نظرات مشرقة

الثورة التي قادها رجال الدين

بقلم عفاف عنيبة

في الشهر المنصرم، لم أكن أتصور أنني سأدخل كواليس حرب الإستقلال لبلد مثل المكسيك و هذا ما وقع. فعلي مدي ثلاثين يوما عشت ملامح الثورة التي إجتاحت أرض المكسيك في بدايات القرن التاسع عشر و قد كان آنذاك جزء من المملكة الإسبانية.

فالرواية راجعت الكثير من مناحي الحياة في المجتمع المكسيكي من إختلاط الأجناس و نفوذ الكنيسة الكاثولوكية و الطبقة النبيلة و تلك البورجوزاية و بسطاء الناس من سكان أصليين هنود و أفارقة و مزيج من الأبيض و الأسود أي الخلاسيين.

كانت فرصة ذهبية بالنسبة للإطلاع عن كثب و بلا تنميق و تزويق فترة حاسمة من تاريخ أمريكا الوسطي و كيف أن العلاقات المتشابكة بين السياسة و الدين و المال تمخضت عنها إحدي انبل الثورات و التي قادها بإقتدار رجال الدين و ضباط كبار أحرار.

من الصعب تلخيص مئات الصفحات و المشاهد في عجالة إلا انني كانت لدي وقفات مع ملاك الأرض الأغنياء و علاقتهم المشوبة بالإحترام تارة و بالقهر تارة أخري مع الفلاحين و الرعاة، هذا و دور الكنيسة كبير في حياة نبلاء و اثرياء و بسطاء المجتمع المكسيكي، فرجال الدين في مدينة فلادوليد مثلا أوجدوا ميتم للذكور فقط تشرف عليه إمرأة و خدم و تمول الكنيسة المأكل و الملبس و الخدمات الصحية و من حين إلي آخر هناك زيارات منتظمة من رجال الدين للميتم.

التربية صارمة و متابعة حثيثة لكل يتيم، و باكرا يتعلم اليتيم وضعه و كيف أنه يتآخي مع زملاءه من الأيتام و يقدم يد العون للمزارعين و الأعمال اليدوية و تعلم الكتابة و القراءة. و في كل مرة يأخذ قسيس معه يتيم لحصة تدريب في المعبد الكنسي، و عادة ما يكون القسيس علي علم بكل مشاكل الجوار يحضر في الأفراح و الأتراح و يقدم المشورة لممثل الملك الإسباني و يقود العديد من المناسبات الدينية و يتدخل لرفع الظلم علي هذا و ذاك.

فالدين كان له ثقل و السلطة السياسية تعتمده و تستعين به إنما في منطقة ريفية زراعية كان هناك قسيس إسمه دون ميغال غريغوريو أنطونيو إغناسيو هيدالغو إ كوستيلا إ غلاغا موندارت فيلاسينور و هو من أب و أم إسبانيين مولود بالمكسيك و لا يحوز علي حقوق الإسبان المولودين بإسبانيا بحسب النظام الإستعماري. كان عميد معهد سان نيكولاس في مدينة فالادوليد، و قد كان متأثرا بمعاني الثورة الفرنسية لعام 1789 و كان يشجع سكان المنطقة علي التعلم و تنويع مصادر الرزق و يراقب سلوكات السلطة الملكية.

عندما هيمن نابليون الأول علي السلطة في إسبانيا إنحاز في الباديء القسيس ميغال هيدالغو للملك الإسباني فرديناند السابع رافضا النفوذ الفرنسي و هكذا بدأت الثورة في 1810 و التي تحولت في 1813 إلي مطلب الإستقلال و التي دامت إلي 1821 و إنتهت بإنتصار الثوار و إستقلالهم عن إسبانيا الملكية.

كانت بدايات الثورة صعبة بالرغم من تأييد بعض كبار الضباط الإسبان لها، المزارعين كانوا يفتقدون للتدريب في القتال و قد طالت عمليات النهب المدن و القري و العزل و عاشت الأسر الغنية و البسيطة إنقسامات بين مؤيد و معارض و دخلت رئاسة الكنيسة علي الخط و عاقبت القس ميغال هيدالغو بنزع عنه صفة رجل دين و آل الوضع إلي إعدامه مع الجنرال إغناسيو ألند لكن تلقف مشعل الثورة قسيس آخر، و نال من الأعداء الكثير و عرف نفس مصير سابقه ميغال هيدالغو إلا أن الثورة إشتد عودها و أنضم إليها ضباط و نبلاء و بسطاء و في النهاية إنتصرت و عرفت أخيرا بعد إحدي عشر سنة من الحرب المتواصلة المكسيك طعم الإستقلال عن التاج الإسباني.

الشخصيات التي عاشت الأحداث بنسب متفاوتة تجاوزتها مجموعة الأيتام ممن تربوا علي أيدي سيدة كرست حياتها لهم و بكت بعضهم ممن قضوا في حرب الإستفلال، كان كل واحد منهم قصة معاناة صراع و فرج أحيانا، فالجميع كان مع موعد الحرب كل في جهته و قد إستقلوا عن الميتم و حافظوا علي علاقتهم بالكنيسة و جلهم كانت لهم مواقف مشرفة من الطموح الشرعي في الإستقلال.

لعل المكسيك لا يزال يكافح من أجل إستقلال فعلي من جار قوة عظمي في الشمال و جنوب يهتز علي وقع نزاعات و أخطبوط المخدرات و هو بتنوعه يبقي رمز لتعايش جميل و لا أدري إلي أي مدي يلعب السكان الأصليين من هنود أدوار فاعلة غير أنني علي يقين بأن التضحيات التي ما فتأ شعب المكسيك يبذلها منذ فجر الإستقلال إلي يومنا هذا تكريس لدولة القانون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى