تاريخ

هواء يلهو برائحة المسك شِعب بَوَّان

بقلم الأستاذة مريم حيدري

خلال القرون الماضية كلّ من كان يقطع صحراء “لوت” أو “الصحراء المركزية” أو يمرّ من وسط إيران، متجاوزاً “كِرمان”، من رحالة وجغرافيين و مسافرين، كان يمرّ بـ”شعب بوّان” و يُفتن بجماله و سِحره، و قد يكون السببُ في التفات الرحالة و الجغرافيين إلى مثل هذه الأماكن أسبابٌ كمواقعها الجغرافية و مجاورتها للمراكز الاقتصادية و وقوعها على الطرق التجارية المهمة، إلى جانب طبيعتها الزاهية و طقسها المنعش.

في النصوص الجغرافية القديمة حتى اليوم ثمة أربع مناطق ترد تحت اسم “بوّان” في بلاد فارس، منها مدينة بالقرب من إصفهان، و أخرى بين “فارْس” و”كِرمان”، و قرية في جوار “بوابة إصفهان” في شيراز، إلا أن المنطقة التي يذكرها ابن البلخي في “فارسنامه”، و يصفها المتنبي في قصيدته الشهيرة، و التي اشتهرت بكونها إحدى الجنات الأربع هي “شِعب بوّان” الواقع بالقرب من مدينتي شيراز و”نور آباد”، و الذي حمل أسماء عدة في طيات النصوص الجغرافية و الرحلية خلال السنوات و القرون، منها: “شِعب بوّان”، و”وادي بوّان”، و”دَشت بوّان” (دَشت هو السهل في الفارسية)، و”تَنكِه یِ بوّان” Tangeh-ye Bavvan) و يعني وادي بوان أيضاً)، و”الجنة المفقودة”، إلا أن أهلها يطلق عليها “بَوون”  (bown)  و”تنكِ بون (Tang-e Bown)”، و هو الأشهر اليوم في إيران إلى جانب اسم “تنكِ بوان”(Tang-e Bavan)، إذ لا تُعرف اليوم في إيران تقريباً باسم “شِعب بوّان” أو “دَشت بوّان”.

يكتب ابن البلخي في كتابه الجغرافي “فارسنامه” المؤلَّف في بدايات القرن السادس للهجرة، عن بوّان، بأنه “وادٍ يقع بين جبلين”، “طقسه بارد، لا مثيل له في الطّيب”، “يمرّ نهرٌ كبير من بينه، لا يفوقه نهرٌ في العذوبة و الصفاء”، و يواصل ابن البلخي وصفه للوادي بأن “الشمس لا تبلغ الأرض فيه لكثافة أشجاره، كما لو أن المرء إن سار من بداية الشِّعب حتى نهايته لا تمسّه الشمس، و الجبلان (على جانبيه) مغطّيان طوال السنة بالثلج”، و يختم ابن البلخي حديثه عن الشِّعب بذكر الجنات الأربع في الأرض و اشتمالها على بوّان.

و جاء في معجم “دِهخُدا” الفارسي الشهیر الصادر في عشرينيات القرن المنصرم عن “شِعب بوّان” بأنه “يقع بالقرب من شيراز و يُعرف بمائه الغزير و أشجاره الكثيرة” و تحت مدخل “بوّان” بأنها منطقة “تقع في محافظة فارس (مركزها شيراز)، تشتهر بالحُسن”.

موقع شعب بوّان

يقع “شعب بوّان”، الوادي الساحر بخضرته و رياحينه و أشجاره و عيونه و شمسه على بعد حوالي 130 كيلومترا من مدينة شيراز الإيرانية و في بداية الطريق التي تصل شيراز بالأهواز، و على بعد 10 كيلومترات من مدينة “نور آباد مَمَسَنِي” القريبة من شيراز. يمتدّ الوادي على طول 18 كيلومترا و عرض 7 كيلومترات، كما تذكر المصادر الإلكترونية الحديثة اليوم، إلا أن الحديث عن مساحته يختلف من نص إلى آخر في الكتب القديمة، فيقول ابن البلخي، على سبيل المثال، إن “طوله يبلغ ثلاثة فراسخ و نصفاً (21 كيلومترا)، و عرضه فرسخ و نصف (9 كيلومترات)”، إلا أن النصوص جملةً و بكل مساحات الشعب المذكورة فيها، تجمع على أنه يشتهر باحتوائه أشجارَ الجوز و الفواكه، و الكثير من الينابيع و الشلالات، و شلال “بُولَكي” الواقع في هذا الوادي هو خامس شلال كبير في إيران الیوم.

تنتشر بيوتٌ قروية من الطين و الحجر في أنحاء الوادي، و بعض البيوت المبنية بناءً حديثاً. و ثمة أطلال لبنايات قديمة تُظهر أن المكان كان نقطةً ذات أهمية سياحية و جغرافية منذ مئات السنين.

تجري المياهُ في الوادي من كلّ جانب، و عيون كبيرة و صغيرة بمياه باردة تتدفق هنا و هناك، فطقس الوادي باردٌ، و لا يؤمّه الزوار في الشتاء لشدة البرد، سوى بعض الزوار الذين يمكثون بعض الوقت هناك لتناول الشاي أو وجبة غذاء، إلا أن “شعب بوّان” أو “تنكِ بون” يتحول إلى مكانٍ مزدحم بالسيّاح في الصيف.

تذكر المعاجم الجغرافية الحديثة أن وادي بوّان يضمّ اليوم ثلاث قرى، يطلق عليها السكان المحليون: “بوْن بالا” (بوّان العُليا)، و”بون مَياني” (بوّان الوٍسطى)، و”بون پائيني” (بوّان السُّفلى).

البقع المتبرکة في شعب بوّان

كما كلّ منطقة في إيران، لا يخلو شعب بوّان من بقع مقدسة يزورها السكان الأصليون و الزائرون. بعض هذه البقع ضاربة في القدم و لها جذورها التاريخية، وب عضٌ آخر لا يتجاوز عمرها إلا عدة عقود، فقد بُنيت وفق رواية و حكايات تداولها الناسُ بينهم.

في قرية بوّان السفلى، ثمة بقعة بمساحة 4 أمتار في 6، بُنيت في بداية الثورة الإسلامية في إيران (1979)، و تسمّى “إمام زاده طاهر”، و على مقربة منها ثمة مقبرة ببعض القبور الجديدة.

بقعة “إمام زاده شاهزاده حُسين”، تقع في بوّان الوسطى، و لها ضريح معدني حديث. يقال إنه في بداية الثورة أيضاً، تمّ بناء حجرتين هنا؛ إحداهما ضريح، و الأخرى مستودع، و مساحة كلّ منهما 6 أمتار في 5 و نصف، في فناء يمتدّ على ما يقارب 400 متر.

و في بوّان العُليا، و على حافة الطريق المعبد، تقع بقعة “بي بي فاطمة خاتون”، بضريحٍ خشبيّ بسيط، ودون شاهدة تحته، بعمارة لا يتجاوز تاريخ بنائها 40 عاماً، و أيضاً بقعة “إمام زاده محمد” التي هي بنفس عمر السابقة، و ذات ضريح معدنيّ، و شاهدة قبر في الوسط.

شعب بوّان في المؤلفات الفارسية الحديثة

في البحث عن أثر لشعب بوّان في الأدب و الفن الحديث في إيران لا نجد إلا نزراً يسيراً يعود إلى بدايات القرن العشرين لدى الأدباء و الرحالة الأجانب. جميع المقالات و البحوث التي تذكر شعب بوّان تؤكد على أن المتنبي، شاعر العرب الأكبر، قد ذكره في قصيدة و تأتي ترجمة الأبيات، و بأنه إحدى جنات الأرض الأربع التي كان يُعتقد منذ القِدم أنها تقع بالقرب من كلٍّ من سمرقند، و البصرة، و دمشق، و شيراز. كما أن هناك كمّاً كبيراً من المراجع و الكتب الجغرافية العربية القديمة التي تُرجمت فقراتها الخاصة بشعب بوّان في النصوص الفارسية، أو أعيد ذكرُ ما جاء فيها عن وصف هذا الشعب.

حتى الأديب والرحالة الإيراني، فُرصَت الشّيرازي (المتوفى عام 1920) في كتابه “آثار العجم” المعروف أيضاً بـ”شيرازنامه”، يعيد ما قيل عن “شعب بوّان” في الكتب السابقة لعهده؛ يذكر أنه ضمن جنات الأرض الأربع، و يشيد بطبيعته و طقسه، و مياهه العذبة، و فواكهه، و بأنه جال في جميع أنحاء الشعب، و استمتع كثيراً، ثمّ يختم حديثه بأبيات شعرية له باللغة العربية عن الشِّعب، مترجماً إياها إلى الفارسية، فكان أديباً ملمّاً بالعلوم القديمة و الحديثة و يتحدّث عدّة لغات، منها العربية:

بساتينُها للمِسكِ فيها روائحُ … و أشجارُها للرّيحِ فيها لواعبُ

كأن هزيزَ الرّيح بين غصونِها … صريرٌ و أمست بينهنّ تعاتبُ

و من تحتها الأنهارُ تجري مياهُها … ففائضُة منها و منها سواكبُ

كأنّ مجاريها سبائكُ فضّةٍ … تُذابُ و أسيافٌ تُهزُّ قواضبُ

و يصف الكاتب، ميرزا حسن فَسائي (المتوفى عام 1937)، في كتابه “فارسْنامه الناصرية”  شِعبَ بوان و أشجارَه و عيونه العذبة، و يذكر محاصيله كالقمح و الأرز و القطن و السمسم و الحمّص، و يشير إلى أنه في الماضي كان هناك الكثير من حدائق الكَرم و أشجار التين في الشِّعب، و أغلب الظنّ أنه من أجل ذلك قد ذُكر في الكثير من المعاجم الفارسية إزاء “شعب بوّان” أنه معروف بالعنب و حبّ الرمّان المجفّفين.

قد اكتفى الكثير من الجغرافيين و الرحالة خلال القرون اللاحقة للنصوص المذكورة بذكر ما جاء في كتب أخلافهم عن “شعب بوّان”، كما أنه لم يدخل كثيراً في نصوص المعاصرين من الشعراء و الرحالة. ذكره، على سبيل المثال، المستشرق الألماني، باول شوارتز، في كتابه “الجغرافيا التاريخية لفارس” (المؤلَّف بين 1896 إلى 1934)، مستحضراً أقوال ابن الفقيه و الحموي، و ما قيل عن موقعه الجغرافي.

في النصوص العربية

“اتّفق جوّابو الأقطار أن مستنزهات الدنيا أربعة مواضع، فمنها صُغد سمرقند، ومنها شِعب بوّان، و منها نهر الأبلّة، و منها غوطة دمشق”؛ هكذا يقدّم النويري في موسوعته الشاملة “نهاية الأرب في فنون الأدب”، الأماكنَ الأربعة التي كان يعتقد الناس منذ القَدم، و على وجه التحديد منذ القرن الرابع للهجرة كما ورد في نصوص الرحالة و الجغرافيين أنها جنات الأرض الأربع التي تقع كلّ منها بالقرب من سمرقند، و شيراز، و البصرة، و دمشق. و أكد ذلك كلٌّ من العمري و القزويني و ياقوت الحموي الذي خطّ في “معجم البلدان”: “بوّان: بالفتح، و تشديد الواو، و ألف، و نون: في ثلاثة مواضع، أشهرها و أسيرها ذكراً شِعبُ بوّان بأرض فارس بين أرجان و النوبندجان، و هو أحد متنزهات الدنيا، قال المسعودي، و ذَكر اختلاف الناس في فارس، فقال: و يقال إنهم من ولد بوّان بن إيران بن الأسود بن سام بن نوح، عليه السلام، و بوّان هذا هو الذي ينسب إليه شعب بوّان من أرض فارس، و هو أحد المواضع المتنزهة المشتهرة بالحسن و كثرة الأشجار و تدفق المياه و كثرة أنواع الأطيار. قال الشاعر:

فشِعب بوان فَوادي الراهب … فثمّ تلقى أرحل النجائب

و قد روي عن غير واحد من أهل العلم أنه من متنزهات الدنيا. و البعض قال: جنان الدنيا أربعة مواضع: غوطة دمشق و صغد سمرقند و شعب بوّان و نهر الأبلّة. و قالوا: و أفضلها غوطة دمشق.  و فال أحمد بن محمد الهمداني: من أرجان إلى النوبندجان ستة و عشرون فرسخاً، و بينهما شعب بوّان الموصوف بالحسن و النزاهة و كثرة الشجر و تدفق المياه، و هو موضع من أحسن ما يعرف، فيه شجر الجوز و الزيتون و جميع الفواكه النابتة في الصخر.

و ذكر لي بعض أهل فارس أن شعب بوّان وادٍ عميق، و الأشجار و العيون التي فيه إنما هي من جهتيه، و أسفل الوادي مضايق تجتمع فيها تلك المياه و تجري، و ليس في أرض وطيئة البتة بحيث تبني فيه مدينة و لا قرية كبيرة”. و بعد ذلك يشيد بجودة قصيدة المتنبي فيها.

و يسهب النويري في شرح شعب بوّان متأثراً بوصف المتنبي الخارق له بأنه “غدت مغانيه مغاني للزّمان، و قصرت الألسن عن وصف محاسنه و طالت إلى اقتطاف ثمرِه البنانُ؛ تكاد شمسُه تغرب عند الإشراق، و لا تتخلّل أشجاره إلا و الحياء يعيدها في قبضة الإطراق؛ يستغني بغدرانه عن صوب الصّيّب…

و يقال إن عضد الدولة بعد أن سمع البيت الذي يصف فيه المتنبي في هذه القصيدة ضوء الشمس المتلألئ من بين أغصان الأشجار كالدنانير المتساقطة على ثيابه، يأمر أن تُملأ يدَا المتنبي بالمسكوكات الذهبية:

وَ أَلقى الشَرقُ مِنها في ثِيابي

دَنانيراً تَفِرُّ مِنَ البَنانِ

أما أقدم نصّ ذكر “شعب بوّان” فهو “المسالك و الممالك” للمؤرخ و الجغرافي، ابن خُرداذبِه، و قد ألف موسوعته عام 232 للهجرة. و يذكر ابن خرداذبِه “شعب بوّان” مرتين؛ مرة في الحديث عن طريق سوق الأهواز نحو فارس، و لا يفوته أن ينوّه إلى أشجار الجوز و الزيتون فيه و الفواكه النابتة على الصخور، و مرة أخرى في معرض حديثه عن عجائب الأمكنة” و ذكره لـ”فارس” التي يميّزها بوقوع “شعب بوّان” فيها.

و أول وصف شعري لشعب بوّان أورده ابن الفقيه في كتابه “مختصر كتاب البلدان” (290 للهجرة) إذ يذكر أن الفواكه فيه نبتت في بطون الصخور.

و يقول الثعالبي في “ثمار القلوب في المضاف و المنسوب” بأنه حين نزل عضد الدولة (و هو الممدوح في قصيدة المتنبي السابقة) شعبَ بوان و السلاميُّ معه، متوجهاً إلى العراق، قال له “قلْ في الشِّعب فقد سمعت ما قال المتنبي، فعاد إلى خيمته و كتب:

اشربْ على الشِّعب و أحلل روضة أنفا … قد زاد في حسنه فازددْ به شغفا

إذ ألبس الهيفُ من أغصانه حللاً … و لقن العجمَ من أطيارِه نتفا

و أثمرت حسن الأغصان مثمرة … من نازع قرطاً أو لابس شنفا

و الماء يثني على أعطافه أزراً … و الرّيح تعقد في أطرافها شرفا

في جهة أخرى يذكر ابن حوقل “شعب بوّان” في كتابه “تقويم البلدان”، مدرجاً إياه ضمن “متنزّهات الدنيا الأربعة”، واصفاً: “و شِعب بوّان، و هو ـ أعني شعب بوّان ـ عن النوبندجان على نحو فرسخين. و شعب بوّان عدة قرى و مياه متصلة، و عليها الأشجار حتى غطّت تلك القرى، فلا يراها الإنسان حتى يدخلها.”

أما الإصطخري (المتوفى عام 340 هـ.) فهكذا يذكره في كتابه “مسالك الممالك”: “و النوبنجان مدينة حارة فيها نخيل قليلة، و بقربها شِعب بوّان مقدار فرسخين قرى و مياه متصلة، قد غطّت الأشجار تلك القرى حتى لا يراها الإنسان إلا أن يدخلها، و هي أنزه شعب بفارس”.

و فی “صبح الأعشى في كتابة الإنشا” يقول القلقشندي (المتوفى عام 821 هـ) عن شعب بوّان: “و شعب بوّان – و هي عدة قرى مجتمعة و مياه متصلة و الأشجار قد غطت تلك القرى فلا يراها الإنسان حتى يدخلها و هو بظاهر همذان يشرف عليها من جبل و هو في سفح الجبل و الأنهار تنحط عليه من أعلى الجبل و هو من أبدعِ بقاع الأرض منظراً”. و يستحضر قول المبرّد فيه، قبل ذكر قصيدة المتنبي عنه و شرح طبقات ملوك الفرس: “قال المبرّد‏:‏ أشرفت على شِعب بوّان فنظرت فإذا بماء ينحدر كأنه سلاسل فضة و تربةٍ كالكافور و ثرية كالثوب الموشّى و أشجار متهادلة و أطيار متجاوبة”.

الرابط بتصرف: https://www.aljadeedmagazine.com/%D9%87%D9%88%D8%A7%D8%A1-%D9%8A%D9%84%D9%87%D9%88-%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%83

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى