تاريخ

التصحيح الذاتي في الحضارة الغربية: حقيقة أم وهم؟ نظرات في الاعتذارات المطلوبة عن جرائم الاستعمار 1/2

الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة

قامت جاذبية الغرب في عيون المعجبين به في العالم عامة و في بلادنا خاصة على عوامل عديدة منها القوة و التقدم و السيطرة والعلم، و لكن لا نستبعد أيضاً العوامل المعنوية، فقد كان للمظاهر المتعلقة بالسلوك و الأخلاق دور هام في إعجاب الناس بالغرب، فكثيراً ما سمعنا التغني بالحريات و حقوق الإنسان و دقة المواعيد و الرفق بالحيوان، و هناك عامل كان هاماً في إبهار الطبقة المثقفة بشكل خاص و هو فكرة النقد الذاتي و القدرة على تصحيح الأخطاء بشكل آلي بما يمكن الغرب من الاستمرار في التفوق نتيجة لتلافيه العيوب التي أدت إلى انحدار الحضارات السابقة و انهيارها، و بهذا أخرج هؤلاء المعجبون الحضارة الغربية من دورة الحياة و الموت التي سرت على جميع الأحياء و على تاريخ جميع الدول و الحضارات السابقة.

و لعل وضعنا في القرون الأخيرة بصفتنا ضحايا الاستعمار الغربي الذي دام زمناً طويلاً يعطينا الحق في البحث عن مكاننا في ميزة اعتراف القوي بأخطائه و تصحيحها بما يفترض أن يسير بالعالم الواقع في معظمه تحت تأثير هذه الحضارة نحو الظروف الأفضل للإنسانية و الحضارة و المدنية و التعايش و التعددية و العدل و المساواة و الرفاهية و بقية الشعارات التي زعم الغرب أنه ينشرها في الأماكن التي يحل فيها، بل إنها كانت دوافعه للانتشار ليمارس “عبأه و رسالته الحضارية و قدره الجلي”، فماذا قدمت ميزة النقد الذاتي و الاعتراف بالأخطاء و تصحيحها ذاتياً للضحايا الذين عانوا طويلاً من بطش الحروب الاستعمارية؟ و هل انتهى الاستعمار فعلاً؟ و هل أصبح العالم أكثر أمناً للضحايا؟ و هل صححت أخطاء الماضي؟ و ما هي مظاهر هذا التصحيح؟ هل تم الاعتذار عن الأخطاء الجسيمة؟ و هل كانت هذه الاعتذارات إن حصلت مجدية فتراجعت سياسات الاضطهاد والاستغلال أم اقتصرت على البلاغات اللفظية الخالية من المعاني الفعلية؟ و ما هو أفق المصالحة مع العداوات؟ هل فعلاً أن العداء هو مجرد حواجز نفسية من الماضي تغذيها غطرسة الجاني و شعور الضيم عند الضحية أم مازالت عوامله و أسبابه قائمة و قوية؟ و هل هناك ضمانات قوية بعدم تكرار مآسي الماضي لدى القوي الذي يفترضون أنه لن يتلاشى و يستطيع بمميزاته الاستمرار على قمة العالم؟

1-اعترافات و ليست اعتذارات

يبدو أن هناك خلطاً بين الاعتراف بالذنب و الاعتذار عنه، فاعتراف المجرم لا يعني توبته، و الغرب مستعد في كثير من الأحيان للاعتراف بأخطاء ارتكبها في الماضي، و توثقها نزعة الولع بالتسجيل و حفظ الوثائق و السجلات، و لكن هذا الاعتراف لا يعني الاعتذار، بل إنه يكون أحياناً نقيضاً للاعتذار بكونه دليلاً على شعور المجرم بالقوة بحيث يرضى بفضح فظائعه دون خوف من عقاب، و يمكن اتخاذه أيضاً دليلاً عند المجتمع الدولي المنافق على شجاعة المجرم الذي سمح بهذا الاعتراف بعد زمن طويل كانت الضحية تصرخ فيه شاكية من الآلام دون أن يصغي إليها أحد، كما يقول الدكتور سلمان أبو ستة في كتابه حق العودة (ص 136)، و لهذا فعمليات الاعتراف أكثر كثيراً من عمليات الاعتذار، وهي تظهر في كتابات المثقفين وتقارير الصحفيين وأشعار الشعراء و ليست في التصريحات الرسمية، و لها قوانين تحكمها سنأتي عليها.

2-قبل طلب الاعتذار و البحث عن التصحيح، هل انتهت الجريمة إلى غير رجعة؟

هناك خلل في النظر إلى الظاهرة الاستعمارية في الظن بأنها مجرد عنف هجم على بلادنا و بقية العالم و مارس القتل و الاحتلال و النهب، لأسباب تكون كثيراً غير واضحة، و لهذا يكون التركيز في هذه الجرائم على الممارسات العنيفة و الدموية و المجازر و المعارك و الاعتقالات و التعذيب، و يتبع ذلك أن الأمر انتهى بانتصار الثورات على الاستعمار و خروج الجيوش الأجنبية و الحصول على الاستقلال و زوال العنف الاستعماري، و من ثم لم يتبق سوى تصفية حسابات شكلية.

و هذه في الواقع نظرة سطحية لا تفسر الواقع الفعلي، فالحروب الاستعمارية و ما جرى فيها من إبادات جماعية في عدة قارات، بالإضافة إلى عمليات الاسترقاق الواسعة، و حروب الأفيون و الديون و التجارة الحرة و الاحتلال، لم تحصل لمجرد الرغبة المرَضية في إيذاء الآخرين، بل كانت تجري مثل أي انحراف بشري في السلوك و الأخلاق، لتحقيق ما يتصوره الفاعل من مصالح ستتحقق له بهذه التجاوزات بعيداً عن الأحكام الأخلاقية، و ليس هناك حرب تندلع لتستمر إلى الأبد، كل الحروب تندلع لتقيم سلاماً طويلاً على هوى المنتصر بما يحقق استقرار مصالحه، ففي ظل الحروب المستمرة تتعطل المصالح الاقتصادية و التجارية التي تتطلب الاستقرار، و هذا ما حدث بعد انتصار الحلفاء في حربين كبيرتين، إذ نشأ نظام عالمي بعدهما يثبت اقتسام المصالح بين الدول الكبرى و تشريع النهب الذي اندلعت الحروب الاستعمارية وحروب التنافس بين المستعمِرين لتحقيقه، وبالفعل نرى اليوم معادلة النهب هي السائدة في العلاقات الدولية حيث يحتكر 20% من سكان العالم 80% من موارد الأرض، و لدى 1% من البشر ما يعادل ثروة نصف البشرية الأفقر، و هذا ما يسمى اليوم السلام العالمي الذي يحميه القانون الدولي بإشراف المنظمات الأممية، و أي محاولة للخروج عن مسار هذه المعادلة يتم قصفها بقوة السلاح و الحصار بقرارات “الشرعية الدولية”.

القصد أن “الهدوء” في عالم اليوم هو النتيجة المباشرة للحروب الاستعمارية و ما تم فيها من ممارسات عنيفة و دموية، اليوم وليد الأمس و ليس تناقضاً معه أو تقدماً عليه، و القيم التي أنتجت حروب الإبادات لم تتطور و لم تشطب، و إذا احتاج العالم الغربي إلى تكرار ممارسات الماضي ضد أي متمرد فلن يتردد في ذلك، و لعل ما رأيناه منذ نشوء النظام العالمي الجديد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي من غزوات استعمارية و حصارات ضد بلدان إسلامية و ما نراه من إجرام في أكثر من بقعة في الوقت الحالي، مثل فلسطين و لبنان، لا يذكرنا ببشاعات الاستعمار في الماضي فقط، بل يذهلنا بما أحدثه التطور التقني في أسلحة الدمار من الزيادة الضخمة في القدرة على ارتكاب الجرائم في النفس البشرية.

3-ما هي قوانين الاعتراف بالأخطاء في الغرب؟

الغرب يدرك أكثر منا و من بقية العالم الرابط الوثيق بين أمسه و يومه، و لهذا يضع حدوداً حاسمة لإمكان تراجعه و اعتذاره عن جرائم الماضي، مهما كانت ضخمة، و حتى لو اعترف بها، و كنت قد استنتجت في كتابات سابقة أن الاعتراف بأخطاء الماضي محكوم بما يلي:

أ-أن يكون الاعتراف بعد فوات الأوان و قضاء المصلحة كاملة من الجريمة، على طريقة إخوة سيدنا يوسف عليه السلام، يريدون ارتكاب الجريمة و تحقيق مصلحتهم، ثم التوبة في ظل استمتاعهم بثمرة جريمتهم “اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوماً صالحين”، و هو نفس منطق لصوص العصابات في الأفلام العربية الذين يريدون تنفيذ عميلة كبيرة تكون “ضربة العمر” ثم التوبة بعدها مع التمتع بجني هذه العملية إلى آخر العمر، و قد فهم الأديب الصهيوني عاموس عوز هذه اللعبة، فقال في حديث مع مسئول كبير من الصهاينة: “ماذا لو قتلنا مليوناً من العرب، أو حتى ستة ملايين؟ إن التاريخ سينسى ذلك، و يأتي أدباؤنا و يكتبون روايات عظيمة عن المذابح التي ارتكبناها في حق العرب و مشاعر الذنب التي تنتاب الجيل الجديد، و يحصلون على جوائز نوبل في الأدب” كما ينقل عنه الدكتور رشاد عبد الله الشامي، و لكن النفوس الشريرة لا تكف عن السير خلف الإغواء، لاسيما مع وجود المساحات الواسعة من الأراضي الثرية الضعيفة و الإمكانات الوفيرة من الموارد، و هذا ما يقودنا إلى السمة الثانية من اعتراف الغرب بأخطائه الماضية:

ب-يكون الاعتراف دون أي عبرة مستقبلية، فلا ترجع الحقوق، و لا يتوقف المجرم عن تكرار جريمته نفسها في أماكن جديدة و ضد شعوب أخرى، فالندم المزعوم على الجريمة الأولى ضد الشعوب الأصلية في أمريكا لم يرجع الحقوق الهندية التي نصت عليها المعاهدات، و قد حسب أحد المؤلفين المدة اللازمة لعودة حقوق الهنود حسب الوتيرة الأمريكية الحالية في التعامل معهم فوجد أنها تتطلب ستة قرون، و لم يمنع الاعتراف أمريكا من تكرار جرائمها التدخلية ضد عشرات البلدان بعد الفراغ من الهنود الحمر، و قد وصل عدد التدخلات الأمريكية في العالم قبل احتلال العراق سنة 2003 إلى أكثر من 130 حرباً، و أحصى بعض المؤلفين سنوات الحروب في التاريخ الأمريكي فوجدها أكثر من 93%، يعني أن أمريكا التي تلقي علينا دروس السلام، لم تمارسه إلا في 7% من تاريخها، و هذا هو مفعول اعتبارها بالأخطاء التي ارتكبتها في حقوق السكان الأصليين فيها، و إنه من العجيب في عملية التصحيح و الاعتبار أن أمريكا استخدمت عبرة حرب فيتنام، التي قال المبهورون بأمريكا إنها كانت عبرة أخلاقية، استخدمتها لا لكف أذاها عن العالم، بل لزيادة العدوان و التدخل، و باسم إزالة عقدة فيتنام افتتحت حروب النظام العالمي الجديد زمن انهيار المعسكر الاشتراكي و هي التي جعلت عدوانها على العراق الذي استمر إلى اليوم بداية لمعارك مازالت تخوضها ضد أمتنا بشراسة لم تخف مع مرور الزمن كما تثبت المجزرة الجارية في فلسطين و لبنان اليوم ضد شعب يدافع عن بيته، مما أعطى مصداقية للأصوات العاقلة، و أبرزها وزير الدفاع الفرنسي الذي استقال وسط معمعة حرب الكويت، الذي ذكر في حينها أن تحرير الكويت كان ذريعة كاذبة لهدف أبعد هو تحطيم رغبة أمتنا للنهوض، و أثبت كذبها ما ظلت الأيدي الأمريكية تقترفه إلى اليوم من جرائم بعد عودة الكويت بزمن طويل، كما أثبت كذبها عميات التدخل الغربي على امتداد قرنين لتحطيم نهضاتنا يوم لم تكن هناك كويت و لا عراق أصلاً، وي مكننا سماع وزير الخارجية الأمريكي السابق و سفاح ملجأ العامرية كولن باول و هو نادم على كذبة أسلحة الدمار الشامل التي روجها في مجلس الأمن عشية الاحتلال سنة 2003، و أن ذلك عار و نقطة سوداء، و سماع بوش الابن و هو نادم فقط على ترويج معلومات استخباراتية كاذبة عشية الغزو، لكنه يعود لتبرئة الغزو نفسه، و على نفس الغرار نحى هذا النحو المزدوج توني بلير، و لكن ماذا حصل العراق البلد المدمر، بل و غير العراق من البلدان التي غزيت بعد ذلك، من هذه الدموع المزيفة؟ و يمكننا أيضاً سماع كبار قادة الكيان على أعلى المستويات و هم يعترفون أن الكيان الصهيوني هو الذي بادر بالهجوم على العرب سنة 1967 دون وجود تهديد حقيقي و أن اختراع أسطورة التهديد تم بهدف ضم الأراضي العربية (بول فندلي، الخداع، ص 55-56)، و لكن ماذا جنينا من هذا الاعتراف؟ هل تم انسحابهم من أراضي 1967؟

4-سمات الاعتذارات

يكون الاعتذار غالباً غير رسمي أو من مستويات رسمية غير عليا، طبعاً لا نحسب اعتذارات المهزومين مثل اليابان و ألمانيا في هذا السياق الأخلاقي، اعتذار إيطاليا لليبيا على لسان رئيس وزرائها سنة 2008 و تقديمها تعويضاً استثمارياً عن سنوات الاستعمار الإيطالي بلغ خمسة مليارات دولار، كان استثناء و ليس قاعدة، الاعتذار الذي قدمته أمريكا للهنود الحمر سنة 2000 جاء من وكالة اتحادية ثانوية هي الوكالة الأمريكية لشئون السكان الأصليين في الولايات المتحدة (صحيفة البيان 21/9/2000)، كما ورد اعتذار لهنود كاليفورنيا من حاكم الولاية سنة 2019، و يحصل الهنود الحمر على بعض التصريحات الدبلوماسية و الاعترافات الخجولة من الرؤساء الأمريكيين في لقاءات احتفالية أكثر من كونها سياسية أو تفاوضية، يقول الرؤساء في أثنائها تصريحات مثل أن الماضي لم يكن مجيداً و لكن المستقبل يمكن أن يكون كذلك، و قد يساير الرئيس الموقف فيرتدي تاج الريش الهندي أو يضعه على رأس زعيم هندي كبير، و نفس الشيء يقال في مجال العبودية الإفريقية، قدم الكونجرس اعتذاراً للأمريكيين الأفارقة سنة 2009، و لكن دون فسح المجال لتقديم أي تعويضات، مع بعض التصريحات الرئاسية الدبلوماسية و ربما جاءت في غير الأماكن المعنية، لم تعتذر أمريكا لفيتنام و رفض الكثير من الرؤساء الاعتذار لليابان عن قنبلتي هيروشيما و ناجازاكي، الاعتذارات التي قدمتها أمريكا كانت جانبية جداً مثل الاعتذار سنة 1993 عن الإطاحة بالملكية في هاواي قبل قرن، و اعتذار أوباما عن حرق نسخ القرآن الكريم في أفغانستان سنة 2012، و الاعتذار سنة 2010 عن التجارب التي أجريت على أهل غواتيمالا سنة 1940، كما ذكر آدم تايلور في صحيفة واشنطن بوست (الوطن الكويتية 27/5/2016، و ن بوست 26/5/2016).

5-الاعتذار استثناء و ليس قاعدة

يقول تايلور أيضاً إن الاعتذارات استثناء و ليست قاعدة، و أعتقد أن أسباب ذلك عديدة:

أولاً لدينا الغطرسة الاستعمارية التي تمنع المستعمر المتكبر من طلب العفو من الضحية التي طالما نظر إليها بدونية و اضطهدها بلا رحمة كونها درجة أدنى منه في نظره،

و ثانياً الخوف من دفع تعويضات هائلة تناسب أحجام الكوارث التي حلت بالضحايا، فإذا كان العراق قد دفع أكثر من خمسين مليار دولار عن فترة احتلال الكويت لمدة سبعة أشهر، و طولب بأكثر من 350 مليار دولار، فكم يمكن تصور حجم المطالبات التي سيطالب بها ضحايا الإبادات و الاسترقاق و الاستعمار و حروب الأفيون و الاحتلال و الديون و التجارة الحرة على مدى خمسة قرون؟ كم نتصور أن تكون تعويضات شعب فلسطين وحده على الكوارث التي حلت به منذ وعد بلفور على مدى أكثر من قرن؟

و السبب الثالث مهم أيضاً و هو أنه بغض النظر عن ضخامة التعويضات، فإن معظم الحروب التي تتطلب التعويض لم تنته و إن انتهت مراحل منها، و الاعتذار عما مضى منها يتطلب التراجع عن المكاسب التي تحققت منها، و هذا ما لن تفعله أي دولة معتدية، القضية ليست بسيطة، التراجع عن جرائم الاستعمار سيفتح ملفات ما أدت إليه الحروب الاستعمارية التي بنت النظام العالمي و منحت الدول المنتصرة الهيمنة على العالم و شرعت لها نهبه و الاستيلاء على ثرواته، هذا في النموذج العام، لنتصور فقط نموذجاً مصغراً، لو اعتذرت الولايات المتحدة عن ظلم الهنود الأصليين، هل سيكون هذا مجرد كلام فارغ لا يسمن و لا يغني من جوع؟ أم سيفتح ملفات المعاهدات الهندية التي تم نقضها جميعها و ما سيتطلبه الاعتذار من رد الحقوق إلى أصحابها؟ هل ستوافق أمريكا على رد كل الحقوق التي سلبتها بعدما أقرت بها في أكثر من 370 معاهدة مع القبائل الهندية؟ مشكلة الهنود الحمر عويصة أكثر من مشكلة الأمريكيين الأفارقة، لأن حقوق الأفارقة يمكن التنصل منها بكون العبودية كانت قيمة مقبولة في زمنها، و لكن الانتهاكات التي لحقت بالهنود الحمر كانت مرفوضة حتى في زمنها و انتهكت المعاهدات التي أبرمت في تلك الأزمان، أمريكا منحت الجنسية (1924) لبقايا الهنود الحمر الذين نجوا من الإبادة بعد عقود نهاية الحروب الهندية و بعدما تحولوا إلى أقلية ضئيلة جداً و ضعيفة جداً لم تعد تؤلف أي خطر على السيطرة الأمريكية على القارة، و تحولت حقوقهم إلى مجال القضاء المحلي و الاتحادي للمطالبة بقطعة أرض هنا أو بحيرة هناك أو حقوق صيد أو ماء في مكان ما، و ظلت بقايا محمياتهم القاحلة غالباً مناطق مستقلة، يقيمون فيها احتفالاتهم السنوية لجذب السياح، و هو الوضع الذي لا يرضي نشطاءهم و يحاولون التأثير في الحياة السياسية بحركاتهم الاحتجاجية التي وصلت إلينا بدعمهم حقوق أهل فلسطين و معارضة العدوان على غزة، و طبعاً كما قال عاموس عوز مستنداً إلى السابقة الهندية انطلق الكتّاب و الأدباء في أمريكا لذرف الدموع على المأساة التي ارتكبها الأمريكيون ضد الهنود الحمر، و لكن المزاج الشعبي ينقلب ضدهم فوراً لو تبين في الأفق إمكان حصولهم على مكسب هام في الأرض أو الحقوق، و يقال بكل صراحة استنكارية: “هل سنعيد أمريكا إلى الهنود؟”، فالاعتراف بالذنب لا يعني بأي حال الاعتذار عنه و رد حقه، و يكفينا تذكر خطابات الرئيس الأمريكي السابق أوباما التي وجهها للمسلمين في بداية حكمه و قال فيها كلاماً معسولاً جداً أكسبه جائزة نوبل للمرة الأولى في تاريخها قبل تحقيق الإنجاز و بمجرد كلام قيل في الهواء، و ظن الكثيرون أنه سيغير مجرى التاريخ و ستتحول أمريكا إلى صديق حميم مع هذا المسلم المتخفي، و لكن لم يتغير شيء و لم يتحقق شيء من وعوده و أظهر أوباما بعد ذلك من العداوة لقضايانا ما فاق بها أسلافه لأن القضية لم تكن مجرد حواجز نفسية تتطلب بعض الشجاعة لتجاوزها بل كانت و مازالت مصالح راسخة تعمل ضد أمتنا.

6-كيف تتوقعون الاعتذار؟

و إذا كانت الحروب الهندية لم تنته حتى بعد إبادة معظم الشعوب الهندية و كونها اليوم بلا أي خطر على أمريكا، فكيف تتوقع أمة العرب و الإسلام أن حربها انتهت مع أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا بما يسمح لهم بتقديم الاعتذارات مع وجود هذه المساحة الواسعة من أمة الإسلام و الأعداد الهائلة من المسلمين الذين يطالبون بحقوقهم و مواردهم و يرفضون الهيمنة الأجنبية المصرة على إخضاعهم و نهبهم و السيطرة على مواقعهم و تحويلهم إلى مجرد أتباع مائعين ليس لهم لون و لا طعم و لا رائحة يتأقلمون حسب القوالب المعدة لهم كما تتشكل المياه في الأواني التي تصب فيها؟

أعتذر من المطالبين بالاعتذارات، و لكن الغرب يفهم منطقها أكثر منكم و يعرف أن هذه الاعتذارات ستبرر مطالبتنا إياه بالسير إلى حتفه عندما يتخلى عن سيطرته و نهبه، مواردكم

يتبع

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى