سياسة

“هيئة تحرير الشام” من “النصرة” إلى الدولة.. أبرز تحديات المرحلة المقبلة

الأستاذ أحمد فرحات

 

 

تناولنا في الجزء الأول من هذه السلسلة، المسار التاريخي لـ “هيئة تحرير الشام”، بدءاً من دخولها إلى سوريا في العام 2011، تحت مسمى “جبهة النصرة لأهل الشام”، و تحولها إلى “هيئة تحرير الشام”، مروراً بفترة “جبهة فتح الشام”. و يمكن تلخيصه كالتالي:

– الخروج من بيعة “أبو بكر البغدادي” و رفض الاستجابة لتشكيل “الدولة الإسلامية في العراق و الشام” عام 2013، و الذي يقضي بتوحيد جناحي القاعدة في العراق و سوريا.

– الخروج من بيعة “أيمن الظواهري” و فك الارتباط بتنظيم القاعدة العالمي و العمل تحت مسمى “جبهة فتح الشام”، في تموز/ يوليو عام 2016.

– تأسيس “هيئة تحرير الشام” بداية العام 2017، بعد معارك شرسة مع الفصائل الأخرى.

“هيئة تحرير الشام” و الدولة

شكلت الأحداث على الساحة الأفغانية و استعادة حركة طالبان السيطرة على مقاليد الحكم في كابول بعد الانسحاب الأمريكي عام 2021، نموذجاً لـ “هيئة تحرير الشام” حاولت الاستلهام منه. و هذا ما بدا واضحاً من خلال تصريحات قادة في الذراع السياسي للهيئة و هي “حكومة الإنقاذ”، في ندوة نُظمت في ادلب في أيلول/ سبتمبر 2021، حملت عنوان “الجهاد و المقاومة في العالم الإسلامي.. طالبان نموذجاً”.

في تلك الندوة، تحدث رجل الظل في “هيئة تحرير الشام” (عبد الرحيم عطون) عن نقاط التشابه بين حركة طالبان و الهيئة، و التغيرات التي حدثت في الحركة أهمها تبنيها للقتال المحلي داخل سوريا و رغبتها في التواصل مع الدول الأجنبية.

و الجدير بالذكر أن أحد الأمور التي دفعت جبهة النصرة إلى فك الارتباط مع تنظيم القاعدة، ما قيل سابقاً عن “بيعة الإمامة العظمى” من الظواهري إلى حركة طالبان الأفغانية، ما يعني تبعية جميع فروع القاعدة في العالم إلى “إمارة أفغانستان الإسلامية”، و من ضمنها جبهة النصرة.

سارت الأمور كما تريد “تحرير الشام” بعد انفصالها عن تنظيم القاعدة، فقد أخضعت في إدلب جميع الفصائل المسلحة، و عملت على بناء حكومة مركزية هناك تتعاطى الشأن العام الخدماتي و كذلك الشأن السياسي، و أنشأت خطوط تواصل مع دول اقليمية أبرزها قطر و تركيا، و عبرهما أوصلت رسائل تطمينية إلى الغرب و الولايات المتحدة خاصةً، الأمر الذي جنبها ضربات التحالف الدولي في الفترة الممتدة من (2020 إلى 2024). ترافق ذلك مع اتفاق على وقف إطلاق النار في سوريا، و العمل على حل سياسي للازمة السورية وفق مسار استانا.

منذ اللحظات الأولى لخروج الفصائل المسلحة من إدلب في اتجاه دمشق، أصبح مسار آستانا ميتاً، و بدأت مرحلة جديدة في سوريا.. مرحلة بدأها “أحمد الشرع” بمحاولات لكسب الود الغربي، حيث أنه – بعد نحو شهر على دخوله دمشق- لم يتوجه بخطاب موحد إلى الشعب السوري، و لم يعلن عن برنامج عمله الاقتصادي و الاجتماعي، مقابل توجيهه الكثير من الرسائل الدولية و الإقليمية عبر وسائل اعلام مختلفة.

 

1- على المستوى الإقتصادي: يقدم الشرع تجربة “حكومة الإنقاذ” في إدلب على أنها نموذج في الحوكمة، و هي التي عملت على تقديم بعض الخدمات إلى الأهالي هناك. و هو بالتالي يريد حكومة خدماتية، من دون برنامج إقتصادي و مالي واضح، بل انه يركز في تصريحاته على مسألة العقوبات الأمريكية على البلاد، ساعياً إلى رفعها بهدف تنشيط التجارة الخارجية لسوريا.

لكن من المعلوم أن سوريا بلد إنتاجي، و لديه العديد من القطاعات الانتاجية الزراعية و الصناعية، و في الفترة الأخيرة حققت الصناعة السورية فقزات نوعية على مستوى الجودة و النوعية. غير أن تركيز الإدارة الجديدة للبلاد على مسألة رفع العقوبات كسبيل لنمو اقتصادي، يطرح العديد من التساؤلات حول مدى قدرة قطاع التجارة على النهوض بالبلاد اقتصادياً، مع اغفال واضح لدور القطاعات الانتاجية.

و من المفيد ذكره أن أساس الاستقلال السياسي يبدأ من الاستقلال الاقتصادي و الإكتفاء الذاتي، كما أن القطاع الزراعي السوري كان يساهم قبل العام (2011)، بنسبة (22%) في النمو الاقتصادي، و القطاع الصناعي بنسبة (25%)، في حين أن القطاع التجاري كان يساهم بـ (%18).

و من شأن أي تحولات إقتصادية، لجهة إهمال القطاعات الانتاجية (الزراعية و الصناعية)، أن تؤدي إلى كوارث معيشية، حيث أن آلاف الأسر السورية تعتاش من هذه القطاعات، ما يضع حكومة الجولاني أمام تحدٍ كبير على المستوى الإقتصادي.

و في هذا الإطار، أوضح مدير مركز الإتحاد للأبحاث و التطوير هادي قبيسي، أن التحول نحو الإقتصاد الحر يضعف بطبيعة الحال الإنتاج المحلي الذي كانت كان قد بنت سوريا عليه خلال مسارها الاقتصادي السابق، مشيراً إلى أن سوريا قبل الحرب كانت دولة ذات اكتفاء ذاتي على مستوى الغذائي و الزراعي.

و في مقابلة مع موقع المنار الاكتروني، أشار قبيسي إلى أن التحول نحو الاقتصاد الحر في هذه المرحلة، يعقد استعادة التعافي على المدى البعيد، و إن كان على المدى القصير قد يدخل تحسينات مؤقتة على مستوى القدرة الشرائية.

 

تعاني سوريا حالياً من عدم وضوح في السياسات الإقتصادية و المعيشية و الأمنية، وسط جنوح نحو إعادة هيكلة الاقتصاد وفق مبادئ “السوق الحر”، مع ما يعنيه هذا الأمر من رفع الدعم عن العديد من السلع و الخدمات، و بالتالي ارتفاع في أسعارها، و هذا ما حصل مع الخبز مثلا، في حين أن زيادة الرواتب و الإنفاق الحكومي من دون أن تقابلها زيادة في الانتاج، قد يؤدي إلى تضخم و انخفاض في القدرة الشرائية.

2- على الصعيد الأمني: يعتبر التحدي الأمني الأخطر في الساحة السورية، التي عاشت في تاريخها العديد من الانقلابات العسكرية و التوترات السياسية، و برزت مؤخراً قضية دمج الفصائل المسلحة ضمن جيش وطني جديد، و تحت إدارة وزير الدفاع مرهف أبو قصرة المعروف بـ “أبو الحسن 600”.

و بدأ “أبو قصرة” اجتماعات مع باقي الفصائل لتحقيق مسألة الدمج، وسط غياب لأي آلية تنفيذية. غير أن الحديث في سوريا يدور عن اندماج عرضي، ما يعني توزع مقاتلي فصيل معين على كامل الجغرافيا السورية، بهدف قطع الطريق على كل فصيل قد يقوم بالإستقلال في إدارة منطقته العسكرية.

هذا، ناهيك عن الخلافات الايديولوجية بين الفصائل السورية، و التي من الممكن أن تحول دون اتمام هذا الاندماج بالشكل الذي يريده الجولاني (اندماج كامل)، خاصةً أن التعيينات العسكرية الأخيرة طرحت العديد من التساؤلات حول نوايا الإدارة العسكرية الجديدة.

و يلاحظ أن تلك التعيينات التي أصدرتها وزارة الدفاع نصت على تعيين قادة فصائل مقربين من “تحرير الشام” برتبة عقيد، و هم: عناد عبد المعين درويش (قيادي في أحرار الشام)، خالد محمد حلبي (قائد أنصار التوحيد)، جميل شحادة الصالح (قائد جيش العزة)، محمد ضياء صالح طحان (قائد جيش الأحرار)، مؤيد خالد الحسن (قيادي في أحرار الشام)، حسين عبد الله العبيد (قيادي عسكري في حركة أحرار الشام).

معظم المذكورين في الملحق كانوا قد رُفّعوا في تعميم سابق إلى رتبة عقيد قبل أن تعاد ترقيتهم مجدداً، في حين جرى استبعاد فصائل وازنة من هذه الترقيات أبرزها “الجيش الوطني” في الشمال و المدعوم من تركيا، بالإضافة إلى “الجبهة الشامية” في حلب و ريفها.

مدير مركز الإتحاد للأبحاث و التطوير هادي قبيسي أوضح أن هيئة تحرير الشام تعمل بعدة أساليب و وسائل لدمج الفصائل، من خلال توزيع المغانم و الرتب العسكرية، أو مساحات النفوذ الجغرافي و الصلاحيات.

و أشار قبيسي إلى أن دمج الفصائل يحتاج أيضاً إلى حاضنة سياسية، بحيث أن تكون هذه الفصائل و مجتمعاتها المحلية، راضية عن النظام السياسي. و لفت إلى مسألة الدور الذي سيعطى للجيش الجديد، و ما إذا كان سيوجه تجاه الأكراد.

 

و في هذا السياق أيضاً، هناك قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تضم المقاتلين الأكراد، حيث لا تفاهم واضحاً حول كيفية إدماجهم في الجيش الجديد. و برزت في الايام الماضية مواجهات عنيفة بين الأكراد و”الجيش الوطني” في ريف حلب، في محاولة من الأخير للسيطرة على سد تشرين في ريف حلب الشرقي، و هو من أهم السدود المائية في البلاد.

و بالإضافة إلى “قسد”، برزت الجماعات المسلحة في السويداء، التي تضم مقاتلين من الطائفة الدرزية، بعدما منعت قبل أيام قوات “الإدارة العسكرية” من الدخول إلى مناطقها في الجنوب السوري.

و لدي العديد من الفصائل مخاوف من تسليم سلاحها إلى “الإدارة الجديدة” التي بات يُنظر إليها، بحسب بعض الشخصيات السورية، على أنها تسعى إلى الاستئثار بالحكم، لاسيما وأن لا مسار سياسياً واضحاً في سوريا، إلا ما أعلنه “الجولاني” عن نيته إعداد دستور جديد للبلاد و اجراء انتخابات في مدة أقصاها (4) سنوات.

هذه المدة اعتبرتها العديد من الجهات محاولة للإمساك بمفاصل الحكم و قطع الطريق أمام أي فصائل أخرى للعب دور سياسي في المرحلة الحالية. و قالت شخصيات سورية إن العديد من التعيينات التي تقوم بها الإدارة الجديدة غير مبنية على قوانين واضحة، رغم تأكيدات الجولاني أنه يسعى لقيام دولة يسودها القانون.

و في هذا الإطار، برزت قضية تعيين مقاتلين أجانب كضباط في الجيش السوري الجديد، من دون مسوغات قانونية لهذا الأمر. و تم تبريرها من قبل “تحرير الشام” بأن تعيينهم يُعدّ “وفاء” لدورهم في القتال ضد النظام السابق.

و على الصعيد الأمني أيضاً، تبرز مسألة ضبط الأمن و منع التفلت، بعدما شهدت سوريا انفلاتاً ملحوظاً للوضع الأمني تحاول القوات الأمنية التابعة للسلطة الجديدة السيطرة عليه.

3- على المستوى السياسي: من غير الواضح كيف سيكون شكل نظام الحكم في سوريا، برلمانياً أم رئاسياً أم مجلسياً، في حين أن دعوة الجولاني إلى عقد “حوار وطني”، لم تلقَ استجابة سريعة من بقية الفصائل و الجماعات السياسية، و على رأسها “الائتلاف الوطني السوري”.

و من ضمن الإشكاليات التي تقف حائلاً دون عقد مؤتمر الحوار، مسألة التمثيل و ما إذا كان الحضور سيحدَّد بناء على أسس جغرافية مناطقية، أو على أسس مذهبية أو فصائلية أو مزيج من كل هذه المكونات.

و يُنتظر أن تنبثق عن المؤتمر المذكور حكومة سورية جديدة تحل مكان الحكومة المؤقتة التي يرأسها “محمد البشير”، و المتهمة أصلاً بأنها من لون واحد و تتبع “تحرير الشام”.

و من بين التحديات السياسية أيضاً إعداد دستور جديد للبلاد، قال الجولاني إن العمل عليه سيستمر بين عامين و ثلاثة أعوام.

و برزت في الآونة الأخيرة مسألة النازحين السوريين في الداخل، و الذين ينتشرون في مخيمات داخل الأراضي السورية خصوصاً في مناطق الشمال، وسط عدم وجود آلية لعودتهم إلى منازلهم. و شكا النازحون في المخيمات من عدم توفر المواد الإغاثية اللازمة لهم، محملين الحكومة الجديدة المسؤولية.

في المحصلة، تدرك “هيئة تحرير الشام” أنها تواجه تحديات عدة في الداخل السوري و على أكثر من مستوى، بيدَ أنها تتوجه بخطاب خارجي أملاً برفع العقوبات المفروضة عليها أولاً، و على سوريا ثانياً. و في ظل هذه الأوضاع، يعيش المواطن السوري المرهق أصلاً أزمات معيشية و إقتصادية و أمنية، نتائجها غير معلومة، و أفقها غير واضح. فهل تحمل الأيام المقبلة استقراراً للسوريين، أم دوامة جديدة من النزاعات و التوترات.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى