المعادلة الصعبة.. إضاءات في طريق الجمع بين العمل الدعوي و أعباء الحياة المعاصرة
بقلم الأستاذ عبد الصمد حدوش
عاد أحمد إلى البيت منهكًا كالعادة، بعد يوم كامل من الدوام.. ألقى حقيبته على الأرض غير مبالٍ، ثم ارتمى على الأريكة، أخيرًا يستطيع أن يحظى بدقائق من الاسترخاء، أو هكذا ظن.. إذ إن استمتاعه هذا كان ليدوم أطول لولا أن التفت ناحية مكتبه، هناك في ركن الغرفة.. حيث كانت كومة من الكتب و الأوراق المبعثرة، بعضها على المكتب و بعضها ملقى على الأرض.
أحس حينئذ بوخزة في صدره، كان جرحًا ما كان قد نسيه -أو تناساه- قد نكأ من جديد.. إذ إن تلك الكتب كانت جزءًا من برنامج -أو برامج- القراءة التي كان ينوي أن يسير عليها.. هذا لتعلم الفقه، و ذاك لمتابعة الأوراد اليومية من عبادات و غيرها، آخر لأساسيات الفكر الغربي.. لا يذكر ترتيبها بالضبط و لا أين وصل في قراءتها، فمنها من قرأ نصفه، و منها من قرأ مقدمته و منها من لم يفتحه بعد.. أما كومة الأوراق فهي ما بين برامج علمية ظلت إلى الآن حبرًا على ورق، و خطط لمقالات كان ينوي كتابتها.. لكن لم يكتب لها رؤية النور بعد.
حسنا دعنا نتعرف أكثر على أحمد.. إنه مهندس تخرج منذ سنتين، و قد كان لديه ميول واضح نحو القراءة و الكتابة و العلم الشرعي؛ لذلك فقد كان يمني نفسه طيلة سنوات الدراسة، أنه حين يحصل على وظيفة تؤمّن له دخلًا مجزيًا، و يستقل بها ماديًا، فإنه سيتثمر وقته و جهده و ماله في الكتابة و القراءة، و في كل ما كان يرى فيه نفعًا للأمة.. قرأ كثيرًا من سير العلماء و الكتّاب و المفكرين و المصلحين، الذين لم تمنعهم وظائفهم و أعمالهم و تخصصاتهم من العمل للدين، لذلك ظن أنه حالما يتخرج و يعمل.. سيسير تلقائيًا على خطاهم.
لكنه ما لبث أن اصطدم بالواقع المرير: الوظيفة التي تستنزف الوقت و الجهد، و الأعباء الشخصية و الأسرية التي تلتهم ما تبقى، و الإكراهات و الضغوط التي لا تدع للعقل مساحة يفكر فيها في قراءة أو كتابة أو دعوة أو إصلاح.. فما لبثت أحلامه أن خفتت و همته أن انطفأت، فلم يعد يرجو إلا الحفاظ على فروضه من العبادات.. و القدرة على قراءة بعض المنشورات و المقالات و لو قراءة سطحية بين الفينة و الفينة.
عرض الإشكال
حسنًا، نحن نعلم أن أحمد ليس وحيدًا في ذلك، بل إن هذا الحال يكاد يكون عامًا لدى كثير من طلبة العلم الساعين للإصلاح، ممن قُدِّر عليهم أن تكون وظائفهم و مجالات تخصصهم بعيدة عما يحبونه من علوم الشريعة و الفكر و الثقافة، حتى إن كثيرًا منهم استسلموا في نهاية المطاف لدوامة و أعباء الحياة، و تخلوا عن طريق طلب العلم و الدعوة كليًا.
يسعى هذا المقال إلى تسليط شيءٍ من الضوء على هذه الظاهرة، مع دراسة نماذج دعوية و إصلاحية استطاعت إبصار الطريق إلى الجمع بين القيام بالأعباء الوظيفية و الأسرية، و بناء مشاريع دعوية و علمية و فكرية لا يزال أثرها ممتدًّا إلى اليوم. و إني لأرجو ألا يظن القارئ شيئًا من المثالية في صاحبه -كاتب هذه الكلمات- فهو لم يَسلم بدوره من هذه الدوامة، أو أنه بصدد خُطبة حماسية تُلقى من شرفة برجٍ عاجي.
إن هي إلا كلماتٌ من جريحٍ إلى جريحٍ.. من غريق إلى غريق يبحثان معا عن قارب إنقاذ.. محاولةٌ لمشاركةِ الهَمِّ الفكري و الدعوي، نستحضر فيها شيئًا من سير الناجحين، لنستضيء بمناهجهم و أفكارهم، و نقتفي أثرهم، و نستجدي من نار عزيمتهم شهاب قبس نشعل به ما انطفأ من جذوة همتنا.. حسنًا دعنا من الجرحى و الغرقى و جذوات النار.. و لنبدأ بأول شخصية!
الجامعون بين الأعباء الوظيفية و المشاريع الإصلاحية
نماذج تاريخية
علي عزت بيجوفيتش
ضرب القاضي مطرقتَه ثلاثَ طرقاتٍ على الطاولة، معلنًا عن بدء المحاكمة -محاكمة صورية طبعًا، ليس لها أيُّ معنى، كما هو الشأن مع أغلب محاكمات الشيوعيين- نحن الآن في العام 1946م، بُعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، نحضر محاكمةَ مجموعةٍ من الشباب المسلمين في مدينة “سراييفو” البوسنية، الواقعة آنذاك تحت حكم يوغوسلافيا الاشتراكية.
أريدك أن تركز معي على هذا الشاب، صاحبِ العينين البنيتين الحادتين، اللتين أحالهما ضوء القاعة الأصفر الخافت إلى جمرتين ملتهبتين. لم يتجاوز ربيعه الواحد و العشرين بعدُ، لكنه كان مثقفًا طموحًا، مهتمًّا بتوعية المسلمين بخطورة الفكر الشيوعي، لذلك انضم إلى حركةٍ سُمِّيَت “الشبان المسلمين”، كانت تسعى إلى ذات الهدف، و هو ما انتهى به إلى السجن بعد هذه المحاكمة الصورية، في إطار حملة القمع التي قادها الطاغية “جوزيف تيتو” ضد الشخصيات الدينية و الفكرية التي اعتبرها تهديدًا للمنهج الشيوعي. لكن ما لم يعرفه القاضي آنذاك، أن هذا الشاب سيصبح بعد عقود قليلة رئيسًا للبوسنة، و يقود حرب الاستقلال عن يوغوسلافيا.
إن سيرة هذا الرجل سيرةٌ ثرية بالإنجازات و المشاريع و النضال الفكري و السياسي، و لكنني لا أهدف في هذا المقال إلى سرد قصة حياته، بل أريد أن أُظهر لك كيف أن حياته العلمية لم تتوقف بسبب السجن، و لا بسبب أعباء الوظيفة و الأسرة بعد ذلك. فبعد الإفراج عنه عام 1949م، اضطر علي عزت بيجوفيتش إلى العمل مستشارًا قانونيًا في إحدى الشركات الهندسية بمدينة سراييفو.. ثم ظل لاحقًا متنقّلًا بين الأعمال القانونية و الإدارية.. و هي وظائف لم تكن تحقق له طموحه الفكري، لكنها كانت ضرورية لتأمين معيشته و عائلته، و قد بقي مبتعدًا عن المناصب السياسية بسبب تضييق الدولة على نشاطه، و مع ذلك، لم يستسلم لضغوط و أعباء الوظيفة، بل واصل مشروعه الفكري بهدوء و صبر. كان يخصص أوقات فراغه، خصوصًا لياليه، للقراءة المكثفة و الكتابة و التأمل، فصاغ خلال تلك الفترة كثيرًا من أفكاره التي ستُبنى عليها لاحقًا أطروحاته و نظرياته الكبرى المبسوطة في مؤلفاته.
مالك بن نبي
دعنا الآن نغادر سهول البلقان و مناخها البارد إلى مكان أكثر دفئًا، إلى “قسنطينة” في الجزائر، حيث ولد عام 1905م رمز من رموز الفكر الإسلامي الكبار.. مالك بن نبي.. رائد النهضة الفكرية الإسلامية.. ذلك الرجل الذي ولد في بلد يرزح تحت الاحتلال الفرنسي، ثم هاجر إلى فرنسا لدراسة الهندسة الكهربائية سنة 1930م، ليتخرج سنة 1935م كمساعد مهندس كهربائي.
ساهمت تجارب مالك بن نبي الحياتية، من نشأته في أسرة محافظة ذات علم، و معايشته لوطأة الاحتلال و مرارته، و ما عاشه من مواقف عنصرية في فرنسا، في صقل شخصيته الفكرية المتميزة، فبدل أن تكسره هذه الصعوبات و التحديات، اتخذ منها وقودًا دفعه لبناء مشروعه الفكري الذي تمركز حول مشكلات العالم الإسلامي الفكرية و الطريق الذي يجب أن يسلكه نحو النهضة.
الشاهد من قصة مالك بن نبي، أنه استطاع العمل على مشروعه هذا في ظروف اجتماعية صعبة عاشها في فرنسا كموظف بسيط يكابد أعباء المعيشة و الأسرة، و قد بقي كذلك حوالي عقدين من الزمان منذ 1935م سنة تخرجه، إلى عام 1954م حيث انتقل إلى مصر إبان اندلاع الثورة الجزائرية و توليه منصب مستشار منظمة المؤتمر الإسلامي، ثم أخيرًا عاد إلى موطنه بعد الاستقلال سنة 1963م حيث عُيّّنَ مديرًا عامًا للتعليم العالي. و لم يتفرغ للعمل الفكري بشكل تام إلا في سنة 1967م حيث استقال من منصبه و انكب على التأليف و المجالس الفكرية إلى أن وافته المنية سنة 1973م، رحمه الله رحمة واسعة.
القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري
إذا استمررنا في الصعود نحو القرون الفاضلة من الأمة، فإننا لن نعدم أمثلة كثيرة عن علماء و فقهاء لم تثنهم وظائفهم و أعمالهم في الدولة عن التأليف و التحصيل و مجالس العلم. من أبرزهم القاضي أبو يوسف (ت: 182هـ) تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمهما الله، حيث شغل منصب قاضي القضاة خلال القرن الثاني الهجري في الدولة العباسية، ذكر عنه الإمام الذهبي: «بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه، و كان الرشيد يبالغ في إجلاله.»1
أما عن عطائه العلمي فله مؤلفات عديدة في الحديث و الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، و قد بلغ من تعلقه بالعلم ما رواه عنه تلميذه القاضي إبراهيم بن الجراح: «مرض أبو يوسف، فأتيته أعوده، فوجدته مغمى عليه. فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم: ما تقول في مسألة؟ قلت و أنت في هذه الحالة؟ قال: لا بأس بذلك، ندرس، لعله ينجو به ناج! ثم قال لي: يا إبراهيم: أيها أفضل في رمي الجمار، أن يرميها ماشيًا أو راكبًا؟ قلت يرميها راكبا. قال: أخطأت. قلت: يرميها ماشيا. قال: أخطأت! قلت: قل فيها، يرضى الله عنك. قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه ماشيًا، و أما ما كان لا يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه راكبًا. ثم قمت من عنده. فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه. فإذا هو قد مات.»2
فانظر إلى هذه الهمة العالية في مدارسة العلم و هو على فراش الموت، و كيف حافظ هذا الإمام على العلاقة الوطيدة بالعلم الشرعي و التأليف و الدعوة و هو على رأس منصب عالٍ من مناصب الدولة، ألا و هو منصب قاضي القضاة، يتنقل بين القضايا، و يفصل في المظالم، و يُستشار في أمور السياسة و الشرع، و يشرف على سائر القضاة في الأقاليم. و مع ذلك، وجد من الوقت و الهمة ما مكَّنه من حفر اسمه في تاريخ الأمة.
على خطى الجامعين.. حلول عملية لتحقيق معادلة الجمع
بإمكاننا من خلال سِيَر الشخصيات المذكورة أن نستنتج بضع قواعد عملية تساعد في الهدف المطلوب.. و أرجو أن تنتبه إلى أنني قلت “قواعد عملية” و ليس “عِصِيّ سحرية”.. أي أنّ مفعولَها و ثمرتَها في حياةِ الفرد لا تظهرُ إلا بعد المكابدةِ و الصبرِ عليها، و الحرصِ على اتّباعِها، حتى تظهرَ منها النتائجُ المرجوّة.
اختيار الثغر حسب الإمكانيات و المهارات
أعتقدُ أن أوّلَ سؤالٍ بديهيٍّ يطرح نفسَه عند الحديث عن الجمع، هو: ما الشيءُ الذي تريد أن تجمعَ بينه و بين أعباء وظيفتِك و التزاماتِك؟ نعم، أعلمُ أنّه مشروعٌ دعويٌّ أو إصلاحيّ، لكن عليك أن تسألَ نفسَك عن الثَغْرِ الذي يجب عليك اختيارُه.
و هنا يظهر فارقٌ طفيفٌ بين ما “يُعجبُك” و ما “تُجيده”. ليس المطلوبُ منك أن تُكرّرَ تجربةَ أيٍّ من الشخصيّات المذكورة بحذافيرِها، بل لا بدّ أن تسألَ نفسَك عن مواهبِك، مهاراتِك، ظروفِك… ما الذي تستطيعُه واقعًا؟
فالأولى أن تضعَ جُهدَك في بابٍ تُبرعُ فيه و تُجيده، فتُؤجَر عليه، و لا تلتفتْ لكون الثغرِ بسيطًا بالمقياس المادّي. قد يكونُ عملاً ثانويًّا، بعيدًا عن الأضواء، لا يراه أحد، و لا يُصفِّقُ لك عليه أحد، لكن لو عملتَه بإخلاصٍ و إتقان، فلربّما تكونُ عند الله أعظمَ ممن فُتحت له المنابر، و على قَدَرٍ عند الناس. و تذكَّر: ((ربّ أشعثَ أغبر))… الحديث.
الاستعانة بالدعاء
في زحمةِ الخططِ و الجداولِ و الحسابات، كثيرًا ما ننسى هذا السلاح: الدعاء. ننسى أن نرفعَ أكفَّنا به إلى مَن بيده التوفيق، إلى مَن يملك بثَّ الحياةِ في خططِنا و برامجِنا فتظهرَ ثمراتُها، أو يمحقَ بركتَها فتَبقى حبيسةَ الأوراق، و عند رؤيةِ النورِ لا يظهر لها أثر.
اجعلْ لك وردًا من الدعاءِ لا تحيدُ عنه، و ادعُ اللهَ بالبركةِ في الوقتِ و الجهد، بالإخلاصِ، و النجاةِ من فخِّ العُجْب، بالثباتِ على الطاعة. بُحْ بين يديه بالعقباتِ التي تعترضُك، و بالصعوباتِ التي تُواجِهُك.
تنظيم الوقت
تنظيم الوقت، العبارة التي لا أشك أنها تذكّر كلًّا منّا بجُرحه الخاص. تلك البرامج و الجداول و الخطط التي كان ينتهي بها المطاف في كل مرة داخل سلّة القمامة، و تلك الساعات التي قضيناها في مشاهدة مقاطع “كيف تنظم وقتك” و”كيف تتوقف عن إضاعة الوقت”. مقالات و محاضرات و كتب قرأناها لنتعلم منها استغلال الوقت، ثم بدأنا نطبّق بعض النصائح منها، ثم ما لبث أن مرّت علينا بضعة أيام حتى عاد الحال إلى سابقه. ليست المشكلة طبعًا في هذه المواد ذاتها، لكن المشكلة حتمًا في تعاملنا مع قواعد تنظيم الوقت على أنها حلول سحرية.
كتب الشيخ إبراهيم السكران في كتابه مسلكيات الذي أحثُّك على قراءته -بعد أن تنتهي من هذا المقال طبعًا!- واصفًا هذه المشكلة: «معالي الأمور و الطموحات الكبرى في العلم و التعليم و التأليف و الإصلاح و التغيير و النهضة بالأمة، لا تكشف وجهها لك حتى تمسحها العرقة عن جبينك، بيد ترتعش من العناء». ثم أضاف في عبارة رائقة: «خُطَطُنا في شواهقِ الجبال، و ما زالت أقدامُنا غَضَّةً طريّة».
التخلص من الملهيات و المشتتات
الهاتف، وسائلُ التواصل، مقاطعُ الفيديو، و الأخبارُ التي لا تنتهي… كلُّها أمورٌ تسرق وقتك. لن أطلبَ منك أن تتحقّق الآن من مقدار الوقت الذي تستهلكه هذه الوسائل مجتمعة، إذ لو فعلتَ، لأغلقتَ الجهازَ الذي تقرأ منه هذه السطور على الفور!
لذلك، أنصحك أن تؤجّل هذه الخطوة إلى وقتٍ لاحق، ستُصدم من كمِّ الساعات التي كنت تُريقها قربانًا لهذه الوسائل. بعد ذلك، أنصحك بقراءة كتاب الماجريات لإبراهيم السكران، فستجد فيه حديثًا عميقًا و مفيدًا عن ظاهرة المشتتات الرقمية و السياسية، مع تحليلاتٍ رصينةٍ و نصائحَ نافعةٍ مستندةٍ إلى نماذجَ واقعيّة.
التصالح مع المشاريع الصغيرة (ليس ضروريا أن يكون مشروعك ضخما)
من الأخطاء الشائعة التي تحبط الكثيرين و تُطفئ جذوةَ حماسهم: تطلُّعهم إلى المشاريع الكبرى في الأمة، و تحسُّرهم على عدم قدرتهم على تحقيق إنجازاتهم بنفس القدر. فإذا أُضيف إلى ذلك التفكير في كيفية الجمع بين مثل هذه المشاريع، و الأعمال الوظيفية، و الأعباء الأسرية، زادت مشاعرُ الإحباط و الاستسلام. و هذا راجعٌ بالأساس إلى أن ما يظهر لنا من حياة المصلحين، في الغالب، هو الفترات التي كانت فيها مشاريعهم ناجحة. لقد تعرفنا على المؤلّف العظيم للكاتب الفلاني، و لم نرَ المقالات المتهافتة الركيكة التي بدأ بها مسيرته.. رأينا الخُطبة الوعظية البليغة، و لم نرَ ما كان قبلها من المحاولات الخجولة المتلعثمة. ابحث فيما شئت من المشاريع، و ستجد أن البدايات كانت محاولاتٍ متواضعة.
بالإضافة إلى ذلك، فالعملُ للدين لا يُشترط فيه أن يكون صاخبًا مبهِرًا؛ ربما يكون مجموعةً قرائية، أو برنامجًا لتعليم أطفال الحيّ القرآن، أو مساهمةً في الأعمال الدعوية بالمهارات التقنية المناسبة كالتصميم و التصوير مثلًا. تذكَّر جودة المقاطع التي تُنتجها فصائلُ المقاومة في غزّة، والأثر العظيم الذي تبثّه في الناس من تثبيت و تفاؤل. هذه أبواب قل ما تخطر لنا عند الحديث عن “مشاريع” إصلاحية.. مع أثرها العظيم و شدة الحاجة إليها.
التمييز بين الضروري و الزائد عن الحاجة من أعباء الوظيفة و الأسرة
من أسباب الغرق حتى الأذنين في الالتزامات، و الشعور بالضغط الشديد، و ضيق الوقت: عدم التمييز بين الضروري من أعباء الحياة، و ما هو زائد عن الحاجة.. ساعاتٌ من التدقيق المفرط، و الإصرار على المثالية في كل تفصيلة من تفاصيل العمل، و قَبول المهام الوظيفية الإضافية دون تردّد. و فيما يخص الأسرة، نجد الالتزام بأنماط استهلاكية و اجتماعية، كالإكثار من الخروجات الأسرية و اللقاءات العائلية التي تستنزف الوقت و الجهد.
لا بدّ للإنسان من وضع خطوط حمراء واضحة بين الضروري و الزائد عن الحاجة من الكماليات. لا بد من التضحية ببعض الرفاهيات؛ فصاحب الرسالة، و إن كان لا يُفرّط في واجباته و مسؤولياته، بل يؤديها على أحسن وجه، إلا أنه لا ينهمك فيها كليًّا تاركًا خلفه العملَ للدين.
اخرج من “مأزق المترقب”، كُفَّ عن انتظار الظروف المثالية
“مأزق المترقب” عنوان الفصل الثاني من كتاب الشيخ إبراهيم السكران (مسلكيات)، و قد وضع لفتات جميلة عن ظاهرة التأجيل و التسويف، لا سيما عند من يحملون هِمَمًا رسالية لغايات دعوية، لكنهم يظلون حبيسي الترقُّب.
تجد الواحد منهم يقول: سأبدأ بعد أن أنهي دراستي، أو حين أستقر ماديًّا، أو عندما تتغير ظروفي. هكذا تمضي حياته، و مشاريعه حبيسة الأوراق، ظنًّا منه أن العمل لا يُنجَز إلا في ظل التفرغ التام و الظروف المثالية.
إذا لم تبدأ و أنت مرهق، مشغول، مرتبك، لا تملك الخطوط التفصيلية الواضحة لمشروعك، فالغالب أنك لن تبدأ أبدًا. هذه حقيقة مُرّة أثبتتها التجارب. فاخرج من مَأزق المُترقّب، و كفّ عن انتظار الظروف الملائمة.
نهاية الكلام.. بداية العمل
هكذا نكون قد استعرضنا نماذجَ تاريخيةً و معاصرةً جمعت بين أعباء العمل الوظيفي و الانشغال الرسالي، و استخلصنا من سِيَرهم (و من كفاح غيرهم ممّن لم يُكتَب لهم ضوء الشهرة) بعضَ الخطوات العملية لموازنة كفّي هذه المعادلة.
لكن دعني أذكّرك: كلُّ ما قرأته مجرّدُ إضاءاتٍ على الطريق، إشارات مرور لا توصلك وحدها إلى أيّ مكان، لا بُدّ من السير. و السير هنا ليس سيرًا في طريق محاط بالأشجار مفروشٍ بالورد، بل هو طريق وعر متعب و مرهق، لكن ثمرته -بإذن الله- تُذهب بحلاوتها مرارة هذا التعب.
فها هو الطريقُ الآن مضاءٌ بين يديك، و مصاعبُه و مشاقه واضحةٌ لديك، فإذا لم تكن على استعدادٍ لـ«تمسح العرق عن جبينك بيدٍ مرتعشةٍ من العناء»، فأرجوك.. لا تتهمني بأنني نصّابٌ محتالٌ أبيعُ الوهم!
هامش
- سير أعلام النبلاء، جـ8، صـ536. ↩︎
- قيمة الزمن عند العلماء صـ15. ↩︎
- بتصرف عن الرابط : https://tipyan.com/combining-advocacy-work-and-work/