قصة الهدهد مع سليمان فيها دروس جليلة في مجال الدعوة إلى سبيل الله، تُظهر لنا كيفية توظيف الموارد المتاحة لنشر رسالة الإسلام. هذه الدروس تجسد نموذجًا رائعًا في إظهار العزة و الكرامة أمام غير المؤمنين، حيث تؤكد على أهمية التمسك بالمبادئ دون تقديم تنازلات أو تساهلات، بل إن هذا النهج يشدد على ضرورة الإصرار على الحق و الثبات عليه بكل قوة و عزم. هذا الموقف الراسخ و الثابت هو ما يثير إعجاب الطرف الآخر بالحق الذي نحمله، مما قد يؤدي في النهاية إلى استسلامه لهذا الحق و اعتناقه كما وقع مع مَلِكة سبأ.
كن مسارعًا و مُستبقًا إلى الخيرات
لقد شاهد الهدهد إبان طيرانه، قومًا يعبدون الشمس، شاهد هذا المنكر العظيم، فماذا فعل يا ترى؟ إنه لم يقف موقفًا سلبيًّا، و إنما ذهب، و تحرك و تقَصَّى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَ لَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُهَا وَ قَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)}، و ألقى بالنبأ إلى سليمان عليه السلام، باذلًا بذلك كل وسعه في تغيير المنكر، و ضاربًا بذلك أروع المثل في الإيجابية العملية.
«إن هذه الإيجابية التي تميز بها الهدهد السليماني هي ما نفتقده اليوم في كثير من شباب الصحوة اليوم، فهم -إلا من رحم الله- لا يكادون يبادرون إلى عمل، أو يسارعون إلى بذل، و لا يتحرك أحدهم إلا حين يكلف بعينه و شخصه، و مع ذلك فهو يتثاقل في التنفيذ، و يبطئ في الأداء».1
و دعا الله تبارك و تعالى عباده المؤمنين إلى المسارعة إلى الخيرات فقال الله تعالى: {وَ سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَ الأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. كما حثهم على المسابقة في ذلك فقال الله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة: 148]. قال الشيخ السعدي: «و الأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها، يتضمن فعلها، و تكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، و المبادرة إليها، و من سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، و الخيرات تشمل جميع الفرائض و النوافل، من صلاة، و صيام، و زكوات و حج، عمرة، و جهاد، و نفع متعد و قاصر».2
و كان صلى الله عليه و سلم يحث أمته على المبادرة إلى فعل الخيرات، فقال عليه الصلاة و السلام: ((بادروا بالأعمال، فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، و يمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً و يصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [صحيح مسلم: 118]. قال الإمام النووي في شرح الحديث: «مَعْنَى الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ تَعَذُّرِهَا وَ الِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْفِتَنِ الشَّاغِلَةِ الْمُتَكَاثِرَةِ الْمُتَرَاكِمَةِ كَتَرَاكُمِ ظَلَامِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ لَا الْمُقْمِرِ».3
التضحية من أجل الهدف
فقد قطع الهدهد مسافة اثني عشر ألف كيلو ذاهبًا و آيبًا، بين أرض الشام و سبأ، و قيل إن تلك المسافة كان يقطعها الهدهد في ثلاثة أيام ذاهبًا، و مثلها آيبًا، مُتَحَمِّلًا قرص الشمس، و مقاساة الأنواء، متغلبًا على الجوع و العطش، فيا لله أي تضحية قام بها الهدهد لإنقاذ أمة بأكملها!!4
تحدث عن قضيتك بكل ثقة و شجاعة
تأمل في الهدهد، ذلك الطائر الصغير الذي وقف أمام سليمان عليه السلام -النبي و الملك العظيم- بكل ثبات و جرأة. رغم تأخره و تهديده بالعقوبة، لم يفقد رباطة جأشه و لم يتردد في كلامه. بل قدم رسالته بوضوح و ثقة.
حين أخبر الهدهد سليمان عليه السلام بخبر بِلقيس و قومها و كفرهم بالله، لم يقل لسليمان: اذهب فأمرهم بالتوحيد و السجود لله، و إنما قال: {أَلَّاۤ يَسۡجُدُواْۤ لِلَّهِ ٱلَّذِي يُخۡرِجُ ٱلۡخَبۡءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَ ٱلۡأَرۡضِ وَ يَعۡلَمُ مَا تُخۡفُونَ وَ مَا تُعۡلِنُونَ}، قال ابن كثير في تفسيره للآية: «وَ هَذَا مُنَاسِبٌ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ، الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ غَيْرُهُ، مِنْ أَنَّهُ يَرَى الْمَاءَ يَجْرِي فِي تُخُومِ الْأَرْضِ وَ دَوَاخِلِهَا».10
قال الزمخشري صاحب الكشاف في نفس الآية: «هو كلام الهدهد. و قيل: كلام رب العزة. و في إخراج الخبء: أمارة على أنه من كلام الهدهد، لهندسته، و معرفته الماء تحت الأرض، و ذلك بإلهام من يخرج الخبء في السماوات و الأرض جَلَّت قدرته، و لطف علمه، و لا يكاد تخفى على ذي الفراسة النظّار بنور الله مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في رُوائه».11
كما نهج الهدهد أسلوبًا لبقًا في عرض أفكاره. فبدلاً من إملاء الحلول، اكتفى باقتراحها و الإشارة إليها برفق.
فالهدهد هنا ألمح بالحل، و لم يأمر به، اقترح و لم يفرض، عرض و لم يُصرّح بالتكليف. و بمثل هذا الأسلوب، يمكن أن نكسب الناس.
لذا، من الحكمة عند إرشاد الآخرين و نصحهم أن نتجنب الأسلوب الآمر المباشر. بدلاً من ذلك، يُستحسن اللجوء إلى طرح الأفكار بصيغة العرض اللطيف و الاقتراح المرن.
إنكار المنكر
الهدهد و ملكة بِلقيس: «كَانَ اسْمُهَا بِلْقِيسَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، مِنْ نَسْلِ يَعْرِبَ بْنِ قَحْطَانَ، وَ كَانَ أَبُوهَا مَلِكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ، قَدْ وُلِدَ لَهُ أَرْبَعُونَ مَلِكًا هُوَ آخِرُهُمْ، وَ كَانَ يَمْلِكُ أَرْضَ الْيَمَنِ كُلَّهَا، وَ كَانَ يَقُولُ لِمُلُوكِ الْأَطْرَافِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ كُفُؤًا لِي، وَ أَبَى أَنْ يَتَزَوَّجَ فِيهِمْ، فَزَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنَ الْجِنِّ يُقَالُ لَهَا رَيْحَانَةُ بِنْتُ السَّكَنِ، فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسَ».12
لكنّ كثيرًا من العلماء كذّبوا هذه القصة، و هذا الخبر، قال الإمام القرطبي: «وَ يُرْوَى أَنَّ أَحَدَ أَبَوَيْهَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَ هَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ، وَ يَقُولُونَ: الْجِنُّ لَا يَأْكُلُونَ وَ لَا يَلِدُونَ، كَذَبُوا لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، ذَلِكَ صَحِيحٌ وَ نِكَاحُهُمْ جَائِزٌ عَقْلًا فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَ نِعْمَتْ».13 كما أن الحديث الذي يُروى في هذا الشأن ((أحدُ أبوَيْ بِلقيسُ كان جنِّيًّا)) حديث ضعيف.14
و الهدهد قد ساءه ما رأى من عبادة بِلقيس و قومها للشمس، فَتَمَعَّر وجهه لذلك و حمي أنفه، و مازال بهم و بسليمان عليه السلام حتى دخلوا جميعًا في الإسلام و زال هذا المنكر.
فهل نجد في واقعنا صدىً لهذه الخصلة؟
إن إنكار المنكر -و للأسف- صار لا يشكل جزءًا من هَمِّنا، و لا من تربيتنا. و المؤمن ينبغي أن يكون صالحًا في نفسه، و مُصلحًا لغيره.
التركيز على الأصول و أهمها التوحيد
التوحيد هو جوهر رسالة جميع الأنبياء، فقد جاءت الكتب السماوية لترسيخه، و كُلف البشر بتطبيقه في حياتهم. و لا يمكن تحقيق القوة أو العزة أو النجاة إلا من خلال الإيمان بوحدانية الله.
و قد عَلِم الهدهد هذا؛ فأول ما أنكر عليهم هو إشراكهم بالله تعالى: {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)}، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «قِيلَ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ إِلَى قَوْلِهِ (الْعَظِيمِ) وَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ، وَ يُعْتَرَضُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْنَى شَرْعٍ. وَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ سُلَيْمَانَ لَمَّا أَخْبَرَهُ الْهُدْهُدُ عَنِ الْقَوْمِ. وَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ [قَوْلِ] اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَ هُوَ الثَّابِتُ مَعَ التَّأَمُّلِ».15
سلطان العلم
{فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِ} «أيْ: أنْتَ مِنِ اتِّساعِ عِلْمِكَ و امْتِدادِ مُلْكِكَ. و الإحاطَةُ: العِلْمُ بِالشَّيْءِ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، و في هَذِهِ المُكافَحَةِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ أضْعَفَ الخَلْقِ قَدْ يُؤْتى ما لا يَصِلُ إلَيْهِ أقْواهم لِتَتَحاقَرَ إلى العُلَماءِ عُلُومُهم و يَرُدُّوا العِلْمَ في كُلِّ شَيْءٍ إلى اللَّهِ»19، قال ابن القيم: «وَ هَذَا الْخطاب إِنَّمَا جرّأه عَلَيْهِ الْعلم، وَ إِلَّا فالهدهد مَعَ ضعفه لَا يتَمَكَّن من خطابه لِسُلَيْمَان مَعَ قوته، بِمثل هَذَا الْخطاب، لَوْلَا سُلْطَان الْعلم. وَ من هَذَا الْحِكَايَة الْمَشْهُورَة أن بعض أهل الْعلم سُئِلَ عَن مسألة، فَقَالَ: لَا أعلمها، فَقَالَ أحْدُ تلامذته أنا أعْلَم هَذِه الْمَسْأَلَة، فَغَضب الأستاذ، و هَمَّ بِهِ، فَقَالَ لَهُ أيها الأستاذ، لست أعْلَم من سُلَيْمَان بن دَاوُد، وَ لَو بلغت فِي الْعلم مَا بلغت، وَ لست أنا أجهل من الهدهد، وَ قد قَالَ لِسُلَيْمَان أحطت بِمَا لم تحط بِهِ فَلم يعتب عَلَيْهِ، وَ لم يُعَنِّفْه».20
و هناك دروس و عبر أخرى يمكن أن تُستفاد من التفكر في قصة الهدهد، و نكتفي بهذا القدر خوفًا من الإطالة.
نسأل الله سبحانه و تعالى أن يجعلنا من ورثة العلم، و أن يعلمنا ما ينفعنا و ينفعنا بما علمنا، إنه هو السميع العليم، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
الهوامش
- عادل باناعمة، في صحبة الهدهد، http://saaid.org/aldawah/157.htm. ↩︎
- عبد الرحمن السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى 1420هـ -2000م، ص 72. ↩︎
- النووي شرف الدين، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثانية، 1392هـ، ج3/133. ↩︎
- عامر الخميسي، شكرا أيها الهدهد، https://tinyurl.com/276wxmsd. ↩︎
- الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه، لفقيه والمتفقه، دار ابن الجوزي – السعودية ج2/66. ↩︎
- سيد قطب، في ظلال القرآن، ج5/2638. ↩︎
- تفسير البقاعي= نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ج14/150. ↩︎
- ابن قيم الجوزية، كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل دار المعرفة، بيروت، لبنان: 1398هـ/، 1978م، ص 71. ↩︎
- التحرير والتنوير، ج19/249. ↩︎
- تفسير ابن كثير، ج6/169. ↩︎
- الزمخشري محمود بن عمر بن أحمد، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج3/362. ↩︎
- انظر معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي، ج3/499. ↩︎
- القرطبي أبو عبد الله، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ هـ – 1964م، ج13/182. ↩︎
- ذكره الألباني في السلسة الضعيفة، وقال: وهذا إسناد ضعيف؛ سعيد بن بشير؛ مختلف فيه، ج12/608، رقم الحديث 5778. وأخرجه ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال، ج4/416. وقال ابن كثير: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ، البداية والنهاية، ج2/21. ↩︎
- القرطبي أبو عبد الله، جامع لأحكام القرآن، ج13/187. ↩︎
- الشوكاني محمد بن علي، فتح القدير، ج4/153. ↩︎
- التحرير والتنوير، ج19/250. ↩︎
- عامر الخميسي، شكرًا أيها الهدهد، https://tinyurl.com/276wxmsd. ↩︎
- البقاعي برهان الدين، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، ج14/150. ↩︎
- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، ج1/173.
بتصرف عن الرابط : https://tipyan.com/lessons-from-the-story-of-the-hoopoe