تعتبر العدالة الاجتماعية من أهم مرتكزات العدل التي لا يمكن أن يتحقق بدونها، فالمجتمع الذي ينعم بالعدالة و بخاصة الاجتماعية هو مجتمع يتمتع بمظاهرها من حرية في التعبير و الاختيار، و من مساواة في الحقوق و الواجبات، و من توزيع عادل للثروة.
و إنه لمن المؤسف أن توجهت اهتمامات الدول إلى مكافحة الإرهاب و محاربة الجريمة المنظمة و الاتجار بالمخدرات على حساب تقليص الفجوة بين الطبقات الاجتماعية و محاربة الفقر و الأمية و البطالة.
أسس العدالة الاجتماعية:
أولا: المساواة بين أفراد المجتمع
يشكل مبدأي الأخوة و المساواة أساس العلاقة بين أفراد المجتمع المسلم كما صوره الرسول صلى الله عليه و سلم حين قال في حجة الوداع:( يا أيها الناس ! ألا إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، و لا لعجمي على عربي، و لا لأسود على أحمر، و لا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت? قالوا: نعم ، قال: ليبلغ الشاهد الغائب).( )
و يكرر القرآن الكريم في مواضع عدة أن الجنس البشري كله خلق من تراب، و من نفس واحدة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا ﴾، ( النساء:01)، و قال: ﴿ وَ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾، (الروم: 20).( )
و المساواة التي دعا إليها الإسلام تكون بالمساواة أمام القانون، و بالمساواة في تقلد مناصب الدولة كل حسب اختصاصه، و بالمساواة في التنفع من خيرات الدولة و أموالها، بالإضافة إلى المساواة في الحقوق و الواجبات، ذلك أن هذه المظاهر الناتجة عن المساواة تكسب المجتمع حيوية عظمى، و أفراده الرغبة في الإنتاج و التطور و التقدم عندما يكونون على يقين من أن جهودهم لن تصطدم بجدار البيروقراطية، أو أن فضل انجازاتهم سينسب لهم لا لغيرهم من الأعيان.
و لا بد من الإشارة إلى أن المساواة المقصودة هنا هي القائمة على رفض التمييز و العنصرية، أما عدا ذلك فيجب مراعاة التساوي في الاستحقاقات إذ من الظلم مساواة العاجز بالمنتج، و المبدع بالفاشل، و المبتدأ بصاحب الخبرة، و قد أشار القرآن إلى ذلك من خلال قوله تعالى: ﴿ وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَىءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَ هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾، (النحل:76).
ثانيا: توزيع العادل للثروة
و يعتبر التوزيع العادل للثروة بين أفراد المجتمع الركن الثاني من أركان العدالة الاجتماعية، إذ لا يمكن تصور الأخيرة بدون تقسيم عادل للثروات خال من المحسوبية و الاختلاسات، و التورط المالي للمسئولين، و غسيل الأموال.
و قد حذر القرآن الكريم من استئثار فئة دون فئة بالثروة، و بشر من كان همهم جمع المال و كنزه بالعذاب الأليم، و يندرج تحت هذا المسمى في العصر الحالي أغنياء المسلمين الذين لا يراعون حقوق العباد و لا حق رب العباد في هذه الأموال المكتنزة، قال تعالى: ﴿ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، (التوبة:34).
كما حذر من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، قال تعالى: ﴿ وَ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، ( البقرة:188)، و الذي من مظاهره في عصرنا الحالي الرشاوى، و الاختلاس و تبيض الأموال، و ليس هذا فقط بل يندرج تحته أبسط حالات السرقة و التي لا يرضى أصحابها أن تسمى كذلك، و قد استطاع الرسول الكريم و من بعده الخلفاء الراشدين تحقيق هذا الركن الأساسي من العدالة الاجتماعية من خلال منظومة الأخلاق التي دعا لها و المتمثلة في الزكاة و الصدقات، و تجنب أكل المال بالباطل و الربا و الرشوة، فأنتج مجتمعا ربانيا يتساوى أفراده في المداخيل كل حسب استحقاقه و يتسابقون إلى الخيرات كل حسب استطاعته حتى فاض بيت المال بالصدقات التي لم تجد طريقها إلى الفقراء؛ لسبب بسيط: لا يوجد فقراء في المجتمع، فأي شريعة غير الإسلام قادرة على ذلك.
و ما سبق من عدل اجتماعي حققه الإسلام يمكن إجماله في أمرين أساسيين:
أ- الأول: الاهتمام بالفئات المحرومة:
و يمثل ذلك في دعم هذه الفئات و مساندتها ماديا ليتوازن المجتمع المسلم، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقَابِ وَ الْغَارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ، (التوبة:60)، كما لفت انتباه عامل الصدقات إلى المتعففين من الفقراء، فقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَ مَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ ، (البقرة:273).
ب- الثاني: العمل عل تحقيق المساواة في الحقوق
و هو أمر مهم لتحقيق العدالة المالية بين أفراد المجتمع كل حسب درجته العلمية و خبراته من غير إقصاء و لا محسوبية، و لا يقتصر ذلك على منطقة دون أخرى فلا فرق بين العاصمة و بين أقصى مكان عنها في خريطة الدولة، فالتنمية من حق جميع أفراد المجتمع الأمر الذي يتطلب من الخبراء تخطيطا دقيقا و جهدا مضاعفا لتحقيق ذلك.
ثالثا: احترام حقوق الإنسان
كفل الإسلام حقوق الإنسان – المسلم و الذمي على حد السواء- المالية و المعنوية، و حفظها من العبث و التعدي، و حفظ كرامته و إنسانيته، قال تعالى: ﴿ وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ ، (الإسراء:70).
و من أهم مظاهر احترام حقوق الإنسان التي كفلها الشرع ما يلي:
1- الحق في الحياة:
هذا الحق كفله الشرع للإنسان و هو جنين في بطن أمه، فحرم الإجهاض و كفله له و هو إنسان، ما لم يتعدى هو على هذا الحق فيوجب ما يستبيح دمه، قال تعالى: ﴿وَ لاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ ، (الأنعام:151)، كما حرم عليه الانتحار قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾، (النساء:29).
2- الحق في الحرية المسئولة:
و يقصد بالحرية المسئولة الحرية التي تراعي حقوق و حريات الآخرين ذلك أن الحرية بقدر ما هي ضرورية و لازمة و لا مناص عنها، فإنها تسمح للأقوياء باستبعاد الضعفاء، و للأغنياء باستغلال الفقراء، و العدل وحده الذي يقف دون ذلك. ( )
فالشخص حر في فكره، حر في ماله، حر في أفعاله بما لا يخالف الشرع الذي يقيد هذه الحرية حتى لا تتحول على طغيان و جبروت يدمر الشخص و المجتمع.
و التاريخ الإسلامي يحفل بأروع الأمثلة عن احترام حقوق الإنسان لما كان الشرع هو الدستور المتبع، كما يحفل بأسوأ الأمثلة عن انتهاك حقوق الإنسان لما أصبح الهوى هو دستور السلاطين، و مثال الأول: حق المعارضة الذي كفله الخلفاء الراشدون لرعيتهم حتى سيدنا علي الذي واجه معارضة باغية خارجة عن الشرع لم يضطهدها و لم يقاتلها حتى أعلنت الخروج و الحرب على الأمة، أما مثال الثاني، فهو: حالة الفتن التي عصفت بالأمة الإسلامية في العصر الوسيط و التي كان سببها الأول بالأساس جور السلاطين الذي دفع بالمواطن البسيط إلى اعتناق مذاهب و توجهات لا يفهم منها غير أنها تسعى إلى إحقاق الحق في حين كانت تحمل في باطنها ما هو نذير الفناء و الدمار للأمة جمعاء.
3- الحق في الملكية:
فحب التملك فطرة جبل عليها البشر، فحماها الإسلام من الانتهاك و التسلط، فحرم السرقة، فقال تعالى: ﴿ وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، (المائدة:38)، و حرم الربا و الرشوة و غيرهما فقال تعالى: ﴿وَ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَ تُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ، (البقرة:188).
و في الأخير يمكن القول إن العدل الاجتماعي و الاقتصادي الذي شهده المجتمع المسلم و الذي طبق في زمن العمرين، أنشأ مجتمعا عادلا تميز بأمرين مهمين:
1- التوزيع العادل للثروة على كل أفراد المجتمع كيلا و وزنا.
2- سياسة التكافل الاقتصادي و التي مثلها العطاء الذي فرضه عمر بن الخطاب لكل مولود، و العطاء الذي فرضه عمر بن عبد العزيز لكل شخص معاق.
الهوامش:
( ) ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مؤسسة البعثة، ط(1)، 1992م، بيروت، ص:517.
(2) المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة أهل البيت، ط(1)، 1409هـ، 1989م:(75/251).
(3) جمال البنا، نظرية العدل في الفكر الأروبي و الفكر الأروبي، دار الفكر الإسلامي، القاهرة، ص: 06.