على مدار عُمر الإنسان على الأرض تطوَّرت الوسائل و الأدوات المتاحة أمامه، و لهذا التطور دور ملحوظ و تأثير فعَّال في نمط حياة الإنسان المعاصر؛ فقد أدى هذا التطور إلى تقليل الوقت المستهلك في فعل الأشياء و ممارستها عمومًا.
(١)
في قديم الزمان و بداية رحلة الإنسان على الأرض، كان السفر إلى البلدان الأخرى يتطلب وقتًا طويلًا، فالسفر و الترحال بين البلاد كان رحلة شاقة لا يقدر عليها كلُّ أحد تمتد إلى شهور و أسابيع، أما الآن، فالأمر لا يستغرق ساعات قليلة.
و من وقت قريب كانت بعض (المشاوير) المصالح الهامشية تقتل يومًا بأكمله، أما الآن فبات الأمر أكثرَ سهولةً و يسرًا؛ بعد أن أصبح بإمكانك أن تُنجِزَ المهام المطلوبة منك بسهولة من خلال هاتفك المحمول في جيبك داخل غرفة نومك.
و لا يقتصر الأمر على وسائل المواصلات، بل كلامنا هنا يشمل كل الأدوات و الوسائل التي كان الإنسان يستخدمها؛ حيث تطورت و تطورها أفسح للإنسان المعاصر المزيد من الوقت.
كان الفلاح في بدايته يعتمد على أدوات يدوية بسيطة مما يستغرق وقتًا طويلًا، و جهدًا مضنيًا، أما الآن بفضل الأدوات الحديثة (الجرارات، مكنة الحصاد…)، قلَّ الوقت و الجهد أضعاف ما كان، و أصبح يمكنه الآن أن يحصد أفدنة في بضع ساعات.
كذلك الأمر في الأكل، كانت الوجبة رحلة طويلة شاقة يخوضها الإنسان في القدم، بداية من رحلة صيد الحيوان إلى البحث عن الفحم و الحطب، من ثَمَّ إشعال النيران، أما الآن فالأكل الذي تريده وتختاره يصبح جاهزًا أمامك في بضع دقائق، بل لو تأخر المطعم علينا دقيقة أو اثنتين أقمنا الدنيا و لم نُقعدها.
أيضًا التواصل مع الآخرين تغيَّر هو الآخر، فبعد أن كانت الرسالة إلى شخص في مدينة أخرى أمرًا يتطلب أيامًا و لياليَ، فهو الآن لا يتخطى ضغطة زرٍّ.
خلاصة الأمر و ما نريد قوله هو: إن تطور الوسائل و الأدوات ساهم بصورة واضحة في تقليل و تقليص الزمن المستهلك في إنجاز المهام و الأنشطة، و نتيجة لذلك أصبح لدى الإنسان فسحة من الوقت الإضافي ينعَم به الإنسان الحديث.
و أظن ذلك هو التفسير المقصود من الحديث الشريف في صحيح مسلم الذي جاء فيه: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، و يكون الشهر كالجمعة، و تكون الجمعة كاليوم، و يكون اليوم كالساعة، و تكون الساعة كاحتراق السعفة)).
و سيأتي مزيد بيان في الفقرة القادمة.
(٢)
و على الرغم من ذلك، يصحبنا شعور دائم بأن الوقت يمر في لمح البصر، السنون تحولت إلى شهور، و الشهور تحولت إلى أيام، و الأيام إلى ساعات.
كيف نشعر بهذا على رغم ما أثبتناه في الأعلى بأن الإنسان الآن لديه فسحة أكبر من الوقت، صنعتها الأدوات و الوسائل المتطورة التي يستخدمها في مختلف شؤون حياته؟
(ا)
الحقيقة هي أن الأدوات و الوسائل نفسها التي ساعدتنا في توفير كمٍّ كبير من الوقت تُفقدنا الشعور به، يرجع ذلك إلى أن الإنسان اعتاد على الإنجاز السريع في كل شيء، فبدلًا من النزول إلى المحلات و تضييع وقت كامل في البحث عن الملابس المناسبة، نفعل ذلك من كنبة البيت من خلال الشراء عبر الإنترنت.
اعتيادنا على الإنجازات السريعة أوهمنا الشعور بسرعة الوقت، و الحقيقة هي أن المهام هي التي باتت تنجز في وقتٍ سريع، أما الوقت فكما هو، و أظن أن هذا هو المقصود من الحديث الشريف المذكور، و الله أعلم.
(ب)
الحياة الحديثة مليئة بالمهام و الإنجازات، فالإنسان دائمًا مشغول غير متفرغ يفكِّر دائمًا، و لو في تفاهات، أصبحت عقولنا مزدحمة بالمهام اليومية، و عدم تفرغ الإنسان، و انشغاله الدائم يعدم إحساسه بالوقت، و الجحيم الأكبر هنا يتمثل في وسائل التواصل و الإنترنت، و سماعات الهاند فري، لم تعُد ترى إنسانًا يجلس وحده يفكر و يعطي مساحة لعقله يقدِّر فيها اللحظة الحالية، و يشعر بها جيدًا.
بالإضافة – و هذا في رأيي الشخصي – إلى انعدام الإنجاز في صورته الحقيقية، و هنا أتكلم عن الإنجاز الذي يحمل قيمةً و معنًى، فالسنة المليئة بالأحداث المهمة، و الإنجازات الحقيقية القيِّمة يتذكرها الإنسان جيدًا، أما انشغال الإنسان في الوقت الحالي فهو أشبه بالانشغال بالفراغ؛ انشغال باللاشيء؛ فالوقت الذي وفرته لنا الأدوات و الوسائل المتطورة نُبدِّده في مشاهدة أفلام تافهة و كتب ضعيفة، و التيك توك، و الإنستغرام، و غيرها من الممارسات الفارغة، فارغة من المضمون و المعنى، لا قيمة لها، فلا تبقى في الذاكرة، و لا تضيف لسنوات العمر و لا تصقلها.
و لعباس العقاد كلام يلوم فيه الشباب على الأوقات التي يضيعها في ممارسة أشياء لا قيمة لها؛ فيقول: “ليس هذا وقتًا فارغًا لأنهم مشغولون فيه، و ليس هذا وقتًا مملوءًا لأنهم يملؤونه بما هو أفرغ من الفراغ، هذا ليس بوقت على الإطلاق”.
و يصف لنا العقاد معنى وقت الفراغ عنده فيقول: “هو الذي بقي لنا لنملكه و نملك أنفسنا فيه بعد أن قضينا وقت العمل مملوكين مسخَّرين؛ لِما نُزاوله من شواغل العيش و تكاليف الضرورة”.
و هو كلام نفيس يجب أن تعتني به.
و يقول عن أهمية أوقات الفراغ و هي مقصودنا من الفسحة التي أتاحتها لنا الأدوات و الوسائل المتطورة: “نتعلم منه كل شيء، و لا نتعلم شيئًا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال، إلا إذا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت فراغ”.
“ساعات هي ألزم لنا من ساعات العمل… فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير فراغ الحياة”.
(٣)
و على الرغم من فسحة الوقت التي اكتسبناها بسبب تطور الوسائل و الأدوات، و على الرغم من شعورنا الدائم بسرعة مرور الوقت غير المعقولة و كأن السنين تمضي في لحظات، فإننا نكاد نتفق جميعًا على أن هناك شعور دائم يصحبنا؛ ألَا و هو الملل.
و لا يُفاجِئك إن قلت لك: إن سبب شعورنا بالملل هو نفسه السبب في شعورنا بسرعة مرور الوقت الذي يعود إلى تطور الوسائل و الأدوات.
الحياة الآن سريعة جدًّا نتيجة تلك الوسائل، و لكن في الحقيقة يد التطور هذه لم تمتد إلى كافة جوانب الحياة، فبقِيَت أشياءُ لم ينطبق عليها ذلك، و الأشياء هذه هي السبب في شعورنا بالملل فنشعر حين ممارستها بالملل، و ذلك بسبب أن العقل تأقلم على الساعة في الإنجاز، فعندما تقف أمامه مثل هذه الأفعال، و عندما يتعرض لأفعال لا تتناسب مع نظام عمله الجديد، فسريعًا ما يشعر بالملل و الضيق و الضَّجَر، و يصعُب عليه أداء مثل هذه الأشياء و تصبح مهمة شاقة.
و يفسِّر لنا ذلك: لماذا نستطيع أن نقضي ساعات متواصلة على تطبيقات السوشيال ميديا – تيك توك مثلًا – بينما لا نستطيع أن نفعل ذلك بنفس المدة أمام مادة علمية؟ لأن آلية عمل المخ في عصرنا هذا لا تناسبه أفعالٌ؛ مثل: التركيز و المذاكرة و التعلم، بينما تناسبه تطبيقات السوشيال ميديا و المُلهيات.
و على الرغم من أن الملل يروَّج له بأنه شبح الحياة المعاصرة فإننا في أمَسِّ الحاجة إليه؛ فالملل مساحة تفكير هادئة و عميقة، يمارسها العقل بين زحام و تخمة الملهيات التي يتعرض لها بشكل دائم.
نحن في أشد الحاجة إلى إعادة توجيه وقت الفراغ.
و يجب أن ندرك أن هروبنا من الملل إلى الوسائل الترفيهية و الملهيات هو بمثابة الهروب من الواقع إلى المخدِّرات.
أخيرًا، يجب أن نعلم أن محاولتنا للهروب من (قتل) الملل هي محاولة للهروب من (قتل) الوقت، و هي أيضًا محاولة للهروب من (قتل) أنفسنا.
الرابط : https://www.alukah.net/culture/0/173300/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%86%D8%B4%D9%83%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D8%B9%D8%A9%D8%9F/