قضايا حضارية

بين الفضيلة و الفن

بقلم أ. حشاني زغيدي

يفضل دعاة التحرر في أوطاننا الخروج من القيود الموروثة و الأعراف المجتمعية السائدة لقيم هويتنا حين تراهم يلبسون ثوبا جديدا من التحرر يحاولون من خلاله إزعاج المجتمع في خرجات بعض منتسبي الإبداع الفني بكل طبوعه، سواء كان هذا المنتج شعرا أو قصة أو رواية أو خاطرة، أو قد يكون المنتج إبداعا سمعيا بصريا يتعلق بفنون المسرح أو السينما أو إنتاج تلفزيوني.
سأحاول مناقشة الموضوع بطريقة موضوعية، أحاول الإجابة عن تساؤلات وجيهة هل الدعوة للفضيلة تناقض الإبداع الفني؟
و هل هناك ضوابط أخلاقية و قانونية تنظم نشاط الفنان و دور النشر؟
و هل من حق المجتمع حماية مقومات هويته من التفسخ و الانحلال؟
و هل هناك ميثاق شرف بين صانع المحتوى الفني و الثقافي و جمهوره الثقافي؟
كل هذه التساؤلات تحتاج منا طرحها و الإجابة عنها بنزاهة.
إن غاية رسالة الأدب أن يحمل في طياته توازنًا بين الفضيلة و الإبداع الفني. و ليس كما يفهمه قاصرو الرؤى و النظر، أن يحصر في الزوايا الضيقة فيقتصر على الوعظ و الإرشاد، أو التوجيه الديني، و آخرون يحصرون الإبداع في الخروج من المألوف المجتمعي، بهتك الأستار، إن هذا الفهم المشوه يلبسه للأسف صنف من بني جلدتي، تأثروا بثقافات لا رابط لها بموروث ثقافة الهوية، فهم يربطون كل ما تعلق بالهوية و الأصالة بالرجعية و التخلف، بل يرون ضرورة الخروج من عتق هذا الأسر المفروض، بل يرون الواجب كسر كل التقاليد المرتبطة بهذا الموروث، كونه يعد في اعتقادهم تخلفا و رجعية، و هذا الفهم خاطئ يحتاج للتصويب، لو عدنا للثقافة موروثنا الأدبي و الفني لاكتشفنا زيف دعاوى القوم بشرح مختصر:
الإبداع ظل سمة هذه الأمة، فقد كان لوحتها المضيئة المشرفة لقرون عدة، تمثل في التأليف و التعبير الأدبي و الفني و العمراني و في ميدان الطب و فنون التربية، فعدّ الإبداع سمة تقدم الأمة و ازدهارها.
ظل الإبداع في الأدب في موروث الأمة النابض المحرك و لم يقتصر على الوعظ و فنون الخطابة، بل تعدى ذلك المفهوم لجوانب مست الجمال و الفن، فكان الشعر بكل فنونه و أضربه شاهدا على نبوغ إبداع هذه الأمة و شواهده في رفوف المكتبات لا تحصى و لا تعد.
أن من يحاول أن يصنع خصومة بين الفضيلة و الإبداع واهم يجهل مفهوم الإبداع الذي يتجاوز مفهوم عقله القاصر، فالإبداع أوسع مما يظنون، فهو يحمل جمال الحس و المعنى، يحمل معنى قيم الفضيلة، يحمل معنى جمال القيم الإنسانية، فالإبداع يجب أن يفهم بهذا الوسع و الإحاطة.
و بهذا البسط، فالفضيلة و الإبداع الفني ليست على تعارض بل هما في وفاق و تناغم نلمس آثارهما في المنتج الأدبي و الفني الموروث، شريطة ألا يشذ أحدهما بالغلو و التطرف المذمومين.
لهذا لا نعجب حين ينتفض فصيل من المجتمع أو المجتمع كله حين يتمرد البعض بالخروج الصارخ، حماية لمقومات هويته من التفسخ و الانحلال. لأن الهوية الثقافية و الاجتماعية للمجتمع، تشكل حصنا و منعة أساسية لحصن الأمة، فحق للمجتمع أن يحمي تراثه و تاريخه. إذا تعرضت إحدى مقومات الهوية للتشويه أو التمييع أو الطمس. قد يكون التساهل معه اندثار الهوية و قيمها، و هذا يؤدي طبعا لزوال المجتمع و الأمة. لذا، يجب أن يشكل المجتمع جدارا مانعا يحمي به مقدرات الأمة و المجتمع.
و على مؤسسات الدولة السيادية وكالة الحفاظ على هذه المقومات من خلال فرض القوانين، و تعزيز التعليم و التوعية و المحافظة على التقاليد و العادات الثقافية و الاجتماعية. هذا كله يساهم في تعزيز لحمة الوحدة الوطنية بين أفراد المجتمع و الحفاظ على هويتهم الحصينة.
كما للكاتب و دور النشر دور مهم في تعزيز الثقة بينهما و جمهوره، حين يلتزم المصداقية و الشفافية، باحترام روح المجتمع في نقل الحقائق دون خدش المشاعر أو مس خصوصية النسيج المجتمعي من خلال استعمال الإساءة اللفظية التي يرفضها المجتمع، و عليه أن يدرك التبعة الملقاة عليه تجاه المحتوى و تأثيره سلبا أو أيجابا على المتلقي، فيقبل النقاش المسؤول حول المنتج الإبداعي، فهو حق طبيعي للجمهور و القراء، و عليه أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية و الاجتماعية و القانونية التي تفرض عليه تحملها.
و خلاصة كلامي أن يدرك الجميع على أهمية المسؤولية الملقاة على الفنانين و الكتاب تجاه هذه الرسالة العظيمة و النبيلة، و التي تؤدى بإخلاص و نزاهة، مستشعرين ثقل المسؤولية الاجتماعية نحو جمهورنا كي تتولد علاقة تراض و محبة، تؤسس لعلاقة صحية دائمة أساسها الصدق و الشفافية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى