البشريَّة مزيج مختلف؛ فيها الإنسان الذي يتألَّم لحالها، و يسعى جاهدًا لأن يكون فاعلًا لتحريك عجلة الحضارة و السموِّ بها، و فيها النَّقيض؛ ذلك الشخص الذي يحبُّ أن يشيع الفساد في الأرض، و فيها مَن لا يزال يراوح مكانه بين حالم و متذمر.
• فالإنسان الباني: هو ذلك الفرد من الأمَّة الذي تألَّم لحالها، و وعى دوره جيدًا؛ لكن ما أن يبدأ بالبناء إلَّا و تأتي مَعاول الهدم لتهدم ما بناه من طرف الهادم.
و لأنَّه صاحب مبدأ و قضيَّة عليه ألَّا يَيئس؛ بل أن يواصل، و يبني من جديد، فكلَّما تهدَّم له جدار، جدَّ لبناء آخر، فلا يَفتر و لا ينال ذلك من عزيمته.
الإنسان الباني هو جوهر الحضارة التي ما فتئت تَبحث عنه، و ما أن تَجده حتى تنفخ فيه قوَّتَها، ليبلغ الكمال أو ليكون في طريقه إليه؛ فما الحضارة إلَّا من نتاج ذلك الشخص الذي رأى بعينه ما لم يرَه غيره، فسعى جاهدًا لتحقيقه و بنائه على أرض الواقع.
و يواصل على ما بدأه غيره، و لا يَيئس إن لم يصِل؛ بل عليه أن يتيقَّن أنَّه قد وضع اللَّبنة التي خُلق لأجلها، و أنَّ باقي اللبنات سيأتي بنَّاؤون غيره ليُكملوا مشواره؛ بل مشوار الحضارة التي تخطو خطوات رغم أنَّها وئيدة فإنها في الطريق الصحيح، و حتى إن نالَتها مَعاول الهدم، فلا تهدم إلَّا الجدران الآيلة للسقوط لتتيح بذلك لبناء صلب قويم؛ لأنَّ البناء الذي أساسه متين، و قد بُني بطرق صحيحة، لن تتمكَّن أي مَعاول – مهما بلغت قوتَّها – أن تهدمه.
• أما الهادِم، فإنه يسعى بجهد ألَّا يترك أثرًا قائمًا، يهدم كلَّ ما يُبنى؛ ظنًّا منه أنه يقوم بالصواب، أو لاعتبارات شيطانية تَؤُزُّه أن يفعل مثل هذا الفعل الشَّنيع، فترى عينيه ترقب كلَّ ما هو جديد، و ما من بناء يرتفع إلَّا و أسرع إليه بمعاوله هادمًا معيدًا إيَّاه إلى أنقاض.
بل إنَّ نفسه تسوِّل له أن يهدم حتى ما هو قديم؛ إذ إنَّه يتحسَّس من البناء، يرى فيه انتقاصًا لذاته المجبولة على الهدم.
• هذان هما العنصران الفاعلان في الحضارة: أحدهما بطريقة إيجابيَّة، و الآخر بسلبيَّته.
لكن هذا لا يَعني أن الناس إمَّا بانٍ أو هادِم.
• بل هناك الحالم: ذلك الشخص الإيجابي في تَفكيره و حلمه، السَّلبي في أفعاله و فاعليته، يتمنَّى و يحلم بحضارة راقية، يسودها العدل و الإخاء، دون أن يحرِّك ساكنًا؛ كأن يَنتظر معجزة من السَّماء، أو يظن أن الحلم و التمنِّي يكفيان.
أو يعتقد أنَّه غير معنيٍّ، فلا هو عالِم و لا مفكِّر، و لا داعية و لا قوي البِنية، إنما هو شخص بسيط؛ مما يعني أن دوره متناهٍ في الصغر، أو لا يكاد يبين.
فإن حدَث البناء، فيأتي ممَّن يفُوقونه علمًا و فكرًا و قوة؛ لذا فما يبقى له شيء سوى الحلم و الانتظار، عسى أن يَرتفع البناء و هو على قَيد الحياة، ليمتِّع ناظريه بمرأى الحضارة التي لم يشارك قطُّ في إنشائها، و لم يسعَ لذلك.
و ما أكثر هذا النوع في زمننا، و هو يُحسب على الأمَّة؛ لأنَّ الفرد إن لم يكن فيها بانيًا فاعلًا، صار عبئًا ثقيلًا عليها، فعليه أن يدرِك دورَه حتى إن كان صغيرًا، فعجلَة حضارة الأمَّة تسير بكل أفرادها، و كل شخص مَعني مهما كان صغيرًا.
• و رغم سلبيَّته إلَّا أنه أقل ضررًا من ذلك الشخص المتذمِّر المتشائم، الذي يرى الأنقاض، و لا يرى البِناء، و يَسمع معاولَ الهدم، و لا يسمع أصواتَ البنائين و هم يبنون.
يرى الجانب المظلِم دائمًا؛ إن تكلم أصاب مَن حوله بالإحباط، و إن سكتَ ظهَر التجهُّم على مُحيَّاه، يرى كلَّ ما هو خارج السور أخضر، أما داخله فهو يابِس هشيم تذروه الرياح؛ يبقى طيلة حياته متحسرًا على ما مضى، يائسًا من يومه، فاقدًا الأمل فيما هو آتٍ.
هو أقرب للهادم؛ إذ بطريقة تَفكيره تلك قد يؤثِّر فيمن حوله، و سلبيَّته تلك مرَض مُعْدٍ يصيب كلَّ من يقترب منه.
• ها هم أولاء الأصناف الأربعة للبشر، و يبقى الصنف الأول رغم قلَّته و غربته، إلَّا أنه يدرِك تمامًا أنَّ الله معه؛ لأنَّ ما يقوم به هو إنشاء حياة تَسمو بالإنسان جسدًا و روحًا، حضارة ترقى بالإنسانيَّة ككل، تسعى لانتشالها من ظُلم و حيف الحضارات الهادِمة الفاسدة التي دمَّرَت كلَّ ما هو حسن؛ لتستبشر البشريَّة بقدومها، و تفيء تحت ظلالها.
نسأل اللهَ و إياكم أن يجعلنا من الصِّنف الأول؛ الصنف البنَّاء الذي يَعي فيه كلُّ فرد دَوْرَه و يقوم به على أتمِّ وجه.
الرابط :