سياسة

هل أصبحت “سلطة رام الله” عبئاً على القضية الفلسطينية؟

بقلم الأستاذ حسن نافعة

أثبت “طوفان الأقصى”، و بصرف النظر عن تباين التقديرات المتعلقة بمدى مواءمته من الناحية السياسية، أن الفصائل الفلسطينية تمكنت من إنجاز ما لم تتمكن جيوش دول عربية كثيرة من إنجازه.

ارتبطت “السلطة الفلسطينية” التي تتخذ من مدينة رام الله مقراً لها، بـ “اتفاقية أوسلو” التي وقّع عليها في البيت الأبيض عام 1993 كل من إسحاق رابين، بصفته رئيساً للحكومة الإسرائيلية، و ياسر عرفات، بصفته رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية.

لم تكن هذه الاتفاقية “معاهدة سلام” بالمعنى المتعارف عليه في القانون الدولي، و إنما مجرد “إعلان مبادئ” يوضح الأسس التي ينبغي الاستناد إليها عند تحديد مصير و مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، و التي تم التوافق على التزام “إسرائيل” بالانسحاب منها تدريجياً، و ذلك وفقاً لجدول زمني محدد. و تأسيساً على هذا “الإعلان” أمكن التوصل إلى اتفاق تم التوقيع عليه في 4 أيار/ مايو 1994، عُرف باسم “اتفاق غزة-أريحا”، ثم حلّ محله اتفاق آخر تم التوقيع عليه في 24 و 28 أيلول/ سبتمبر عام 1995، عُرف باسم “اتفاق أوسلو 2”.

كان يُفترض، وفقاً لما تم التوافق عليه في هذه الاتفاقيات، وضع الأراضي الفلسطينية التي تنسحب منها “إسرائيل” تحت سلطة تتولّى إدارتها خلال فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، تسمّى سلطة “الحكم الذاتي”، ثم تجري مفاوضات لاحقة تستهدف تحديد الوضع النهائي لمجمل الأراضي الفلسطينية المحتلة “تبدأ في أسرع وقت ممكن وكحد أقصى في بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية”.

غير أن هذه الاتفاقيات، و التي شكلت انعطافة كبرى في مسيرة الصراع الفلسطيني الصهيوني الممتد، وُ وجهت بعاصفة من التحديات على الجانبين، و خضعت لتفسيرات و توقعات متباينة إلى حد التناقض. فبينما تعامل معها عرفات باعتبارها خطوة مهمة تمهّد لقيام دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 كافة، تعامل معها رابين باعتبارها إحدى أدوات إدارة الصراع التي تساعد على حل معضلة الأمن الإسرائيلي، عبر منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً لا يرقى إلى دولة مستقلة، و تمكين “إسرائيل” في الوقت نفسه من تفكيك “قنبلة ديمغرافية” قد تنفجر في وجهها، في حال إذا ما قررت ضم الضفة و القطاع، و بالتالي تجنيبها المخاطر المترتبة على احتمال فقدانها هويتها اليهودية خلال سنوات معدودة.

لم يكن من المستغرب، في سياق كهذا، أن تساعد ردود الأفعال الغاضبة و المتعاكسة على الصعيدين الفلسطيني و الإسرائيلي في تهيئة أجواء تفضي إلى اغتيال رابين في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995، ثم إلى التخلص من عرفات في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004. بل يمكن القول إن التطرف الصهيوني كان هو المسؤول عما جرى في الحالتين. فمن الثابت الآن أن اليمين الديني المتطرف في “إسرائيل” هيّأ أجواء مواتية لاغتيال رابين، المتهم بالتفريط في حقوق يهودية، رغم شيوع نظريات تدّعي ضلوع أجهزة “الدولة اليهودية العميقة” في ارتكاب هذه الجريمة، و تحيط شكوك كثيرة بالملابسات التي أفضت إلى رحيل عرفات، المتهم فلسطينياً بالتفريط في الحقوق الوطنية و إسرائيلياً بتشجيع الإرهاب و العنف، حيث تشير قرائن متعددة إلى أنه قُتل مسموماً على أيدي عناصر ينتمون إلى الموساد، و ذلك بالتواطؤ مع شخصيات فلسطينية تنتمي إلى الدائرة المقربة من عرفات نفسه.

تجدر الإشارة هنا إلى أن عرفات ظل متمسكاً بالأمل في أن تفضي “اتفاقيات أوسلو” إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، حتى بعد سنوات من رحيل رابين، و لم يبدأ هذا الأمل بالتراجع و الانحسار إلا عقب فشل مفاوضات كان الرئيس الأميركي بيل كلينتون قد دعا إلى عقدها في كامب ديفيد عام 2000، و شارك فيها إيهود باراك، رئيس وزراء “إسرائيل” في ذلك الوقت، و بعد أن تأكد له آنذاك أن “إسرائيل” لن تقبل مطلقاً التخلي عن القدس الشرقية.

و لأن عرفات لم يكن مستعداً للقبول بدولة فلسطينية تفرض سيادتها التامة على القدس القديمة، فقد كان من الطبيعي أن يمهد موقفه إبان هذه المفاوضات لاندلاع انتفاضة فلسطينية ثانية عام 2000، هي الأولى بعد إبرام اتفاقيات أوسلو، و هو ما يفسر إقدام شارون على محاصرته داخل المقاطعة، و التفكير في البحث عن بديل، و هذا هو السياق الذي راحت فيه الضغوط تمارَس بكثافة على عرفات لحمله على تعيين محمود عباس رئيساً للوزراء، وهو ما تم بالفعل في 19 آذار/ مارس عام 2003. صحيح أن عباس لم يتمكن من الصمود في منصبه الجديد سوى أشهر قليلة، اضطر بعدها إلى تقديم استقالة عكست سطورها عمق الخلافات القائمة بين الرجلين، غير أنه سرعان ما تبيّن أن لكل من الرجلين رؤية مختلفة حول كيفية إدارة الصراع مع “إسرائيل” في المرحلة المقبلة.

بعد رحيل عرفات، أصبح عباس رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية التي رشحته بدورها لخوض انتخابات الرئاسة التي جرت في 9كانون الثاني/ يناير 2005، و التي فاز فيها بسهولة، ثم راح يجمع بين يديه تدريجياً المناصب و السلطات كافة التي تولّاها عرفات، حيث أصبح رئيساً لحركة فتح و رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية و رئيساً للسلطة التنفيذية التي تتولى إدارة المناطق الفلسطينية المحررة في كل من الضفة الغربية و قطاع غزة، و هي المناصب التي ظل ينفرد بها طوال السنوات العشرين التي انقضت منذ رحيل عرفات و حتى الآن، رغم تطورات كثيرة طرأت على الحركة الوطنية الفلسطينية منذ ذلك الحين، خصوصاً بعد أن قرّر شارون الانسحاب من قطاع غزة تحت وقع ضربات المقاومة الفلسطينية المسلحة، و بدأ بإخلاء القطاع من المستوطنات اعتبارا من 15 آب/ أغسطس 2005، و بعد أن قررت حماس خوض الانتخابات التشريعية التي جرت في يناير 2006 و تمكنت من الفوز بأغلبية المقاعد فيها، في إشارة لا تخطئها العين على أن الشعب الفلسطيني في كل من الضفة و القطاع بدأ يشكك في حقيقة النيات الإسرائيلية و يفقد الأمل في إمكانية تحقيق أهداف الاستقلال و التحرر الوطني بالوسائل السلمية.

كان من الطبيعي، في سياق كهذا، أن تطفو على سطح الحياة السياسية في فلسطين رؤيتان متناقضتان، حول الطريقة المُثلى أو الأكثر فعالية في التعامل مع القضايا الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن أصبحت هناك سلطة تنفيذية منتخبة، ترى أن الوسائل السلمية هي وحدها الكفيلة بتحقيق أهداف النضال الفلسطيني، و سلطة تشريعية منتخبة ترى أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه الأهداف. و لأن السلطة التنفيذية سعت إلى تهميش السلطة التشريعية و فرض هيمنتها عليها، فقد كان من الطبيعي أن يتحول الخلاف بين السلطتين حتمياً إلى صدام، و هو ما حدث بالفعل.

لا يهدف هذا المقال إلى تقييم ما جرى على الساحة الفلسطينية منذ رحيل عرفات، أو وضع معايير يمكن الاستناد إليها لترجيح كفة رؤية أيديولوجية أو سياسات بعينها يتبناها هذا الفصيل أو ذاك، فحماية القضية الفلسطينية من عبث العابثين يجب أن تكون هي البوصلة المحددة للوجهة التي ينبغي أن تتجه نحوها جميع القوى السياسية في عالمنا العربي كله، لا على الساحة الفلسطينية وحدها.

غير أن الأمانة العلمية تتطلب منا أن ندلي في هذا التوقيت بمجموعة من الملاحظات المتعلقة بأسلوب عباس في إدارة الشأن الفلسطيني، و الذي لم يختلف كثيراً عما اتّسم به أسلوب عرفات من مركزية شديدة و ميل غريزي إلى جمع كل الخيوط و الإمساك بها على نحو منفرد، رغم الفارق الكبير بين الوزن التاريخي لكل من القيادتين الفلسطينيتين.

و كان الأجدى أن يُولي الرئيس عباس جهداً كبيراً و حقيقياً لإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية المختلفة عقب رحيل عرفات، خاصة منظمة التحرير الفلسطينية التي ينبغي أن تكون هي الإطار الجامع و الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني المشتت بين الضفة و القطاع و الأراضي المحتلة قبل 48 و المخيمات و التجمعات المنتشرة في مختلف دول العالم. على صعيد آخر، يعتقد كاتب هذه السطور أن الرئيس عباس لم يكن موفقاً على الإطلاق حين ظلّ يصر لفترة طويلة على استخدام تعبير “الصواريخ العبثية” الساخر، و هو تعبير عكس استهانة غير مبرّرة بقدرات و إمكانات فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة.

فقد أثبت “طوفان الأقصى”، و بصرف النظر عن تباين التقديرات المتعلقة بمدى مواءمته من الناحية السياسية، أن هذه الفصائل تقوم بعمل جاد لكسر غطرسة العدو الإسرائيلي و أنها تمكنت من إنجاز ما لم تتمكن جيوش دول عربية كثيرة من إنجازه، و أنها قدمت في سبيل ذلك تضحيات كبرى ينبغي عدم الاستهانة بها أو التقليل من شأنها.

لا شك في أن حركة حماس ارتكبت أخطاء سياسية عديدة عبر مسيرتها الطويلة، خصوصاً خلال فترة “الربيع العربي”، لكن هذا ليس وقت تصفية الحسابات، لا مع حماس و لا مع غيرها من الفصائل الفلسطينية، فالشعب الفلسطيني كله، بجميع قواعده و فصائله و تجمعاته، يواجه في الوقت الراهن معركة وجودية بالمعنى الحرفي للكلمة، و بالتالي هو مهدد بالتصفية و الاستئصال و الاقتلاع من الجذور، ما يفرض على جميع القيادات تجنب المعارك الصغيرة، و رصّ الصفوف في مواجهة عدو كشف “طوفان الأقصى” عن معدنه الحقيقي المجرد من كل معاني الإنسانية.

و لأن رئيس “منظمة التحرير الفلسطينية” ينبغي أن يكون هو الممثل الحقيقي لشعب كشف صموده الأسطوري في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي تُشنّ عليه منذ أكثر من عام و نصف، أنه من أعظم شعوب العالم قاطبةً، فعليه أن يشرع على الفور في اتخاذ ما يلزم من خطوات عملية لتحويل هذه المنظمة إلى حركة تحرر وطني تليق بمقامه الرفيع.

سوف يحتفل الرئيس عباس في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل بعيد ميلاده التسعين، و مع تمنياتنا له بطول العمر و دوام الصحة، نأمل أن يسجّل التاريخ أنه القائد الذي نجح في تصحيح مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، و ليس القائد الذي تحوّل إلى عبء على القضية الفلسطينية.

الرابط : https://www.almayadeen.net/opinion/%D9%87%D9%84-%D8%A3%D8%B5%D8%A8%D8%AD%D8%AA–%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D8%B1%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87–%D8%B9%D8%A8%D8%A6%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى