تربية

كيف تعد أبناءك للحياة بعد غيابك؟

عن إسلام أونلاين

 

إنّ الموت حقٌ على كل إنسان، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185]. و إن كان الفراق قاسياً و مؤلماً، فإن واجب الوالدين الأول هو إعداد أبناء للحياة التي لا تخلو من التحديات، و للأيام التي قد يغيب فيها الأب أو الأم عن المشهد، سواء بسبب الموت أو الظروف التي قد تفرض غياب أحدهما. و قد جاء هذا المقال ليسلط الضوء على بعض الوسائل المفيدة لتربية الأبناء إجابة عن السؤال في العنوان: كيف تعد أبناءك للحياة بعد غيابك؟

قال النبي ﷺ: “كلكم راعٍ و كلكم مسؤول عن رعيته” [صحيح البخاري]. و إنّ الرعاية لا تقتصر على الحاضر فقط، بل تمتد إلى المستقبل، بحيث نعد الأبناء ليكونوا قادرين على مواجهة الحياة دون أن يشعروا بالضياع عند فقدان أحد الأبوين.
و قد جسد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعظم صور الرعاية للمجتمع عندما رفض توزيع أراضي الفتوحات على الجند، و قال: “لو وزعتها لصار آخر الناس لا شيء لهم”[1]، كانت رؤيته أن الرعاية تمتد للأجيال القادمة، و تتحقق بإعداد أسس الاستمرارية و التنمية، و هذا درس مهم للآباء في ضرورة التفكير بمستقبل أبنائهم بعد رحيلهم.

غرس الإيمان و الصلاح في نفوس الأبناء
إنّ الصلاح و الإيمان من أعظم ما يتركه الآباء للأبناء، قال تعالى: ﴿وَ كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: 82] ، فالصلاح لا يعود نفعه فقط على الوالدين، بل على الأبناء أيضاً. لذلك، يجب أن يكون الأبوان قدوةً في الالتزام الديني و حسن الخلق، و أن يحرصا على تعليم الأبناء القيم الإيمانية التي تضمن لهم السكينة و القوة عند غياب الأبوين.

يؤكد ابن القيم أن غرس الإيمان و حسن الخلق في الأبناء يبدأ من الوالدين بالتوجيه و التربية الصالحة، يقول: “و أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء و إهمالهم لهم، و ترك تعليمهم فرائض الدين و سننه” [تحفة المودود بأحكام المولود].

التواصل الحسن و صلة الرحم كقاعدة للبركة و النجاح
أن تكون صالحاً ودوداً مع أهلك و أصدقائك و أن تصل رحمك هو ضمان لودّ الناس لك و لأبنائك من بعدك. إن صلة الرحم من أعظم أسباب البركة و النجاح في الحياة، قال النبي ﷺ: “من أحب أن يُبسط له في رزقه، و يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه [صحيح البخاري].

إنّ الأبناء الذين يرون آباءهم يحترمون أهلهم و يحبونهم و يتواصلون معهم بودٍّ، يتعلمون أهمية هذه القيم و يضمنون استمرار هذا الودّ حتى بعد غياب الوالدين.

التربية على الاستقلال و المسؤولية
إنّ أعظم ما يُقدمه الوالدان لأبنائهم هو تربية تغرس فيهم الاستقلالية و القدرة على الاعتماد على النفس. يقول النبي ﷺ: “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَ كُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” [صحيح البخاري]. فمسؤوليتنا تجاه أبنائنا لا تقتصر على توفير الطعام و الشراب، بل تتجاوز ذلك إلى تربيتهم على تحمل المسؤولية، و اتخاذ القرارات بحكمة.

اجعلوا أبناءكم قادرين على إدارة شؤونهم بأنفسهم، سواء كان ذلك في أمورهم الدراسية، أو علاقتهم مع الآخرين، أو تعاملهم مع أموالهم. فالأبناء الذين يُربّون على الاعتماد الكامل على آبائهم يصبحون عاجزين أمام أي تحدٍّ إذا غاب سندهم.

و مما أثر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان يشجع على تربية الأولاد على فنون العلم و القتال و الاستقلالية و مهارات الحياة العملية، لأنها تعينهم على الاعتماد على أنفسهم، و تكون داعمة لتقوية شخصياتهم و نفسياتهم. و من مقولاته:

“علموا أولادكم السباحة و الرماية و ركوب الخيل.”
تعلموا العلم و علموه أبناءكم، و تعلموا له السكينة و الوقار[2]، لأن العلم أساس بناء الشخصية المستقلة و الناجحة، و من خلاله يستطيع الأبناء اتخاذ القرارات الصحيحة و تحمل مسؤولياتهم.
زرع الإيمان و اليقين بالله
إنّ الإيمان بالله و الثقة برحمته و حكمته يُعدّ أعظم سند للأبناء في مواجهة أهوال الحياة. يجب أن تكون التربية على الإيمان جزءاً لا يتجزأ من منهج الوالدين. تعليم الأبناء أن الله هو “الكفيل” و”الرازق” و”المعين”، و أن فقدان الأب أو الأم لا يعني انقطاع الرحمة الإلهية.

قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: 9]  فقد أوصى الله باليتيم، و أكد أن رحمته تحيط بهم، و هو الذي يبعث لهم من يسد احتياجاتهم و يعينهم على مصاعبهم.

و يؤكد ابن القيم رحمه الله في كتابه “مدارج السالكين” على هذه القيمة الإيمانية اليقين بالله تعالى حين قال:

“العبد إذا كان واثقًا بالله قويًا في توكله، فإنه لا يضيع مهما تكالبت عليه المحن.”

فكان تعليم الأبناء اليقين بالله يقوي نفوسهم و يعينهم على مواجهة الصعاب بثقة و طمأنينة. و هذه أم الإمام مالك كانت تردد على مسامعه منذ الصغر: “يا بني، إذا تعلمت العلم فاجعل نيتك وجه الله، فإنه سيكفيك.” و هذا ما رسخ فيه اليقين و التوكل على الله.

غرس القيم و الأخلاق السامية
من أعظم ما يتركه الوالدان لأبنائهم هو الأخلاق و القيم السامية التي تكون نبراساً لهم في الحياة. علموا أبناءكم الصدق، و الأمانة، و الكرم، و حسن التعامل مع الآخرين. فإن غاب الأبوان، بقيت هذه القيم درعاً يحميهم من الوقوع في الخطأ، و سبيلاً لكسب محبة الناس وتقديرهم.
و قد قال الشاعر:

وينشأ ناشئ الفتيان منا ** على ما كان عوده أبوه

التربية على إدارة المال و المعيشة
علّموا أبناءكم منذ الصغر كيفية التعامل مع المال، و كيفية الادخار و التخطيط للمستقبل. الأبناء الذين ينشؤون على ثقافة الإدارة المالية يصبحون قادرين على تحمل الأعباء الحياتية حتى في غياب آبائهم.
و من الأهمية بمكان أن يتعلم الأبناء أن الكرامة و القناعة أعظم من أي ثروة. قال رسول الله ﷺ: “ليس الغنى عن كثرة العرض، و لكن الغنى غنى النفس” [صحيح مسلم].

حسن الاختيار للأصدقاء و الداعمين
علّموا أبناءكم كيف يختارون أصدقاءهم بعناية، و كيف يلجؤون إلى أهل الخير و المشورة وقت الحاجة. فإنّ الرفقة الصالحة هي سند الأبناء بعد الله في أوقات المحن. قال النبي ﷺ: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل” [سنن أبي داود بسند حسن].

تأمين الحياة و إعداد الأبناء بعد الغياب
على الوالدين التخطيط لمستقبل الأبناء من الناحية العملية أيضاً، سواء من خلال كتابة وصية، أو تنظيم الأمور المالية، أو التأكد من أن الأبناء لديهم سندٌ من أهل العائلة في حالة فقدان أحد الوالدين. التفكير في تأمين مستقبل الأبناء يجب أن يكون بتعليمهم الاعتماد على الله و اتباع طريق التقوى، يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “إن أولادي أحد رجلين: إما رجل يتقي الله، فالله يتكفل به، و إما رجل فاجر فلا أريد أن أعينه على فجوره.”

و مما قد يعود نفعه على الأولاد من جانب تأمين الحياة ما يذكره الفقهاء من بدائل التأمين التجاري:

أن تحاولوا استثمار أموالكم في مشروع آمن إلى حد ما، كالاستثمار العقاري و نحوه، بحيث ينعكس دخله على موارد الأسرة، ثم يؤول بعد الوفاة إلى ملكية الأولاد، حسبما هو معروف من أحكام الميراث في الشريعة الإسلامية.
محاولة توجيه كل واحد من الأولاد إلى مجال عملي معيشي مناسب، يتمكن فيه من الكسب الحلال.
الخاتمة
إنّ أعظم إرث يتركه الوالدان لأبنائهم هو الإيمان القوي بالله، و القيم السامية، و القدرة على تحمل الحياة بثبات و صبر. و كما قال الإمام الشافعي:
ليس الفتى من يقول كان أبي ** إن الفتى من يقول ها أنا ذا

فجهزوا أبناءكم ليقولوا: “ها نحن ذا”، و ليكونوا مستعدين للحياة، حتى لو غاب الأب أو الأم، و ليبقوا خير امتداد لكم في هذه الدنيا. قال تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11]. فإن التربية مسؤولية عظيمة و وصية إلهية.

فاحرصوا على أن تكونوا قدوة صالحة، و أن تعدوا أبناءكم لمواجهة الحياة بثقة و رضا، ليكونوا خير خلف لخير سلف، حتى في غيابكم. يقول الإمام ابن القيم : فَمن أهمل تَعْلِيم وَلَده مَا يَنْفَعهُ وَ تَركه سدى فقد أَسَاءَ إِلَيْهِ غَايَة الْإِسَاءَة وَ أكْثر الْأَوْلَاد إِنَّمَا جَاءَ فسادهم من قبل الْآبَاء و إهمالهم لَهُم وَ ترك تعليمهم فَرَائض الدّين و سننه فأضاعوهم صغَارًا فَلم ينتفعوا بِأَنْفسِهِم وَ لم ينفعوا آبَاءَهُم كبارًا.

الرابط : https://islamonline.net/%d8%a5%d8%b9%d8%af%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%a8%d9%86%d8%a7%d8%a1-%d9%84%d9%84%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى