في زاوية منسية من طاولة الزمن، تقف أحجار الدومينو مصطفّة كجنود في جيشٍ لم يخض حربًا يومًا، لكنها تتساقط بانضباط يفوق الجيوش ذاتها. حجر واحد يُدفع عمدًا، فتبدأ الرقصة: سقوط يتبعه سقوط، حتى آخر حجر يُلقي بجسده بلامبالاة، كأنه يقول: “أنا فقط كنتُ النهاية، لا السبب.” مشهدٌ بسيط، لكنه يفتح بوابة تأملٍ واسعٍ في معنى الطاعة و الانهيار، و في منطق العيش ضمن نظام لا أحد يفهم من وضعه.
عالم الدومينو يبدو و كأنه استعارة كونية لحياتنا المعاصرة: كل حجر يسقط لأنه يجب أن يسقط، لا لأنه قرر ذلك. لا أحد يسأل الآخر: “هل تود أن تسقط اليوم؟”، فالسقوط هنا ليس خيارًا، بل قدرٌ مكتوبٌ و موقّع عليه بالأبيض و الأسود.
فكرت يومًا أن أعيش كأحد تلك الأحجار. بلا أسئلة، بلا مقاومة. فقط أنتظر الدفع. المشكلة؟ كنتُ الحجر الأخير. لا أحد خلفي، لا أحد يدفعني، و حتى الغبار بدأ يكتب سيرتي الذاتية على ظهري. أصبحت خارج اللعبة، أو داخلها بطريقة غير محسوبة. و هناك تحديدًا تبدأ المأساة: حين لا تكون جزءًا من السقوط، و لا أهلًا للوقوف.
نحن البشر لا نختلف كثيرًا. نسير في الطوابير، نُبدّل صورنا الشخصية حسب الموسم، نغضب حين يُطلب منا التفكير، و نكرر نفس الأنماط كما تكرّر آلة الطباعة حروفها: الوظيفة، الزواج، القروض، الضغط، ثم التقاعد… سقوطٌ منظم بأناقة زائفة.
الساعة الثامنة صباحًا ؟ انطلق. الجامعة ؟ ضرورة. الزواج ؟ واجب. الإنجاب ؟ بركة. القروض ؟ قدر. الشكوى ؟ مشروعة لكن بلا جدوى. كلها أحجار دومينو تُدفع تباعًا، لا لأننا نؤمن بها، بل لأن الذي أمامنا سقط، فظننا أن اللحاق به هو النجاة.
لكن الطامة الكبرى أن أحدًا لا يعترف بأنه دفع الحجر الأول. من هو المسؤول عن هذا النظام المتسلسل؟ المجتمع ؟ التقاليد ؟ الحداثة ؟ العمّة “أم عبده” ؟ الجميع يتنصّل، و مع ذلك نسقط جميعًا، بلا مقاومة، بلا صوت.
حتى التمرّد صار نسخة مقلوبة من اللعبة. نُسقط حجراً باسم الثورة، و ننتظر انهيار البقية، لكننا غالبًا نعود للاصطفاف ذاته، مع دهشةٍ أكبر و وعيٍ أقل. و في لحظة نادرة من وعي مزيف، نقول: “هذه المرة مختلفة.” لكنها ليست كذلك.
تجرأتُ مرة على الوقوف. رفضتُ السقوط. بقيتُ في مكاني، ثابتًا كإبرة في كومة قش. رمقني الجميع بازدراء، ثم جاء من لا أعرف، و دفعني بسبابته قائلًا: “الوقوف فوضى، و السقوط نظام. لا تكن حجر عثرة، كن حجر دومينو.”
التمرد فعل فوضوي في نظام يؤمن أن الانضباط يبدأ بالسقوط. الوقوف لا يُكافَأ، بل يُعاقَب. يُعاد تصنيفه لاحقًا على أنه “عُطل في النظام”، أو أسوأ: “خيانة للسلسلة.”
حتى في علاقاتنا الشخصية، نلعب دومينو. لا نرد لأننا مقتنعون، بل لأن أحدهم قال شيئًا، فقلنا مثله، فعل شيئًا، ففعلنا ذاته. كلماتنا ردود فعل. قراراتنا سقوطٌ تابعٌ لسقوطٍ سابق.
الزوجة تتكلم ؟ حجر الكلام. الزوج يغضب ؟ حجر الصوت العالي. الطفل يبكي ؟ حجر الحنين إلى الهدوء. و في كل ذلك، لا أحد يسأل لماذا بدأ السقوط أصلًا. نكتفي باللعب، يومًا بعد يوم، و نحن نتمايل كأننا نعيش على حافة الانهيار، لا نرتطم بالأرض تمامًا، لكننا لسنا مستقيمين أيضًا.
أما في السياسة ؟ فحدث و لا حرج. نظام الدومينو يتجلى هناك بأبهى حلّته: الشعب يسقط أولًا، ثم تسقط وعود الإصلاح، ثم يسقط التاريخ في امتحان الأخلاق. و يخرج مسؤول ليقول: “نحن نعيد ترتيب الأحجار.” و لا أحد يسأله: “لماذا لم تغيّر الطاولة؟”
المفارقة الموجعة أننا لا نعلم إن كنا نحيا داخل لعبة، أم نحن مجرد حجارة في جيب طفلٍ يلهو بها، يرتبها، ثم يتركها لتأخذ شكل الحياة من تلقاء ذاتها. ننسى أن كل سقوط، مهما بدا بسيطًا، يترك شرخًا لا يُرى.
و مع كل هذا، تبرز فلسفة مريرة: “إذا أردت النجاة، لا تكن في الصف.” لكن حتى الخارجين عن الصف لا يُحسبون. يصبحون كأنهم لم يُخلقوا. هل هم الأحرار ؟ أم المهمّشون ؟ هل الفيلسوف دومينو معطوب ؟ أم هو حجر الحكمة ؟
ربما الحياة ليست دومينو. أو ربما هي دومينو بحسّ وجودي، دومينو يسأل: “من أنا ؟ هل أنا سبب أم نتيجة ؟”، “هل يمكن لحجر دومينو أن يرقص ؟ أن يكتب ؟ أن يحب ؟ أن يصرخ ؟”
في النهاية، إذا رأيت حجر دومينو مكسورًا في الطريق، لا تسخر منه، و لا ترمِه، و لا تدفعه ليسقط. قل له بهدوء: “أنت فقط خرجت من اللعبة، و ربما، فقط ربما، بدأت الحياة.”