تفرِض شريعة الإسلام على أتباعها المسلمين أن يسود بينهم التعاون و التكافل و التآزر في المشاعر و الأحاسيس، فضلًا عن التكافل في الحاجات و الماديات، و من ثَمَّ كانوا بهذا الدين كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا؛ كما روى البخاري و مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: “المُؤْمِنَ للمؤمنِ كالبُنْيانِ يشدُّ بَعضُهُ بعضًا”.
أو كالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى و السهر؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَ تَرَاحُمِهِمْ وَ تَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَ الْحُمَّى”؛ (رواه البخاري ومسلم).
و من ثَمَّ فإن التكافل الاجتماعي في الإسلام ليس مقصورًا على النفع المادي، و إن كان ذلك ركنًا أساسيًّا فيه، بل يتجاوزه إلى جميع حاجات المجتمع أفرادًا و جماعات، مادية كانت تلك الحاجة أو معنوية أو فكرية، على أوسع مدى لهذه المفاهيم، فهي بذلك تتضمن جميع الحقوق الأساسية للأفراد و الجماعات داخل الأمة.
و تعاليم الإسلام كلها تؤكد التكافل بمفهومه الشامل بين المسلمين، و لذلك تجد المجتمع الإسلامي لا يعرف فردية أو أنانية أو سلبية، و إنما يعرف إخاءً صادقًا، و عطاءً كريمًا، و تعاونًا على البرِّ و التقوى دائمًا؛ (الوقف و دوره في تنمية المجتمع الإسلامي لمحمد الدسوقي ص 5).
و التكافل الاجتماعي في الإسلام ليس معنيًّا به المسلمين المنتمين إلى الأمة المسلمة فقط، بل يشمل كل بني الإنسان على اختلاف مِللهم و اعتقاداتهم داخل ذلك المجتمع؛ كما قال الله تعالى: ﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة:8]؛ ذلك أن أساس التكافل هو كرامة الإنسان؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ وَ لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَ حَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
و من تلك الآيات الجامعة في سياق التكافل و الترابط بين أفراد المجتمع الإسلامي قول الله تعالى:
﴿ وَ تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوَى وَ لا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَ الْعُدْوَانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]؛ قال القرطبي: “هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البرِّ و التقوى، أي ليُعنَ بعضكم بعضًا”؛ (الجامع لأحكام القرآن: 6/ 46).
و قال الماوردي[1]: “ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبِرِّ و قرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، و في البرِّ رضا الناس، و من جمع بين رضا الله تعالى و رضا الناس، فقد تَمَّت سعادته و عمَّت نعمته”؛ (أدب الدنيا و الدين ص 196).
و قد ذكر القرآن الكريم صراحةً أن في أموال الأغنياء حقًّا محددًا يُعطى للمحتاجين؛ فقال تعالى: ﴿ وَ الَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ﴾[المعارج: 24-25]، و لقد تولَّى الشارع بنفسه تحديد هذا الحق و بيانه، و لم يترك ذلك لجود الموسرين، و كرم المحسنين، و مدى ما تنطوي عليه نفوسهم من رحمة، و ما تحمِله قلوبهم من رغبة في البرِّ و الإحسان، و حُبِّ فعل الخير؛ (التكامل الاجتماعي في الشريعة الإسلامية لحسين حامد حسان ص 8).
و هؤلاء المحتاجون قد حددتهم الآيات القرآنية في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقَابِ وَ الْغَارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾[التوبة: 60].
و من هنا تأتي أهمية الزكاة؛ من حيث شمولُها معظمَ أفراد المجتمع، و باعتبارها المنبع الأساسي الأول لتغطية جانب التكافل و التعاون؛ فهي الفريضة الثالثة من فرائض الإسلام، و لا يُقبَل الإسلام بدونها، و الزكاة تطهر نفس صاحبها و تزكيه؛ فهي منفعة له قبل أن تكون منفعة لمن تُنفق عليه؛ قال الله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾[التوبة: 103].
و ما من شك أن الزكاة كما تنزع من نفس المزكي الحرص و البخل و الشح، تنزع كذلك من نفس الفقير و المحتاج و المستحق للزكاة الحقد و الضغينة، و البغض للأغنياء و أصحاب الثراء، و تُوجد جوًّا من الألفة و المحبة و التعاون و التراحم بين أفراد المجتمع الذي تُؤدَّى فيه هذه الفريضة العظيمة.
و الشرع يُجيز لولي الأمر أن يأخذ من أموال الأغنياء ما يكفي حاجات الفقراء، كل بحسب قدرته المالية، و لا يجوز في مجتمع مسلم أن يبيت بعضهم شبعان ممتلئ البطن، و جاره إلى جنبه جائع، فعلى المجتمع ككل أن يشارك بعضه بعضًا في الكفاف؛ كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم: “مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَ جَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَ هُوَ يَعْلَمُ بِهِ”؛(رواه الحاكم و الطبراني عن أنس رضي الله عنه) (الصحيحه:149).
و قد قال الإمام ابن حزم[2] في ذلك: “و فرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، و يُجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، و لا في سائر أموال المسلمين، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، و من اللباس للشتاء و الصيف بمثل ذلك، و بمسكن يكنُّهم من المطر، و الصيف و الشمس، و عيون المارة”؛ (المحلى: 6/ 452).
و نظرة الإسلام للتكافل المادي لا تتوقف بتوفير حد الكفاف للمحتاجين، و لكنها تعدَّت ذلك إلى تحقيق حد الكفاية، و هذا ما ظهر في قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “كرِّروا عليهم الصدقة، و إن راح على أحدهم مائة من الإبل”؛(المصدر السابق).
و من الأحاديث النبوية التي توضح فضل التكافل في المجتمع المسلم و الحث عليه، و مكانة ذلك في الإسلام: ما أخرجه البخاري و مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: “إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا[3] فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَ أَنَا مِنْهُمْ”؛ قال ابن حجر في الفتح (5/ 130): و قوله صلى الله عليه و سلم: “فَهُمْ مِنِّي وَ أَنَا مِنْهُمْ”؛ أي: هم متصلون بي”؛ اهـ، و ذلك غاية الشرف للمسلم.
كما كان منها أيضًا: ما رواه عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: “المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَ لاَ يُسْلِمُهُ، وَ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَ مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَ مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ”؛(رواه البخاري ومسلم).
قال النووي – رحمه الله – في شرحه على مسلم: 16/ 135): “في هذا فضل إعانة المسلم و تفريج الكرب عنه و ستر زلاته، و يدخل في كشف الكربة و تفرُّجها مَن أزالها بماله أو جاهه أو مساعدته، و الظاهر أنه يدخل فيه من أزالها بإشارته و رأيه و دلالته”؛ اهـ، و هذا هو معنى التكافل في المجتمع المسلم، فهو يعنى أن يكون آحاد الشعب في كفالة جماعتهم، و أن يكون كل قادر أو ذي سلطان كفيلًا في مجتمعه يمده بالخير، و أن تكون كل القوى الإنسانية في المجتمع متلاقية في المحافظة على مصالح الآحاد، و دفع الأضرار، ثم في المحافظة على دفع الأضرار عن البناء الاجتماعي و إقامته على أسس سليمة؛ (التكافل الاجتماعي في الإسلام لمحمد أبو زهرة ص 7).
كما يعني أن يعيش الناس بعضهم مع بعض في حالة تعاضُد و ترابط بين الأفراد و الجماعة، و بين كل إنسان مع أخيه الإنسان؛ (التكافل الاجتماعي في الإسلام لعبد العال أحمد عبد العال ص 13).
هذا، و قد عدَّ الرسول صلى الله عليه و سلم مساعدة المحتاجين و الشعور بالمسؤولية تجاه أفراد المجتمع الذي نعيش فيه من أنواع الصدقات على النفس؛ فقد أخرج الإمام أحمد و النسائي و ابن حبان من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “عَلَىَ كُلِّ نَفْسٍ كُلَّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ صَدَقَةً مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، قلت: يا رسول الله، من أين أتصدق و ليس لنا أموال؟ قال: لِأَنَّ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ، وَ تَهْدِي الْأَعْمَى، وَ تُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَ الْأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَ تُدِلُّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَ تَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وَ تَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ”؛(صحيح الجامع: 4038).
و إن مثل هذه القيم لتُعدُّ علامات حضارية بارزة سبق بها الإسلام كلَّ النظم و القوانين التي أولت هذا الأمر اهتمامًا بعد ذلك؛ فمن كان يسمع عن هداية الأعمى، و إسماع الأصم و الأبكم؟!
و قد حذَّر الرسول صلى الله عليه و سلم من تقصير القادرين في قضاء حوائج الناس؛ فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي: قال عمرو بن مرة رضي الله عنه لمعاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: “مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ، وَ الْخَلَّةِ[4] وَ الْمَسْكَنَةِ، إِلَّا أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ، وَ حَاجَتِهِ، وَ مَسْكَنَتِهِ”، قال: فجعل معاوية رجلًا على حوائج الناس؛(صحيح الجامع:5685).
و أخرج الإمام أحمد و أبو داود و الطبراني في الكبير من حديث جابر بن عبد الله و أبي طلحة الأنصاري – رضي الله عنهم – قالا: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرًأ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَ مَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَ يُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ”؛(صحيح الجامع: 5690).
و في تأصيل ذلك من أقوال الفقهاء المسلمين ما يدعو إلى العجب، فإنهم قد شرعوا أنه يجب على كل مسلم محاولة دفع الضرر عن غيره، فيجب قطع الصلاة لإغاثة ملهوف و غريق وحريق، فينقذه من كل ما يُعرِّضه للهلاك، فإن كان الشخص قادرًا على ذلك دون غيره، فُرضت عليه الإغاثة فرض عينٍ، أما إذا كان هناك من يقدر على ذلك، كان ذلك عليه فرض كفاية، و هذا لا خلاف فيه بين الفقهاء؛ (المغني لابن قدامة: 7/ 515).
و على هذا فالتكافل دعامة أساسية من دعائم المجتمع الإسلامي، و هو يشمل صورًا كثيرة من التعاون و التآزر و المشاركة في سد الثغرات؛ تتمثل بتقديم العون و الحماية و النصرة و المواساة، و ذلك إلى أن تُقضي حاجة المضطر، و يزول همُّ الحزين، و يندمل جرح المصاب، و يبرأ الجسد كاملًا من الآلام و الأسقام.
[1] الماوردي: (364 – 450هـ/ 974 – 1058م) هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب، أقضى القضاة، كان إماما في الفقه و الأصول و التفسير، ولي قضاء بلاد كثيرة. من مؤلفاته:” أدب الدنيا والدين “، و”الأحكام السلطانية”؛ انظر: الذهبي: سير أعلام النبلاء 18/ 65، والزركلي: الأعلام 4/ 327.
[2] ابن حزم الأندلسي: هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري (384-456هـ/ 994-1064م) أحد أئمة الإسلام، كان عالما بالفقه ملما به، و هو من أتباع داود الظاهري يأخذ بظواهر النصوص؛ (انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات:20/ 93).
[3] أرملوا: أي: فني زادهم، و أصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل من القلة؛ (انظر: فتح الباري 5/ 130).
[4] الْخَلَّةِ: هي الحاجة و الفقر.