في زاوية الكون التي لا يُلقى عليها الضوء كثيرًا، يقف العقل متكئًا على عصا المنطق، يحكّ رأسه متسائلًا: كيف أصبحت الأمور بهذه الفوضى؟ أليس من المفترض أن أكون الحاكم، القاضي، و المدير العام لكل شيء؟ يبدو أنني أصبحت مجرد صوت خافت بين ضجيج العواطف، النزوات، و تطبيقات التواصل الاجتماعي!
العقل في أزمة، و هذا ليس خبرًا جديدًا. لكنه هذه المرة يواجه مشكلة من نوع خاص: الناس لم يعودوا يحتاجونه كثيرًا. في الماضي، كان العقل هو السلاح الأقوى للإنسان. أسئلة مثل “من أين جئت؟”، “لماذا أنا هنا؟”، و”ما هي الحقيقة؟” كانت طعامًا يوميًا له. أما الآن، فقد استُبدل بـ”ما هي كلمة السر للواي فاي؟” و”ما هو الفيديو الأكثر انتشارًا اليوم؟”.
العقل، الذي كان يومًا ما يحتفي بفلاسفة مثل سقراط و أرسطو، أصبح الآن عالقًا في محادثات عن آخر التحديات على تيك توك. يتساءل: هل كان أفلاطون سيفكر في بناء جمهوريته المثالية إذا قضى نصف يومه يبحث عن شاحن هاتفه؟ أم أن ديكارت كان سيقول “أنا أفكر إذن أنا موجود” لو كان مشغولًا بمسح الإشعارات على هاتفه الذكي؟
الأزمة ليست فقط في قلة استخدام العقل، بل في طريقة استخدامه أيضًا. لقد تحول من مُفكِّرٍ حر إلى عامل تحت الطلب. يُطلب منه تبرير قرارات غير عقلانية، الدفاع عن وجهات نظر سطحية، و كتابة منشورات بليغة للجدال على الإنترنت. و هو، المسكين، لا يستطيع الرفض، لأن العاطفة – تلك الملكة المتوجة حديثًا – تصرّ على استغلاله كأداة لتبرير نزواتها.
في هذه الأزمة، يبدو أن العقل قد استسلم للواقع، لكن ليس بدون لمسة من السخرية. فالعقل، الذي طالما كان مصدر الحكمة، بدأ يجد تسلية في مراقبة العالم و هو يسير نحو اللامنطق. يقول لنفسه: “ربما هذا هو وقت الإجازة الذي أحتاجه. لقد أرهقني التاريخ، ربما حان الوقت لأترك الأمور تسير على هواها”.
لكن السؤال يبقى: هل يمكننا استعادة العقل من هذه الأزمة؟ هل يمكننا إعادة إحياء ثقافة التفكير و النقد؟ أم أن العقل سيبقى مجرد كومبارس في مسرحية الحياة الحديثة، يُستخدم فقط عندما يكون الموقف يتطلبه؟
- ربما يكمن الحل في تعلم الضحك على أنفسنا – ليس من منطلق السخرية السوداء فقط، بل كوسيلة لإعادة النظر في أولوياتنا. فالعقل، حتى و هو في أزمته، لا يزال يملك القدرة على التفكير، و التساؤل، و حتى الضحك. فدعونا نستغل هذه القدرة قبل أن يتحول إلى “ذكاء اصطناعي” لا يُشغل إلا بالضغط على زر التشغيل.