقع أحداث 11 سبتمبر 2011. فبسبب إرث الحرب الباردة، كان هنالك تركيز أكبر للمؤسسات الأمنية على تهديدات الدول الفاشلة مقارنة بالفواعل المسلحة دون الدول كتنظيم القاعدة، برغم أن الأخير كان قد هاجم سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي و دار السلام في عام 1998. عزز ذلك العَمَى ضعف التنسيق و التنافس بين وكالات الأمن و الاستخبارات الأمريكية، مما خلق نقاطاً عَمْياء في رؤية تهديدات الأمن الأمريكي.[23]
قد يسهم العَمَى المؤسسي أيضاً في تضليل القادة و دفعهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة حتى في سياقات الأنظمة الديمقراطية، يشير البعض هنا إلى تعليق الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش بأن العراقيين لا يهتفون لقوات التحالف الدولي أثناء غزو العراق عام 2003. تجسد دهشة بوش حالة قصور المؤسسات في تقييم عراق ما قبل الحرب، حيث توقعت الاستقرار و الدعم المجتمعي بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، و هو ما لم يحدث من بعض شرائح المجتمع بعد الغزو، حيث شهد هذا البلد انقسامات طائفية و تصاعداً لتنظيمات الإرهاب، و المليشيات المسلحة. يضاف إلى ذلك، تزييف المؤسسات الأمريكية الأدلة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل لتبرير سردية الغزو.[24]
ثالثاً: طبيعة الأزمات: أي أن طبيعة الأزمات قد تشكل مُحفِّزاً للعَمَى كونها مواقف طارئة و ضاغطة تستحضر معها اللايقين و الإرباك المعلوماتي و ضيق الوقت لاتخاذ قرار سريع و فعال، بما يشكل ضغطاً نفسياً و معرفياً و سياسياً على صناع القرار و السياسات. يتوقف حدوث العَمَى في التعامل مع الأزمات على محددات عدة، كحدة الأزمة و تعقدها و مدى ارتباطها بشرعية القادة و النظام، طريقة استقبال و معالجة المعلومات المتاحة عنها، مدى القدرة المؤسسية على توقعها، طبيعة إدراك الخطر و تقييمه في نطاق الموارد المتاحة، تأثير التحالفات و شبكات مصالح في قرارات الأزمة.
في ظل كثرة المتغيرات الحاكمة للأزمات و تشابكها، قد ينخفض الحمل الإدراكي و المعرفي لصناع القرار و السياسات في التعامل مع المعلومات المتدفقة حول الأزمات، بما يجعلهم يغضون الطرف عن نقص المعلومات، و يبحثون عن حلول سريعة مقبولة، كما قد يتولد لديهم انتباه متحيز، بحيث يركزون أكثر على الأزمة، دون إدراك التغييرات المحيطة بها.[25]
تتفاقم أكثر سياسات العَمَى في الأزمات إن كان هنالك قبلها فترات استقرار طويلة تُصعِّب توقع حدوثها أو اعتبارها غير محتملة، بما قد يضعف من التعامل الجاد مع الإشارات الصغيرة المبكرة التي قد تسبق نشوب الأزمات (قرارات أو سياسات خاطئة في قضية معينة أو حوادث فردية تثير غضب المجتمع)، و هو نمط عرفه بعض دول المنطقة العربية، ففترات الاستقرار قبل ثورات 2011 صعَّبت توقع تحول الإشارات الصغيرة إلى أزمات كبرى، كواقعة إحراق الشاب بوعزيزي في تونس لنفسه احتجاجاً على مصادرة عربته لبيع الخضار، و التي قادت إلى غضب اجتماعي فجر ثورة حينها.
دفع ذلك دراسات عديدة حينها إلى محاولة تفسير العلاقات غير الخطية أو عدم التناسب بين مدخلات الإشارات الصغيرة ومخرجات الأزمات الكبيرة، من خلال نظريات الفوضى أو أثر الفراشة أو البجعة السوداء. و بدت هنالك شروط متزامنة قد تنقل أثر الإشارات الصغيرة من المستوى الجزئي إلى الكلي، مثل القابلية المجتمعية بسبب مشكلات هيكلية مزمنة، انتشار الغضب الكامن، جمود القادة و تأخرهم الإدراكي، ارتباك المؤسسات، نخب قادرة على الحشد[26]
في كينيا، اشتعلت الاحتجاجات الشعبية في يونيو 2024 إثر إشارة صغيرة تمثلت في رفض مشروع قانون يفرض ضرائب جديدة على المجتمع، و بالفعل سحبه الرئيس ويليام روتو، لكن الأزمة لم تتوقف، حيث اتسعت إلى مطالبات باستقالة الرئيس لإخفاقه بوعوده في تحسين أحوال المعيشة، فضلاً عن تفاقم أزمة الدين الخارجي التي دفعت الحكومة، تحت وطأة برنامج الإصلاح الاقتصادي، إلى فرض الضرائب و تقليل الإعانات الاجتماعية. أي أن أزمة مشروع القانون كشفت عن معضلات اقتصادية و اجتماعية هيكلية التقطتها نخب شبابية خارج الأحزاب التقليدية لترفع سقف المطالب بالتغيير السياسي[27]. مع ذلك، فإن دولاً أخرى عرفت إشارات صغيرة مشابهة، لكن لم تتطور إلى أزمات كبرى بفعل عوامل و سياقات كابحة، كالتنبه المبكر أو الاستيعاب الإصلاحي أو ضعف البدائل أو الخوف من الفوضى.
رابعاً: السياق المجتمعي: لا يمكن فصل السياسات العَمْياء عن مدى قابلية و تأييد بعض الشرائح المجتمعية لها، لأن ذلك يمنحها شرعية سياسية. على سبيل المثال، فإن سياسات أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا التي تتسم بالانحياز ضد المهاجرين و رفض مشروعات التعاون الجماعي، و سياسات المناخ يراها البعض عَمْياء لكونها تطرح مشكلات لا حلول بما قد يؤدي إلى آثار وخيمة، و يتم التدليل على ذلك بحالة دفع الحركات الشعبوية و اليمين المتطرف بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي (البريكسيت)، إلا أن هذا الخروج أعقبه آثار اقتصادية سلبية.[28]
تتلقى سياسات اليمين المتطرف في أوروبا دعماً من شرائح اجتماعية مدفوعة بصعود القومية و التراجع الاقتصادي، و تحميل المجتمعات أعباء التحول الأخضر و تزايد الانفاق العسكري إثر حرب أوكرانيا و فشل النخب التكنوقراطية و الأحزاب التقليدية في إدارة الأزمات. انعكس ذلك الدعم الاجتماعي في اتساع حصص الأحزاب اليمينية المتطرفة سواء في انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي الأخيرة أو بعض برلمانات الدول الأوربية.[29]
لكن من المهم ملاحظة أن سياسات أوروبا مع اليمين المتطرف لم تكن عَمْياء، حيث لم يتم إقصائه سياسياً و إنما استيعابه كتيار سياسي في سياق ديمقراطي لكبح تحوله إلى إرهاب يميني كان قد برزت عليه مؤشرات في بعض دول أوروبا خلال العقد الأخير. يعزز سياسة الاستيعاب تلك وجود قوى سياسية موازنة من اليسار و الوسط و الخضر في أوروبا منعت، على سبيل المثال، فوز اليمين المتطرف بالأغلبية في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة.
قد يخلق أيضاً انتشار أيديولوجيات الكراهية سلوكاً جماعياً في المجتمعات مُحفٍّزاً على سياسات العَمَى إزاء الآخر، فلا تنظر الاتجاهات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة إلى الفلسطينيين كبشر لهم حقوق. لذلك، ليس مفارقة أن يقول وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالنت بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 أنه سيفرض الحصار على غزة و أنه يحارب “حيوانات بشرية” و سيتصرف على هذا الأساس، و اعتبرت منظمات حقوقية مثل هكذا تصريحات دعوة لارتكاب جرائم حرب.[30]
لقي هذا الإدراك العام للقادة و النخب الإسرائيلية تأييداً من شرائح في المجتمع الإسرائيلي، مدفوعة بحالة الكراهية التي أعقبت هجوم حماس. من جانب آخر، لا يمكن فصل الوعي الجماعي في المجتمع الألماني، الذي لا يزال يشعر بعقدة الذنب التاريخي تجاه اليهود جراء الهولوكست، عن سياسة حكومته الداعمة لإسرائيل، برغم ما ترتكبه الأخيرة من جرائم ضد الفلسطينيين.[31]
مخاطر العَمَى.. تحفيز نشوب الأزمات و تعقيدها
قد تؤدي ظاهرة العَمَى في المجال السياسي إلى مخاطر عديدة، حيث قد تسهم في تحفيز نشوب الأزمات و الصراعات أو تعقيد تداعياتها. فمن جهة، فإن التجاهل الغربي للاحتياجات الأمنية الروسية المتعلقة بالمخاوف من توسع حلف الناتو في شرق أوروبا شكل أحد عوامل الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022. في المقابل، لم يبعد هذا الغزو المخاطر بل زادها، حيث لم تستطع موسكو إسقاط نظام كييف، كما توسع حلف الناتو ليضم فنلندا و السويد، ناهيك عن زيادة الإنفاق العسكري لدول أوروبا، بخلاف دعم أوكرانيا عسكرياً. من ثم، تعقدت الأزمة أكثر بين روسيا و الغرب، و أسفرت عن إنهاك متبادل للطرفين، بفعل سوء الإدراك المتبادل لاحتياجات و دوافع و قدرات كل منهما.[32]
من جهة ثانية، قد يقود التغافل عن دروس الماضي إلى إعادة الأخطاء نفسها، فسوابق الخبرة في الصراعات تشير إلى صعوبة القضاء على حركات مسلحة إذا كانت لديها مشروع أيديولوجي و حواضن مجتمعية مثل عودة طالبان للسلطة بعد عقدين من سقوطها إثر الانسحاب الأمريكي في أفغانستان في عام 2021. إلا أنه يتم غض الطرف عن ذلك الدرس، كما يظهر في تجاهل التصورات الغربية لليوم التالي بعد حرب غزة، تغلغل حركة حماس، على مدار 17 عاماً من حكمها لغزة، في الأبنية الهوياتية و الاجتماعية داخل القطاع أو عدم قدرة إسرائيل على الانتصار عليها بعد أكثر من تسعة أشهر من الحرب، حيث اعترفت تل أبيب بأن حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها[33]. و في ظل إضعاف إسرائيل للسلطة الفلسطينية و حصارها مالياً، و احتلال إسرائيل لممرات و أراضٍ في غزة، فضلاً عن تحفظ قوى إقليمية إزاء إرسال قوات إلى غزة لحفظ السلام حال توقف الحرب، ثمة مخاطر من أن تؤول تلك التصورات حول مستقبل قطاع غزة إلى حالة فراغ أمني خطر أو صراع أهلي أو احتلال إسرائيلي كامل.
من جهة ثالثة، قد تُخلِّف سياسات الانحياز آثاراً غير مقصودة، فالسياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل في حرب غزة أسهمت في تراجع الثقة في سياساتها لصالح منافسيها الجيوسياسيين الدوليين، حيث يشير أحد استطلاعات الرأي للبارومتر العربي في أواخر عام 2023 و مطلع 2024 إلى أن ما خسرته الولايات المتحدة من تدهور مكانتها في المنطقة بفعل تلك الحرب ربحته الصين. بل إن هنالك مخاوف من أن يمهد الانحياز الغربي لإسرائيل لبروز موجة إرهاب أو دورة جديدة من عدم استقرار بالمنطقة قد تستهدف مصالح الغرب و حلفائها.[34]
يظل في الأخير أن مكافحة ظاهرة العَمَى في المجال السياسي في التعامل مع الأزمات يرتبط بالأساس بقدرة القادة و النخب الحاكمة على تعزيز قيم و سلوكيات المرونة و الشفافية و تحسين كفاءة الأداء المؤسسي على صعيد معالجة المعلومات و القدرة التنبؤية، و الأهم وجود اتجاهات لمراجعة السياسات العَمْياء، فمن دونها قد تستمر دورة العَمَى بلا انقطاع في سياسات الدول إلى أن تنحدر الأزمات إلى منزلق اللاعودة.
[1] جوزيه ساراماجو، العمى، ترجمة محمد حبيب، دار المدى للثقافة والنشر، 2002، ص 379
[2] ثمة دراسات تتناول النقاط العمياء في مجالات مختلفة، منها:
Bach, T., Wegrich, K., How to Deal with the Blind Spots of Public Bureaucracies. In: Bach, T., Wegrich, K. (eds) The Blind Spots of Public Bureaucracy and the Politics of Non-Coordination. Executive Politics and Governance. Palgrave Macmillan, 2019. https://doi.org/10.1007/978-3-319-76672-0_12
Hall, D., On ‘blind spots’ in international political economy. Review of International Political Economy, 30(1), 2021. https://doi.org/10.1080/09692290.2021.2018016
[3] Bovensiepen, J., & Pelkmans, M., Dynamics of wilful blindness: An introduction. Critique of Anthropology, 40(4), 2020. https://doi.org/10.1177/0308275X20959432 [4] Bovensiepen, J., & Pelkmans, M., op.cit, the same link. [5] Margaret Heffernan Willful blindness: When a leader turns a blind eye,Ivey Business Journal Issues: May / June 2012.https://iveybusinessjournal.com/about/
[6] Matias, J., Belletier, C., Izaute, M., Lutz, M., & Silvert, L. , The role of perceptual and cognitive load on inattentional blindness: A systematic review and three meta-analyses. Quarterly Journal of Experimental Psychology, 75(10), 2022
https://doi.org/10.1177/17470218211064903
[7] جيرالد جونز، النقاط العمياء الأخلاقية، منصة معنى الثقافية، ترجمة علي رضا، يونيو 2020 https://mana.net/7467/
[8] Kanetake M., Blind Spots in International Law. Leiden Journal of International Law.;31(2) 2018 https://shorturl.at/vQLp6
[9] Bovensiepen, J., & Pelkmans, M., op.cit, the same link.
[10] حنا أرندت، إيخمان في القدس، تقرير حول تفاهة الشر، ترجمة نادرة السنوسي، تقديم د. محمد علي العبودي، دار الروافد الثقافية، 2014.
Høyer Toft, K.,Ethical Blindness and Business Legitimacy. In: Rendtorff, J.D. (eds) Handbook of Business Legitimacy. Springer, 2020
https://link.springer.com/referenceworkentry/10.1007/978-3-030-14622-1_33
[11] Alexandra Stark ,Don’t Bomb the Houthis Careful Diplomacy Can Stop the Attacks in the Red Sea, foreign affairs, January 11, 2024 https://www.foreignaffairs.com/africa/dont-bomb-houthisJean-Loup Samaan ,The Red Sea attacks highlight the erosion of US leadership in the region, atlantic council
,May 16, 2024 https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/red-sea-attacks-houthis-biden-administration-leadership/
[12] René Wildangel ,Wilful blindness: How the EU should revise its refugee deal with Turkey.
https://ecfr.eu/article/commentary_wilful_blindness_how_the_eu_should_revise_its_refugee_deal_with/
[13] حزب العمال يفي بوعده: في أول قرار له ستارمر يلغي خطة ترحيل اللاجئين إلى رواندا، يورونيوز، ٠٦/٠٧/٢٠٢٤
[14] Giles Merritt, Why Europe is losing Africa to Moscow and Beijing , 18 Jun 2024
https://www.friendsofeurope.org/insights/why-europe-is-losing-africa-to-moscow-and-beijing/
[15] د. داليا رشدي، سوء الإدراك في الصراعات و الأزمات.. إطار تحليلي، ملحق اتجاهات نظرية، مجلة السياسة الدولية، يناير 2016، ص 5- 11
[16] فؤاد السعيد، دور “العمى الإدراكي” في تفسير ارتباك الثورات العربية، اتجاهات نظرية، مجلة السياسة الدولية، يناير 2016، ص 52 – 29.
[17] Thomas Preston, Leadership and Foreign Policy Analysis
https://doi.org/10.1093/acrefore/9780190846626.013.255
[18] Hofmann, A. Overconfidence and Self-Blindness: Why We Think We Are Better Than We Actually Are. In: The Ten Commandments of Risk Leadership. Future of Business and Finance. Springer. 2022https://link.springer.com/chapter/10.1007/978-3-030-88797-1_8
[19] Manfred F.R. Kets de Vries Jennifer C. Sexton B. Parker Ellen III Destructive and Transformational Leadership in Africa June 2016Africa Journal of Management 2(2):1-22 June 2016https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/23322373.2016.1175267
[20] Kevork Oskanian , Out of Illusion, Weakness: Liberalism and Its Blind Spots , Dec 11 2018 https://www.e-ir.info/2018/12/11/out-of-illusion-weakness-liberalism-and-its-blind-spots/
[21] محمد المنشاوي، كيف أضرت سياسة إنجاب طفل واحد بالصين؟، الجزيرة.نت، فبراير 2023 https://shorturl.at/v2Aqx
الإقراض الصيني لأفريقيا عند أدنى مستوياته في عقدين، الجزيرة.نت، 19-9-2023
[22] Bach, T., Wegrich, K.. Blind Spots, Biased Attention, and the Politics of Non-coordination. In: Bach, T., Wegrich, K. (eds) The Blind Spots of Public Bureaucracy and the Politics of Non-Coordination, op.cit ,https://doi.org/10.1007/978-3-319-76672-0_1
[23] Idem.
[24] SCHUB R. Informing the Leader: Bureaucracies and International Crises. American Political Science Review.;116(4), 2022 https://shorturl.at/2AZ4x
[25] Yin Shi, Hong Li, How a crisis mindset activates implicit knowledge and brings it into awareness: The role of attentional switch cost,Consciousness and Cognition,Volume 82,
2020, https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S1053810019302296
[26] Khaled Hanafi Ali , Small sparks, big bangs , AHRAM WEEKLY Tuesday 15 Dec 2020 https://english.ahram.org.eg/NewsContentP/50/396953/AlAhram-Weekly/Small-sparks,-big-bangs.aspx
[27]Crisis group ,Q&A / AFRICA What is Behind Kenya’s Protest Movement. 03 JULY 2024 https://shorturl.at/8dxfZ
[28] Dharshini David What impact has Brexit had on the UK economy? BBC News 31 January 2023
https://www.bbc.com/news/business-64450882
[29] project syndicate ,A Far-Right Resurgence in Europe? Jun 20, 2024
https://www.project-syndicate.org/onpoint/a-far-right-resurgence-in-europe
[30] رايتس ووتش: تصريحات غالانت عن الفلسطينيين “دعوة لارتكاب جرائم حرب”، وكالة الأناضول، 10 -10-2023 https://shorturl.at/Q5awt
[31] Victoria Schneider,Germany’s moral blindness , new arab ,17 Nov, 2023
https://www.newarab.com/opinion/germanys-moral-blindness
[32] Eugene Rumer and Richard Sokolsky Grand Illusions: The Impact of Misperceptions About Russia on U.S. Policy June 30, 2021 [33] Audrey Kurth Cronin, How Hamas Ends: A Strategy for Letting the Group Defeat Itself June 3, 2024 https://www.foreignaffairs.com/israel/how-hamas-ends-gaza[34] Michael Robbins, Amaney A. Jamal, and Mark Tessler America Is Losing the Arab World And China Is Reaping the Benefits July/August 2024 June 11, https://www.foreignaffairs.com/united-states/america-losing-arab-world
الرابط : https://wefaqdev.net/st_ch1059.html