بحوثتاريخسياسة

الإسلام في مواجهة الغرب: تفنيد أكبر أربع مغالطات حول الإسلام

بقلم جوناتان كوك

أليس الإسلام دينًا عنيفًا بطبيعته ؟ ما الذي حال دون أن يشهد العالم الإسلامي عصر تنوير ؟ و لماذا يهوى بعض المسلمين قطع الرؤوس ؟ أليست حماس هي نفسها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ؟

أظهرت لي محادثةٌ حديثة مع أحد الأصدقاء مدى ضآلة معرفة معظم الغربيين بالإسلام، و مدى عجزهم عن التمييز بين “الإسلام” و”الإسلاموية”. إن هذا الجهل، الذي جرى تعزيزه في الغرب لإبقاء الناس خائفين و داعمين لإسرائيل، هو ما يخلق أصلًا الظروف التي أدّت إلى نشوء التطرّف الأيديولوجي في الشرق الأوسط، و انتهت بظهور جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية.

في هذا المقال أتناول أربع تصوّرات خاطئة شائعة.

/أولًا: الإسلام دين عنيف بطبيعته يقود أتباعه بالضرورة إلى التطرّف الإسلامي.

لا يوجد في الإسلام ما يجعله فريدًا أو غريبًا. فالإسلام دين، و أتباعه يُسمَّون “مسلمين”. أمّا “الإسلاميون” أو “الإسلامويون”، فهم الذين يسعون إلى تحقيق مشروعٍ سياسيٍّ، مستخدمين هويتهم الإسلامية وسيلةً لتبرير جهودهم في خدمة ذلك المشروع. إذًا، المسلمون و الإسلاميون شيئان مختلفان.

و للتوضيح أكثر، يمكننا عقد مقارنةٍ موازية:
“اليهودية” دين، و أتباعها يُسمَّون “يهودًا”. أمّا “الصهاينة”، فهم الذين يسعون إلى مشروعٍ سياسيٍّ، و يستخدمون هويتهم اليهودية لتبرير هذا المشروع. إذًا، اليهود والصهاينة شيئان مختلفان.

و مع ذلك، و بمساعدة القوى الاستعمارية الغربية خلال القرن الماضي، نجحت مجموعةٌ بارزة من الصهاينة في تحقيق مشروعها السياسي، إذ أسست في عام 1948 دولةً أعلنت نفسها “يهودية”، هي إسرائيل، و ذلك عبر طرد الفلسطينيين بعنفٍ من وطنهم. و اليوم، يرتبط معظم الصهاينة – بدرجات متفاوتة – بدولة إسرائيل، لأن هذا الارتباط يمنحهم امتيازات مادية و معنوية في ظل اندماج إسرائيل العميق في “المنظومة الغربية”.

أمّا سجل الإسلاميين فكان أكثر تباينًا.
فـ الجمهورية الإسلامية في إيران أُسست على يد رجال دينٍ إسلاميين عقب ثورة عام 1979 ضد الحكم الاستبدادي للشاه المدعوم من الغرب.
و في أفغانستان، يحكم الإسلاميون من حركة طالبان، و هم شبابٌ متشدّدون نشؤوا بعد عقودٍ من التدخلات السوفييتية و الأمريكية التي دمّرت البلاد و دفعتها إلى أيدي أمراء الحرب الإقطاعيين.
بينما تُحكم تركيا، العضو في حلف الناتو، بحكومةٍ ذات توجّه إسلامي.

لكلٍّ من هذه الدول برنامجٌ إسلاميٌّ مختلف و متعارض مع الآخر. و هذه الحقيقة وحدها تكفي لتوضيح أنه لا توجد أيديولوجيا “إسلامية” واحدة أو موحّدة.

فبعض الجماعات الإسلامية تسعى إلى التغيير بالعنف، و أخرى تفضّل التغيير السلمي، بحسب رؤيتها لمشروعها السياسي. ليس كل الإسلاميين متعصبين يقطعون الرؤوس مثل تنظيم الدولة الإسلامية.

و يمكن قول الشيء نفسه عن الصهاينة: فبعضهم يسعى إلى التغيير بالعنف، و آخرون يسعون إليه بوسائل سلمية، حسب رؤيتهم لمشروعهم السياسي. و ليس كل الصهاينة من القتلة الذين يرسَلون إلى غزة لارتكاب المجازر بحق الأطفال.

و المقارنة ذاتها يمكن إجراؤها بين الهندوسية كدين، وبين أيديولوجيا الهندوتفا السياسية. فالحكومة الهندية الحالية، بقيادة ناريندرا مودي و حزبه القومي الهندوسي (بهاراتيا جاناتا)، تتسم بتطرّف قومي و عداء واضح للمسلمين، لكن لا شيء في جوهر الديانة الهندوسية يقود بالضرورة إلى مشروع مودي السياسي. إنما الهندوتفا هي التي تخدم أهدافه السياسية.

و يمكن أن نرى نزعاتٍ سياسية مشابهة في كثيرٍ من مراحل تاريخ المسيحية، من الحروب الصليبية قبل ألف عام، إلى حملات التنصير القسري خلال الحقبة الاستعمارية الغربية، وصولًا إلى القومية المسيحية الحديثة التي تتجلى في حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا” (MAGA) بزعامة ترامب في الولايات المتحدة، و في الحركات السياسية الكبرى في البرازيل و المجر و بولندا و إيطاليا و غيرها.

النتيجة الأساسية هي التالية:
أتباع الحركات السياسية قد يستمدّون – و غالبًا ما يستمدّون – من لغة الأديان التي نشؤوا عليها وسيلةً لتبرير برامجهم السياسية و منحها شرعيةً “إلهية” مزعومة. و قد تكون تلك البرامج عنيفةً أو غير عنيفة، تبعًا للظروف التي تواجهها تلك الحركات.

إن هوس الغرب بربط الإسلام، دون اليهودية، بالعنف – في الوقت الذي ترتكب فيه “دولة يهودية” معلنةٌ إبادةً جماعية – لا يقول لنا شيئًا عن جوهر هذين الدينين، بل يكشف الكثير عن المصالح السياسية الغربية.

لكن الإسلام، بخلاف المسيحية، لم يشهد عصر تنوير. أليس في ذلك دليل على خللٍ جوهري في الإسلام؟

كلا. هذا الطرح يُسِيء فهم الأسس الاجتماعية و الاقتصادية التي قامت عليها نهضة أوروبا التنويرية، و يتجاهل العوامل الموازية التي أطفأت مبكرًا نهضةً تنويريةً إسلاميةً سابقة.

لقد نشأ التنوير الأوروبي من تلاقي ظروفٍ اجتماعية و اقتصادية محددة في أواخر القرن السابع عشر، سمحت تدريجيًا بإعلاء قيم العقل و العلم و التقدّم الاجتماعي و السياسي على حساب الإيمان و التقليد.

كان ذلك نتيجة تراكم الثروة بفعل التطورات التقنية السابقة، و لا سيما اختراع آلة الطباعة.

فالتحوّل من النصوص المخطوطة إلى الكتب المطبوعة على نطاق واسع سهّل نشر المعرفة، و قلّل تدريجيًا من هيمنة الكنيسة التي كانت تحتكرها في أيدي رجال الدين.

و قد أطلق هذا العصر الجديد من البحث العلمي المكثف – بفضل الاطّلاع على أعمال المفكرين و العلماء السابقين – تيارًا سياسيًا لا يمكن وقفه. و مع تراجع سلطة الكنيسة، تضاءلت أيضًا سلطة الملوك الذين كانوا يحكمون باسم “الحق الإلهي”. و مع مرور الوقت، أصبح الحكم أكثر لامركزية، و اكتسبت المبادئ الديمقراطية تدريجيًا مكانةً راسخة.

ثمّ تجلّت نتائج هذا التحوّل خلال القرون التالية: إذ أدّت النهضة الفكرية و العلمية إلى تطوراتٍ في صناعة السفن و الملاحة و الحروب، مكّنت الأوروبيين من الوصول إلى أراضٍ بعيدة، فنهبوا ثرواتها، و أخضعوا شعوبها، و استعبدوا بعضهم.

و عادت هذه الثروات إلى أوروبا لتُمَوِّل حياةَ ترفٍ متزايدةٍ لطبقةٍ ضئيلةٍ من النخبة، التي أنفقت الفوائض على رعاية الفنانين و العلماء و المفكرين الذين نربط أسماءهم اليوم بعصر التنوير.

ثمّ تسارع هذا المسار مع الثورة الصناعية التي زادت معاناة الشعوب في أنحاء العالم. فكلما تطوّرت التكنولوجيا الأوروبية و تحسّنت وسائل النقل و ازدادت الأسلحة فتكًا، ازدادت قدرة أوروبا على نهب ثروات مستعمراتها و منع تلك الشعوب من تحقيق تنمية اقتصادية و اجتماعية و سياسية مستقلة.

أما في العالم الإسلامي، فقد وُجدت بالفعل في مراحل مبكرة ما يمكن تسميته بـ“عصر تنوير إسلامي”، و امتد تقريبًا من القرن الثامن إلى الثالث عشر الميلادي، عندما كانت الخلافة العباسية مركزًا للعلم و الفكر و التبادل الثقافي بين شعوب متعددة الأعراق و الأديان.

كانت بغداد، في ذلك الوقت، موطنًا لـ”بيت الحكمة”، حيث تُرجمت مؤلفات الفلاسفة و العلماء الإغريق و الفرس و الهنود إلى العربية، و حيث ساهم المسلمون في تطوير الرياضيات و الفلك و الطب و الفلسفة و المنطق.
كان هناك حوارٌ فكريٌّ واسع حول العلاقة بين الإيمان و العقل، و الحرية و الإرادة، و العلم و الدين.

لكن هذا العصر ازدهر في ظلّ ظروفٍ محددة – الاستقرار السياسي، و التبادل التجاري الواسع، و الثراء النسبي – و هي الظروف ذاتها التي سمحت لاحقًا لأوروبا بعيش نهضتها.
غير أن هذه الظروف في العالم الإسلامي انهارت تدريجيًا. فقد بدأ التفكك السياسي مع اجتياح المغول، و استمرّ مع الهيمنة الاقتصادية الأوروبية في البحار، و مع الاستعمار الغربي الذي لاحقًا سحق أي محاولةٍ لتجديدٍ علمي أو فلسفي مستقل.

إن القول بأن الإسلام لم يعرف تنويرًا، إذًا، تجاهلٌ للتاريخ. فالمشكلة لم تكن في الإسلام كدين، بل في الظروف المادية و السياسية التي منعت استمرارية ذلك التنوير المبكر، ثم في التبعية الاستعمارية التي عطّلت نهضة العالم الإسلامي بعد ذلك.

لكن لماذا إذًا يُظهر بعض المسلمين ميلًا إلى العنف؟

مرة أخرى، هذا السؤال يُطرَح و كأن المسلمين كيان واحد، بينما هم في الواقع أمم و شعوب متعددة ذات تجارب تاريخية و سياسية و اقتصادية مختلفة تمامًا.
العنف ليس صفةً ملازمة لدينٍ بعينه، بل هو نتاجٌ لظروف القهر، و الاحتلال، و الظلم، و انسداد الأفق.

فحين يُغزى بلد، و تُنهب موارده، و تُدعم أنظمته الاستبدادية من الخارج، و تُحتل أراضيه – كما حدث في فلسطين و العراق و أفغانستان و غيرها – فمن الطبيعي أن تظهر ردود فعلٍ عنيفة.
تلك الردود ليست نابعةً من الإسلام كدين، بل من واقعٍ سياسي و اجتماعي مختنق.

نفس المنطق ينطبق على التطرف الصهيوني الذي أنتجته عقود من الحروب الاستعمارية الأوروبية في الشرق الأوسط، و على التطرف المسيحي في الغرب الذي يبرر الإبادات الجماعية والحروب باسم “القيم المسيحية”.

التطرف، أيا كان لونه الديني، ينشأ من الشعور بالتهديد و الظلم و الهيمنة. و الدول الغربية، التي تتهم الإسلام بالعنف، هي نفسها التي مارست أعنف أشكال الإبادة و الاستعمار و نهب الثروات على مدى قرون.

و أما القول بأن حماس مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فهو خلطٌ خطير.

تنظيم الدولة الإسلامية حركة عابرة للحدود ذات مشروع أممي يرفض القومية، و يهدف إلى إقامة “خلافة” شمولية على أنقاض الدول.
أما حماس، فهي حركة مقاومة وطنية فلسطينية نشأت ردًا على الاحتلال الإسرائيلي، تسعى لتحرير أرضٍ مغتصبة، شأنها شأن أي حركة تحرّر وطني في التاريخ.

الخلط بين الحالتين يخدم رواية إسرائيلية غربية هدفها نزع الشرعية عن مقاومة الاحتلال، و إقناع الرأي العام بأن أي مقاومة فلسطينية هي “إرهاب ديني”.

لكن الفرق جوهري: فـداعش قاتلت المسلمين و غير المسلمين على السواء لتفرض عليهم رؤيتها المتشددة، بينما حماس تقاتل قوةً احتلاليةً أجنبية تمارس التطهير العرقي منذ 1948.

الاستنتاج الأخير:

إن الصورة المشوّهة التي يروّجها الغرب عن الإسلام ليست نتيجة سوء فهمٍ بريء، بل أداةٌ سياسية تُستخدم لتبرير الحروب، و دعم إسرائيل، و إدامة السيطرة على موارد العالم الإسلامي.
فالخوف من الإسلام و شيطنته يخدم هدفًا محددًا: أن يبقى “الغرب” هو المهيمن ثقافيًا و عسكريًا و أخلاقيًا، بينما يُصوَّر المسلمون على أنهم الآخر المتخلّف الذي يحتاج دائمًا إلى “إصلاحٍ” أو “تهذيب”.

لقد آن الأوان لتفكيك هذه الأسطورة، و رؤية الإسلام كما هو: دينٌ عالميٌّ يحمل منظومة أخلاقية و روحية و حضارية، لا تقلّ في عمقها عن أي تراثٍ إنسانيٍّ آخر، بل لعلها – حين تُفهم في جوهرها الصحيح – تحمل للبشرية قيم العدالة و التوازن التي فقدها العالم الحديث.

يُفترض غالبًا أن العالم الإسلامي لم يعرف عصر تنوير. غير أن هذا غير صحيح تمامًا.
فقرونٌ قبل التنوير الأوروبي، شهد الإسلام ازدهارًا عظيمًا للمعرفة الفكرية والعلمية**.
فمنذ القرن الثامن ولمدة تقارب خمسمائة عام، قاد العالم الإسلامي مسيرة التطور في مجالات الرياضيات والطب وعلم المعادن والإنتاج الزراعي.

فلماذا لم يستمر “التنوير الإسلامي” و يتعمّق إلى الحد الذي يجعله قادرًا على تحدي سلطة الدين نفسه؟

هناك عدة أسباب لذلك، و واحدٌ فقط منها – و ربما الأقل أهمية – يتعلق بطبيعة الدين ذاته.

فالإسلام لا يمتلك سلطة مركزية على غرار البابا أو كنيسة إنجلترا، بل كان دائمًا أكثر لامركزيةً و أقل هرميةً من المسيحية.
و نتيجةً لذلك، كان بوسع العلماء و الزعماء الدينيين المحليين أن يطوروا تفسيراتهم الخاصة للإسلام، بما يلبّي احتياجات أتباعهم في مناطقهم.
و بالمقابل، فإن غياب سلطة مركزية يمكن تحميلها المسؤولية أو تحديها، جعل من الصعب نشوء حركة إصلاح ديني على النمط الأوروبي.

لكن، كما حدث مع ظهور التنوير الأوروبي، فإن غياب تنويرٍ موازٍ في العالم الإسلامي له جذورٌ اجتماعية و اقتصادية بالأساس.

لقد منحت المطابع الأوروبية التي حررت المعرفة من احتكار الكنيسة ميزةً تقنيةً كبرى على العالم الإسلامي.

كانت الأبجديات اللاتينية في أوروبا سهلة الطباعة، إذ تتكوّن من حروفٍ منفصلة يمكن ترتيبها ببساطة لتكوين الكلمات و الجمل و الفقرات.
فطباعة الكتب بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية كانت عمليةً مباشرة و سهلة نسبيًا.

أما اللغة العربية، فالأمر مختلف تمامًا.

للخط العربي بنيةٌ معقدة ؛ فالحروف تتغير أشكالها بحسب موقعها من الكلمة، كما أن طبيعتها المتصلة تجعل كل حرفٍ يرتبط فعليًا بالحرف الذي يسبقه و الذي يليه.
لذلك كانت اللغة العربية شبه مستحيلة الطباعة على تلك المطابع الأولى.
(و من يستهين بهذه الصعوبة، فليتذكّر أن شركة “مايكروسوفت” احتاجت سنواتٍ طويلة لتطوير خطٍّ عربي رقمي مقروء في برنامج “وورد”، بعد أن كانت قد طوّرت الخطوط اللاتينية بوقتٍ طويل).

ما أهمية هذا الأمر؟

لقد مكّن ذلك العلماء الأوروبيين من السفر إلى المكتبات الكبرى في العالم الإسلامي، و نسخ أهم المخطوطات و ترجمتها ثم نشرها على نطاقٍ واسع في أوروبا.
و انتقلت المعرفة – المستقاة من أبحاث المسلمين المتقدمة – بسرعةٍ في أوروبا، فأنبتت **البذور الأولى لعصر التنوير الأوروبي.

في المقابل، افتقر الشرق الأوسط إلى الوسائل التقنية التي تسمح له بمجاراة هذه الثورة المعرفية – أساسًا بسبب تعقيد الخط العربي.
وبينما كانت العلوم الغربية تتقدم بسرعة، كان العالم الإسلامي يتراجع تدريجيًا، حتى أصبح عاجزًا عن اللحاق بالركب.

و كانت النتيجة واضحة:
فكلما تطورت تكنولوجيا النقل و الغزو الأوروبية، تحوّل جزءٌ من الشرق الأوسط إلى هدفٍ للاستعمار و السيطرة الأوروبية، و ظلّت المنطقة تكافح طويلاً للتحرر من قبضتها.

و قد تصاعد التدخل الغربي بشدة في مطلع القرن العشرين مع ضعف ثم انهيار الإمبراطورية العثمانية، تلاه اكتشاف كمياتٍ هائلةٍ من النفط في أنحاء المنطقة.

حكم الغرب المنطقة بأساليب الاستعمار القاسية القائمة على مبدأ “فرّق تسُد”، فأشعل الخلافات المذهبية داخل الإسلام – مثل الخلاف بين السنّة و الشيعة، و هو ما يعادل الانقسام بين “البروتستانت و الكاثوليك” في أوروبا.

قبل أكثر من مئة عام، فرضت بريطانيا و فرنسا حدودًا جديدة على المنطقة، تعمّدتا أن تقطع عبر الانقسامات المذهبية و القبلية لتُنشئ دولًا قوميةً غير مستقرة مثل العراق و سوريا.
و قد انهارت هذه الدول بسرعة عندما عادت القوى الغربية للتدخل في شؤونها مباشرةً في القرن الحادي و العشرين.

لكن حتى ذلك الحين، استفاد الغرب من واقع أن تلك الدول الهشّة كانت تحتاج إلى زعيمٍ محلي قويٍّ – مثل صدام حسين أو حافظ الأسد – يحفظ النظام بالقوة.
و هؤلاء الحكام بدورهم، كانوا يستمدّون دعمهم من قوةٍ استعمارية – غالبًا بريطانيا أو فرنسا – لضمان بقائهم في الحكم.

و خلاصة القول:
لقد وصلت أوروبا إلى عصر التنوير بسبب تفوقٍ تقني بسيط، لا علاقة له بتفوّق قيمها أو دينها أو شعوبها.
ورغم أن هذا قد يبدو محبطًا، فإن الهيمنة الأوروبية الباهرة يمكن تفسيرها – ببساطة – بميزة أبجدياتها فقط.

لكن ربما الأهم في هذا السياق أن تلك الهيمنة الغربية لم تكشف عن ثقافة “متحضّرة” كما يُروَّج، بل عن طمعٍ سافر و وحشيةٍ عارية دمّرت مرارًا المجتمعات الإسلامية.

فما إن تقدّم الغرب في السباق — سباق السيطرة على الموارد — حتى أصبح الآخرون جميعًا مجبرين على خوض معركةٍ شاقةٍ للحاق به، مع أن موازين القوى كانت دائمًا تميل ضدهـم.

قد يقول قائل: هذا كلّه مفهوم، و لكن الواقع أن الشرق الأوسط يعجّ بأناسٍ — مسلمين — يريدون قطع رؤوس “الكفار”. لا يمكنك أن تقنعني بأن ديانةً تُعلّم الناس هذا القدر من الكراهية يمكن أن تكون ديانةً “طبيعية”.

شعار جورج بوش الابن الشهير: “إنهم يكرهوننا لأننا أحرار”* يخفي أكثر مما يُظهر. و ربما كان الأصدق أن يُقال: “إنهم يكرهوننا لأننا نحن من حرمناهم من حرياتهم.”

أما المشاريع السياسية المنسوبة إلى الإسلام السياسي، فهي أحدث عهدًا مما يتصوّره معظم الغربيين.

فالحركات الإسلامية الأولى التي ظهرت قبل قرن تقريبًا، عقب سقوط الدولة العثمانية، كانت في الأساس تحاول تقوية مجتمعاتها من خلال أعمال الخير و المساعدات الاجتماعية. أما مشاريعها السياسية الكبرى فكانت محدودة التأثير مقارنةً بجاذبية القومية العربية العلمانية التي تبنّاها عددٌ من القادة الأقوياء الذين صعدوا إلى الحكم غالبًا برعايةٍ مباشرة من القوى الاستعمارية البريطانية و الفرنسية.

لكن حرب عام 1967، التي هُزمت فيها الجيوش العربية الكبرى — المصرية و السورية و الأردنية — أمام إسرائيل في أيام معدودة، كانت الشرارة التي أطلقت ما بات يُعرف في السبعينيات بـ“الإسلام السياسي”.

كانت حرب 1967 إذلالًا بالغًا للعالم العربي، أضيف إلى الجرح المفتوح منذ نكبة 1948، حين عجزت الدول العربية — بل ترددت — عن نجدة الفلسطينيين لإنقاذ وطنهم من الاستعمار الأوروبي و منع قيام “دولة يهودية” معلَنة الهوية.

كانت الهزيمة تذكيرًا مؤلمًا بأن العالم العربي لم يشهد تحديثًا حقيقيًا في ظل حكامه المستبدين المدعومين من الغرب، بل ظلّ في حالة تخلّف مفروضة عليه، على النقيض من التقدّم المالي و التنظيمي و العسكري و الدبلوماسي الذي أغدقه الغرب على إسرائيل — و هيمنةٌ ما زالت جلية اليوم في دعم الغرب المطلق لإسرائيل وهي ترتكب إبادة جماعية في غزة.

وقد يفاجأ الغربيون لو نظروا إلى المشهد في المدن العربية “العلمانية” أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات؛ فالصور والأفلام من تلك الحقبة تُظهر بيئة منفتحة صاخبة — على الأقل بين النخب الحضرية — حيث كانت النساء يرتدين التنانير القصيرة والقمصان المفتوحة الرقبة. وكانت أجزاء من دمشق (كما في صورة عام 1970) وطهران تبدو أقرب إلى باريس منها إلى مدن الشرق.

لكن تغرّب النخب العربية العلمانية، و عجزها الواضح عن الدفاع عن بلدانها أمام إسرائيل في حرب 1967، فجّرا مطالب بالإصلاح السياسي، خاصة بين الشباب الساخط و المتطرّف. فقد رأوا أن وعود الغرب الزائفة، و معها انغماسهم المتزايد في أنماط الحياة الغربية المنحلة، قد جعلت المجتمعات الإسلامية خاملة و ممزقة و ضعيفة و تابعة.

و من هنا وُلدت الحاجة إلى مشروعٍ سياسي يُعيد للمنطقة كرامتها و صلابتها، و يجعلها مستعدة للنضال من أجل التحرر من السيطرة الغربية و مواجهة دولة إسرائيل العميلة المدججة بالسلاح.

لم يكن من الغريب أن تستلهم تلك الحركات الإصلاحية رؤيتها من الإسلام السياسي، بما يفصلها بوضوح عن الغرب الاستعماري، و يطهّر مجتمعاتها من تأثيراته المفسدة.

و كان من الطبيعي أيضًا أن تنسج تلك الحركات قصةَ أصلٍ مُلهِمة: سردية “العصر الذهبي” للإسلام الأول، حين كانت الأمة الإسلامية الموحّدة و التقِيّة تجازى من الله بفتح مساحات واسعة من العالم. هدف الإسلاميين كان العودة إلى ذلك العصر — و إن كان في جوانب كثيرة أسطوريًا — لإعادة بناء الأمة الإسلامية الممزقة في شكل خلافةٍ جديدة، إمبراطوريةٍ سياسيةٍ متجذّرة في تعاليم النبي نفسه.

و من المفارقات اللافتة أن الإسلام السياسي و الحركة الصهيونية “العلمانية” يشتركان في عددٍ من السمات الفكرية.

فالصهيونية سعت صراحةً إلى إعادة اختراع “اليهودي الأوروبي”، الذي كانت تُنسب إليه في الفكر الصهيوني صفات الضعف و الخضوع التي جعلته فريسةً للاضطهاد، وصولًا إلى المحرقة النازية. و قد رأت الصهيونية في قيام دولةٍ يهودية وسيلةً لاستعادة اليهود لأرض أجدادهم و تجديد قوتهم، مستلهمةً بدورها أسطورة “العصر الذهبي لبني إسرائيل”. كانت الدولة اليهودية المقترحة تهدف إلى إعادة تشكيل الشخصية اليهودية عبر العمل في الأرض بأيديهم، ليغدوا فلاحين محاربين أقوياء و مكتفين بأنفسهم، و تضمن الدولة حمايتهم بقوةٍ عسكريةٍ تمنع أي تدخل خارجي في شؤونهم.

على خلاف الصهاينة، لم يُعرض على الإسلاميين أي دعم من القوى الغربية لتحقيق حلمهم السياسي.
بل كانت رؤيتهم في جوهرها تعزيةً للعالم العربي في زمن الهزيمة و الركود، إذ وعد الإسلاميون بتغييرٍ جذري في الموازين من خلال برنامج عمل واضح، يستخدم لغةً و مفاهيم دينية مألوفة للمسلمين.

و كان للإسلام السياسي ميزة إضافية: صعوبة دحضه.
ففشل تلك الحركات في إزالة النفوذ الغربي من الشرق الأوسط أو في هزيمة إسرائيل لم يكن بالضرورة يقوّض تأثيرها أو شعبيتها، بل كان يُستخدم لتبرير مزيدٍ من التشدد في تطبيق العقيدة، و مزيدٍ من الغلوّ في الطهر الديني، و مزيدٍ من العمليات العنيفة.

و من هذا المنطق نفسه وُلدت في نهاية المطاف القاعدة، ثم «داعش» بثقافة الموت التي تبنتها.

يقول بعضهم: ما يجري في غزة فظيع، و لكن «حماس مثل داعش». فإذا كنا لا نسمح لتنظيم الدولة بالسيطرة على الشرق الأوسط، فكيف نسمح لحماس بالسيطرة على غزة؟

لكن الردّ على هذا الادعاء في بريطانيا صعب للغاية؛ فالقانون البريطاني القاسي لمكافحة الإرهاب — و تحديدًا المادة 12 منه — يجعل من الجريمة، التي تصل عقوبتها إلى 14 عامًا من السجن، التعبير عن رأيٍ قد يُفهم منه تعاطف مع حماس.

و حقيقة أن بريطانيا منعت حرية التعبير فيما يخصّ الحركة السياسية التي تحكم غزة — إضافةً إلى حظر جناحها العسكري — تكشف عمق الخوف الغربي من أي نقاش صريح و جاد حول العلاقة بين إسرائيل و غزة.
ففي حين يمكن للمرء أن يشجع على قتل أطفال غزة جماعيًا على يد الجيش الإسرائيلي دون أي عواقب، فإن مجرد الثناء على ساسة حماس لتوقيعهم على اتفاق وقف إطلاق النار قد يُعد مخالفةً قانونية.

و ينبغي فهم الملاحظات التالية في هذا السياق المقيد للغاية.
فالحديث الصادق عن غزة في بريطانيا أصبح مستحيلًا لأسبابٍ قانونية، بينما تجعل الضغوط الاجتماعية و الفكرية من الصعب قول الحقيقة نفسها في سائر الدول الغربية.

أما الزعم بأن حماس و تنظيم الدولة الإسلامية هما شيء واحد، أو جناحان لأيديولوجيا إسلامية واحدة، فهو من أكثر الدعايات الإسرائيلية رواجًا، لكنه هراء محض.

و كما أوضح ما سبق، فإن تنظيم الدولة يمثل المآل الأيديولوجي و الأخلاقي المسدود الذي انتهت إليه الحركات الإسلامية بعد عقودٍ من الفشل — ليس فقط في إقامة الخلافة، بل حتى في تحقيق تأثيرٍ فعلي على التدخل الغربي في الشرق الأوسط.
فمن خلال الفشل المتكرر، كان الإسلام السياسي لا بد أن ينتهي إلى العدمية.

يبقى السؤال الآن: إلى أين يتجه الإسلام السياسي بعد بلوغه هذا الدرك؟
ربما يشير أحمد الشرع — القائد السابق في القاعدة، الذي ساعد أتباعه على إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، ثم أصبح الرئيس الانتقالي للبلاد في مطلع عام 2025 — إلى ملامح المرحلة المقبلة. و الزمن، و معه التدخلان الغربي و الإسرائيلي في سوريا، كفيل بالإجابة.

و مع ذلك، توجد فروق واضحة بين تنظيم الدولة و حماس، يسيء الغربيون فهمها لأنهم جُهلوا عمدًا بتاريخ حماس و تطورها الفكري — لتُحجب عنهم حقيقة طبيعة الدولة الإسرائيلية ذاتها.

فـ«داعش» تسعى إلى إزالة حدود الدول القومية التي فرضها الغرب على الشرق الأوسط، من أجل إقامة إمبراطورية دينية عالمية عابرة للحدود، هي الخلافة، تُحكم بتفسير متشدد للشريعة الإسلامية.

أما حماس، فعلى العكس من مواقف تنظيم الدولة القصوى، فإنها ذات طموحٍ أضيق بكثير.
بل إن أهدافها تتعارض مع أهداف «داعش». فبدلًا من إزالة الحدود، تسعى حماس إلى إنشائها — بإقامة دولةٍ فلسطينية لشعب فلسطين.

حماس حركة تحرير وطني بالدرجة الأولى، تسعى إلى ترميم المجتمع الفلسطيني و تحريره من العنف البنيوي المتأصل في سلب إسرائيل للشعب الفلسطيني و احتلالها غير الشرعي لأرضه.

و لهذا السبب تحديدًا، يرى تنظيم الدولة في حماس جماعةً مرتدة.
و تجدر الإشارة إلى أنه خلال عامي الإبادة في غزة، كانت إسرائيل تدعم و تسلّح عصابات إجرامية — أبرزها تلك التي يقودها ياسر أبو شَبّاب — لها صلاتٌ صريحة بتنظيم الدولة.
و قد جنّدت إسرائيل هؤلاء المرتبطين بـ«داعش» في غزة لإضعاف حماس، التي تُعد أكثر اعتدالًا أيديولوجيًا بالمقارنة.
فماذا يكشف ذلك عن النوايا الإسرائيلية الحقيقية تجاه غزة، وتجاه الشعب الفلسطيني عمومًا؟

لحماس جناحٌ سياسي خاض الانتخابات في غزة عام 2006 و فاز بها، و منذ ذلك الحين و هي تدير القطاع لما يقارب العقدين.
و خلال هذه المدة لم تفرض الشريعة الإسلامية، رغم أن حكمها اجتماعي محافظ.
كما حمت كنائس القطاع — التي دمر كثيرٌ منها الآن بالقصف الإسرائيلي — و سمحت للمجتمعات المسيحية بالعبادة و الاندماج مع المسلمين.

أما تنظيم الدولة، فيرفض الانتخابات و المؤسسات الديمقراطية، و يتسم بتعصبٍ وحشي، لا تجاه غير المسلمين فحسب، بل أيضًا تجاه الطوائف الإسلامية غير السنية، كـالشيعة، بل و حتى السُّنّة غير الملتزمين بعقيدته.

و من الفروق اللافتة أيضًا أن حماس قصرت أعمالها العسكرية على الأهداف الإسرائيلية، و لم تشن عملياتٍ خارج المنطقة، في حين دعا تنظيم الدولة إلى استهداف كل من يعارض برنامجه الإسلامي، و وجّه هجماته نحو أهدافٍ غربية.

و كما أُشير سابقًا، فإن قومية حماس و قومية الصهيونية الإسرائيلية تعكسان بعضهما البعض.
فكلاهما يرى المنطقة بين نهر الأردن و البحر المتوسط أرضًا حصرية له، و كلاهما يحمل ضمنيًا مشروع الدولة الواحدة.
و رغم أن الصهيونية بدأت حركة علمانية، فإن الطرفين يستندان إلى مبررات دينية لادعاءاتهم الإقليمية.

و في النهاية، خلصت حماس إلى أن محاكاة عنف إسرائيل هي السبيل الوحيد لتحرير الفلسطينيين من ذلك العنف، و أنه لا بد من إلحاق خسائر فادحة بإسرائيل حتى تُجبر على الاستسلام.

و قد تغيرت شروط هذا “الاستسلام” الذي تطالب به حماس على مرّ السنين: من المطالبة بكل فلسطين التاريخية إلى الاكتفاء بالأراضي المحتلة عام 1967.
لكن الغربيين شُجعوا على تجاهل هذا التراجع الأيديولوجي التدريجي — الذي يتضمن قبولًا ضمنيًا بحل الدولتين — و التركيز بدلًا من ذلك على عملية حماس في أكتوبر 2023، حين كسرت الحصار الإسرائيلي الوحشي و غير القانوني المفروض على غزة منذ 17 عامًا.

و ربما ما كان أكثر ما يلفت النظر بعد تراجع حماس عن أقصى مطالبها، هو ردّ الفعل الإسرائيلي: إذ ازداد تصلّبًا و وحشية في سعيه إلى التوسع الإقليمي اليهودي، حتى بات يبدو أنه يسعى إلى تحقيق مشروع “إسرائيل الكبرى”، الذي يشمل احتلال جنوب لبنان و غرب سوريا.

أما الصهاينة الدينيون في الحكومة الإسرائيلية — و منهم الفاشيان المعلنان إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش — فيبدون اليوم ممسكين بزمام السلطة فعليًا.
وربما حان الوقت لأن نقلل قليلًا من التركيز على ما يفعله الإسلاميون، و نبدأ بالقلق أكثر مما يخطط له حكام إسرائيل الصهاينة المتطرفون لمستقبل العالم.

📖 المصدر:
[Jonathan Cook – *Islam vs the West: The Four Biggest Lies*](https://jonathancook.substack.com/p/islam-vs-the-west-the-four-biggest?utm_source=post-email-title&publication_id=476450&post_id=177885861&utm_campaign=email-post-title&isFreemail=true&r=l7odh&triedRedirect=true&utm_medium=email)

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى