يتسم عصرنا بالتسارع و الدعوة إليه في كل شأنٍ أو حلٍ سواء كان ملحًا أو متأنيًا، أسقطنا نمط حياتنا البطيئة بالضرورة على سرعة الحواسيب، فسقطنا في فخ التوتر و القلق المهيمن على ذواتنا البشرية، ليصبح مرض العصر بامتياز.
ترى معظم الناس يتقلبون في فخ السرعة على الدوام، فهم، أو نحن، في المرض نبحث عن العلاج السريع و المهدئات، و في الرياضة نبحث عن الجسد الرشيق لا الصحة، أما في الفن فنبحث عن متعةٍ لحظيةٍ سريعة؛ في حين أن الموسيقى كذلك صارت تتسم بالرتم السريع، و في الفيلم نرى القصة الخفيفة و الأحداث المتسارعة، أما في الرسم؛ فضرب الفرشاة في اللوحة لإظهار رسمةٍ بأقل وقتٍ ممكن بهدف إبهار المشاهد في عرضٍ مبهرج.
ليس بعيدًا عن ذلك، نرى أنفسنا في العلم نبحث عن معلوماتٍ و معارف في دقيقتين و ربما ثوانٍ معدودة توهمنا بالحكمة و النباغة، و في العلاقات نتهافت لبنائها بأسسٍ هشةٍ لا ترتكن على مبادئ أو حدود، فتؤول إلى السقوط و block بلغة مواقع التواصل الاجتماعي كفيلٌ بإلغائها، و إضافةٌ أو add مرادفٌ لعلاقةٍ جديدةٍ مهددة بالزوال في أية لحظة، و قس على ذلك في تربية الطفل و السفر؛ اللذان من المفترض و الطبيعي أن يكون التريث شعارهما، و غير ذلك من أمورنا و شؤون الحياة التي سيطرت عليها العجلة.
لماذا هذه السرعة؟
أدى هذا الوضع نحو مآلاتٍ مزريةٍ على الفرد و المجتمع لتبصم فترتنا بالسرعة، فلازمت الكلمة كل فعلٍ بشري، كما أن جودة الشيء تقاس بسرعته لا بوظيفته، مآلاتٌ صيّرت الإنسان آلةً دقيقةً و غبيةً تلهث وراء شيءٍ ما، عِبادةٌ جديدةٌ تستنزف طاقته، لا يستمتع، و لا يتورع، و لا يرى الحياة بجماليتها و عذوبتها ألمها و معاناتها، أو كما أشار وليام دين هاولز “يولد المرء و يتزوج، يعيش و يموت، في لُجَّة ضجيجٍ محمومٍ نظن معه أنه على وشك الجنون”، جنونٌ ليس من الإنسانية بل نقيضها، هي لعنةٌ هيمنة على الإنسان فانتشى بها، فغدت الحياة سطحيةً واهنةً و هشّة، نسجت خيوط العنكبوت و مع أول نسمةٍ تتناثر في الهواء، يحسب فيها الإنسان أنه حقق كثيرًا، لكنه في الحقيقة فشل في الاختبار الأول؛ أن يكون إنسانًا من جسدٍ و روح!
الروح: المكون الأهم
تسارعٌ مميتٌ غلَّب شهوات الجسد على سمو الروح، يتجارى في كسب ثمارها و تحقيق مآربها فينسى الجزء الأهم من مكونه: “الروح”، تلك النفخة الإلهية -حسب الاعتقاد الإسلامي- التي تحتاج التأني و الروية، السكينة و الخشوع، لينعتق الإنسان من العبودية نحو التحرر و الصفاء الدائم.
لقد انسلخت الحياة عن عمقها و تشابكاتها و من غناها، و أمست نظرة الإنسانية لها نظرةً أحاديةً ضيقة، مجرد أرقامٍ و حسابات، ساعاتٍ و دقائق و ثوان؛ إنها جريٌ مستمرٌ و محمومٌ لتحقيق المستطاع في أقل وقتٍ ممكن، و إعلان حربٍ شعواء على الملل و الروتين ذاك الاختراع الحديث، بحيث ظهرت الكلمة بالكاد قبل 150 عامًا؛ كما يؤكد كارل أونوريه في كتابه “مديح البطء”، و ذلك مع انبثاق الثورة الصناعية و بداية الرأسمالية، ثم مفهوم الربح السريع و الوافر، فاستفحل الوضع عند الثورة المعلوماتية التي نعيش على إثرها، نتهافت و نتصارع لكسب إنجازاتٍ مادية.
إننا في حالة استنفارٍ و فِرارٍ دائمٍ مع ذواتنا و مع الآخر، لربما سبقنا أحدهم إليه، ذاك الشيء المجهول الذي لا يُعلم كينونته، في سبيل الظهور و وهم الانتصار الأنا و الأول، من تفاخرٍ و تكاثرٍ ترى ذمهما في الآية الكريمة رقم 20 من سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ..}، فلا تستطاب اللحظات و لا يظفر بالتأمل و التفكر فيها، و بعد حينٍ تجد سنواتٍ من عمر الإنسان ذهبت سدىً في مهب الريح، و لا ذكرى يطيب لها المقام تهنأ بالقرب الإلهي في لحظة تجلٍ روحانيٍ و سامٍ.
هذا الأمر يذكرني بقصةٍ سبق أن استمعت إليها، أوردها فيما يلي: أن شخصًا حقق من الأموال و الدور و المناصب الكثير، و في لحظةٍ من لحظات العمر و هو في ذروة الانتشاء بالتسارع و التسابق، أخبرته ابنته أن فتىً آتٍ لخطبتها، توقف الزمن به و تملكته الحسرة على أوقاتٍ ضيعها لم يكن مع ابنته و هي تكبر.
العجلة طيش
تماشت طبيعة البشرية استنادًا للآية 37 من سورة الأنبياء: {خُلِقَ الْإنسَانُ مِن عَجَلٍ} مع عبادة السرعة و العجلة التي يشهدها عصرنا، فتآلفت فيما بينها و توافقت، ثم أضلت الإنسان و أغوته غواية الشيطان.
و هنا قد يقول قائلٌ -و هم كثيرون-: أليست السرعة كينونتنا و جوهرنا؟ فما الضرر إذًا؟ أليست لها فوائد جمة؟ فبها علونا و تقدمنا؟ و بها حققنا مآربنا و أهدافنا؟ ألم تقرب البعيد و تجعل عالمنا قريةً صغيرة؟ و الأهم من هذا و ذاك؛ قد حققت لنا فراغًا شاسعًا استثمرناه في كسب الأموال و المرفهات؟
إن الآية الكريمة في سياقها قد ذمت هذه الصفة و استحقرتها، فهي فينا مع صفاتٍ أخرياتٍ قصد الامتحان الدنيوي، لكنها ليست في صالحنا العام فردًا أو جماعة، بل مهلكةٌ و طيش، و لهذا جاء في الأثر: (التأني من الله و العجلة من الشيطان).
في معرض الأثر السابق المروي عن رسول الله ﷺ؛ يعلِّق الإمام ابن القيم عليه في كتابه الروح قائلًا: “العَجَلَة مِن الشَّيطان فإنَّها خِفَّةٌ و طيشٌ و حدَّةٌ في العبد تمنعه مِن التَّثبُّت و الوقار و الحِلْم، و توجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، و تجلب عليه أنواعًا من الشُّرور، و تمنع عنه أنواعًا من الخير”.
إن التأني و التريث حِكمةٌ و نباهة، فعلى أساسها يشيد العلم و يتدرج الإنسان في مناصبه، و يحافظ على صحته الجسدية و العقلية على المدى البعيد، و تقام العلاقات و تشد بعضها بعضًا كالبنيان المرصوص، و بها يحقق الإنسان اللذة الروحانية و الاستمتاع الحق لا الباطل عند السفر أو عند أوجه الفن، لتنقش التجربة و يستفاد منها في قابل الأيام، و تربية الطفل بتأنٍ ينشئه سويًا ناضجًا و قادرًا على مواجهة الحياة بجدٍ و مرونة، و ليس بهشاشةٍ نفسيةٍ مع أول عثرةٍ يسقط في الهاوية.
فالغاية ليست عيش البطء، و إنما تحقيق التوازن، فبدلًا من فعل كل شيءٍ بشكلٍ أسرع، نفعل كل شيءٍ بالسرعة الصحيحة؛ أحيانًا بسرعة، و أحيانًا بتروٍ، و أحيانًا ما بين العجلة و التريث، و هذا ما نجده عند الإمام الصنعاني في كتابه سبل السلام: “العجلة هي السرعة في الشيء، و هي مذمومةٌ فيما كان المطلوب فيه الأناة، محمودةٌ فيما يطلب تعجيله من المسارعة إلى الخيرات و نحوها، و قد يقال: لا منافاة بين الأناة، و المسارعة، فإن سارع بتؤدة و تأنٍ فيتم له الأمران، و الضابط أن خيار الأمور أوسطها”.
ختام الكلام
حياةٌ سريعةٌ ينتج عنها التوتر و الاضطراب لا يرتكن الإنسان فيها للطمأنينة و السكينة، أما إعادة ضبط كينونة الإنسان فله سرٌ كما أرى، يكمن في العزلة و في تحقيق الانغماس في الطبيعة و البعد عن ضجيج المدينة و المشتتات، و على رأسها الهواتف و كل ما هو إلكتروني، و القرب من عيش البساطة و الهدوء، عيش القرية و أهلها، تتمشى وسط الجبل بين الأشجار و بمحاذاة الأودية، و في الخلفية معزوفةٌ تتناغم مع النفس البشرية؛ حفيف الشجر و خرير الماء و زقزقة الطير و أصوات الغاب، مختلفةً متجانسةً كأن عازفها واحد، و سماع صوت التنفس و دقات القلب في تناغمٍ مع المحيط عند كل خطوةٍ تخطوها نحو المرتقى، تتأمل و تتفكر في آلاء الله تسبحه لعظمته و جلاله، فتصلي صلاة العابد الناسك ليس بينك و بينه حجاب، فتقترب من سر الروح في سكونها و طمأنينة النفس، لتنسى صخب الحياة و ضجيجها، فترجع للنمط الحياتي بإشراقٍ جديدٍ يعينك على الاستمرار.
هذا هو سر الصلوات الخمس ربما، فقد كانت لينسى الإنسان الدنيا و سرعتها و يستمد العون الإلهي من ضبط النفس و المدد، و سر العزلة و إن كنت في وسط الناس و العمل بالذكر و التفكر في ملكوت الرحمن، تعتزل الناس و تقترب من الرحمن، و سر قول الرسول الكريم: (إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصَّلاة و عليكم بالسَّكينة و الوقار، و لا تسرعوا، فما أدركتم فصلُّوا، و ما فاتكم فأتمُّوا) [أخرجه البخاري]، فما لنا و السرعة و التهافت بغية قطف ثمارٍ لم تنضج بعد؟ علينا التريث لا العجلة، للظفر برجاحة العقل و وفرة الرزانة و طمأنينة القلب، فهو الفلاح في الدنيا و الآخرة، و هو سر عظماء الناس متقدمهم و متأخرهم.
الرابط : https://al-sabeel.net/%d9%81%d9%8a-%d8%b3%d8%a8%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b1%d9%8a%d8%ab-%d9%84%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%ac%d9%84%d8%a9/