في عالم تترنّح فيه البنية الجيوسياسية بشكل غير مسبوق، لم يعد من الممكن تفسير التحولات الكبرى بأدوات التحليل الكلاسيكية. إن النظام الدولي الذي تَشكّل على قاعدة القطب الواحد بعد نهاية الحرب الباردة، و القائم على احتكار القرار السيادي من قِبل قوة واحدة ذات تفوق عسكري و هيمنة إعلامية و اقتصادية، يُواجَه اليوم بتحدٍّ وجودي لا يأتي من نظام بديل تقوده قوة أخرى، بل من منطق جديد للقوة ينبثق من الهامش الجغرافي و السياسي – من جغرافيا ظنّها المركز العالمي أنها مهمَّشة، لتعود و تفرض نفسها كنواة صلبة لإرادة لا يمكن كسرها.
اليمن، و تحديدًا الدولة القائمة في صنعاء، و التي تقودها حركة أنصار الله، تمثل اليوم أحد أبرز ملامح هذا التحوّل، ليس فقط على مستوى الإقليم بل في عمق البنية الدولية ذاتها. فهي لا تتحرك من موقع الدفاع عن بقائها أو من أجل كسر الحصار المفروض عليها منذ سنوات، بل من موقع يمتلك المبادرة الاستراتيجية، و يملك رؤية جيوبوليتيكية مركبة تتجاوز الإطار المحلي أو حتى الإقليمي، باتجاه التفاعل مع البنية العالمية نفسها، و مواجهتها في قلب المنظومات التي صاغتها القوى العظمى لعقود.
الولايات المتحدة، في المقابل، تقف على مفترق طرق تاريخي. فبعد عقود من هندسة الفضاءات الجيوسياسية عبر التفوق العسكري، و من فرض الإرادة من خلال أدوات الردع المتقدمة، تجد نفسها اليوم عاجزة عن التعامل مع تهديد جوهري لا ينبع من خلل في توازن القوى، بل من انهيار تدريجي في منطق الهيمنة ذاته.
فالدولة اليمنية في صنعاء، رغم ما واجهته من عدوان دولي متعدد الأطراف، تملك اليوم القدرة على فرض إرادتها في قلب الممرات البحرية الأكثر استراتيجية على مستوى العالم، و تملك مشروعية خطاب سياسي يقوم على الدفاع عن الشعب المظلوم في غزة الذي خذلته الدول التي تدعي حقوق الإنسان في العالم، لا على السعي لتوسيع النفوذ، و هذا بالضبط ما يجعلها قوة مستعصية على الاحتواء.
المواجهة بين صنعاء و واشنطن ليست إذًا مواجهة بين طرف تقليدي يسعى للاستقلال و آخر يسعى للهيمنة، بل هي مواجهة بين نظامين متعارضين في بنية الفعل السياسي. النظام الأمريكي، الذي بُني على وهم القدرة المطلقة في تحديد العدو و الصديق، يجد نفسه اليوم أمام فاعل دولي جديد، لا يخضع لنمط التصنيف السياسي الغربي، و لا يتعامل مع الهيمنة كمُسلّمة، بل يملك نموذجًا خاصًا في بناء الردع القائم على التماهي بين العقيدة و الإرادة، و بين الجغرافيا و السلاح، و بين الخطاب و الفعل.
لا يمكن فهم التحرك اليمني ضد السفن المرتبطة بكيان الاحتلال في البحر الأحمر كمجرد دعم معنوي لغزة، بل يجب قراءته في سياقه الأوسع: إنه إعادة تعريف لتوزيع القرار في النظام العالمي. فحين تقوم دولة محاصَرة، و من دون غطاء دولي، بفرض منطقها على حركة الملاحة العالمية، و تهدد المصالح التجارية و العسكرية للقوى الكبرى، من دون أن تنجح هذه القوى في ردعها أو احتوائها، فهذا لا يعني فقط خللًا تكتيكيًا في عمليات الردع، بل انهيارًا استراتيجيًا في مفهوم المركز العالمي ذاته.