قضايا حضارية

رسالتنا الإنسانية

بقلم الدكتور عبد الحليم عويس رحمه الله

في أسلوب حصر بلاغي يحدد الإسلام في كتابه الكريم وظيفة الرسول صلى الله عليه و سلم على أنه رحمة لكل العالمين.

لقد خاطب الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه و سلم بقوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وبقوله: {وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَ نَذِيرًا} (سبأ: 28).

فعلى المسلمين مهما كانت أجناسهم أو أوطانهم أن ينتبهوا إلى أنهم حملة الراية بعد أستاذهم و معلمهم محمد صلى الله عليه و سلم، و عليهم أن ينتبهوا إلى أن الأمانة التي ائتمنهم الله عليها، و هي البلاغ للناس بالقرآن إنما هي نور للناس جميعًا إذا آمنوا بها، لا فرق بين أسود و أبيض، يقول الله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَ يَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُّبِينٌ {15} يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَ يُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة).

و المسلمون مسؤولون عن إنقاذ البشرية جميعها، حتى لو تأججت الأحقاد و العنصريات في صدور أعدائنا؛ فالمسلمون لم يبعثهم الله ليواجهوا حقدًا بحقد، و لا عنصرية بعنصرية؛ بل عليهم أن يحافظوا على راية الحب  و التسامح مع الإنسانية، و ألاَّ يخضعوا لاستفزازات أعدائهم التي يرمون من خلالها إلى زحزحتهم عن مبادئهم.

و لعله من أكبر آيات التسامح الإسلامي و الشعور بالمسؤولية الإنسانية أن العلماء و الدعاة المسلمين عندما يعرضون لقضايا الخلل الإنساني لا يصدرون عن شعور عنصري يحصر علاجهم في المحيط الإسلامي أو القومي، بل يعملون على حلِّ مشكلات حضارات العصر الحديث كلها، دون أن يحصروا حل المشكلات في الدائرة الإسلامية أو التركية أو العربية وحدها، إنما يعرضونها ليحلوا بها مشكلات الحضارة المادية الحديثة كلها.. تلك الحضارة التي جسدها العقل في إطار المادة و المنفعة و النسبية، و أصبحت عاجزة عن إدراك الكمال و الجمال في الروح و المطلق و الغيب و ضرورة الإيمان بالكينونة الإنسانية، و العمل المشترك على استمرار التحضر الإنساني العام، الذي يضم المسلمين و غير المسلمين.

و لقد أدرك المسلمون أن هناك خللاً وقع في المسيرة الإنسانية؛ نتيجة التحيز للمادة على حساب الروح أو العكس.

و لقد أصاب هذا العجز الحضارة الإنسانية بالشلل النصفي؛ لأن الروح أو الغيب المطلق لا ينفصل عن العقل و المادة و النسبي؛ و لأن المطلق هو المعيار الأساس للحق، و رفض التعامل معه يعني رفض السير في طريق الحق تحت ضغط الإيمان المشلول بالمادة و النسبي، و هو الأمر المؤدي إلى عبادة الإنسان لنفسه، بديلاً عن عبادة الله الذي يؤمن المسلمون بأنه وضع للكون و الإنسان نظامًا من خلال الوحي و الأنبياء، و هو نظام متطابق مع فطرة الإنسان.

لقد كان الإسلام -لأنه دين الفطرة و الحق- حافزًا على تشكيل كيان متميز لم تستطع تقلبات الزمن و الاحتكاك بالحضارات المختلفة أن تفتَّ في عضده على مر العصور، فإن كل شيء في الإسلام يشكل وحدة، و يعبر في الوقت نفسه عن وحدة؛ ففروض العبادة تعبر بطريقة ظاهرة، بل بطريقة مادية عن التماسك و الالتحام، فالمسلمون يسجدون في صلواتهم خمس مرات يوميًّا في ساعات متماثلة تقريبًا، و في اتجاه واحد نحو مكة.

و تعبر النية الدينية المصاحبة للعبادات لكل شعيرة عن وحدة الإنسان روحيًّا و ماديًّا.

و يسهم الإيمان أيضًا كما تسهم الشعائر في تضامن الجماعة الإسلامية و تجانسها، و تدفعها جميعًا نحو تحقيق عالميتها.

إن جماعة المؤمنين -و قد قامت على الدين- نجحت في الصمود أمام التفكك السياسي، كما أن الروابط الدينية التي تسمو فوق الروابط القانونية و المادية تستطيع قيادة المجتمع المسلم إلى النجاة و الفوز في السباق الحضاري.

الرابط : https://mugtama.com/articles/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D8%A7_%D8%A7%D9%84_%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى