دعا حكمت الهجري، أحد المرجعيات الدرزية الروحية في محافظة السويداء السورية، إلى فتح معبر دولي بين السويداء و الأردن جنوبًا، و فتح الطرقات التي توصل السويداء بمنطقة شرق الفرات شمالًا، و هي المنطقة التي تسيطر عليها قوات حماية الشعب الكردية “قسد”.
هذه الدعوة من الرجل المعروف بتعاونه مع الاحتلال الإسرائيلي، جاءت مباشرة عقب مغادرة الجيش السوري و الأجهزة الأمنية محافظة السويداء نتيجة قصف الطيران الإسرائيلي المكثف لها.
و كانت تعبيرًا عن شعور بالانتصار على الدولة السورية بدعم إسرائيلي مباشر، و بأن الوقت حان لتمهيد الطريق لخروج السويداء عن حكم السلطة في دمشق، ما دام الحديث بات عن معبر سيادي خاص بالمحافظة مع الأردن.
الطائفية وإسرائيل
الهجري لا يمثل بالضرورة الأغلبية الدرزية في سوريا، في ظل وجود مرجعيات روحية أخرى أمثال الحنّاوي و جربوع، رافضة للتدخل الإسرائيلي، بالإضافة إلى الشيخ ليث البلعوس، القيادي في تجمع رجال الكرامة، الذي يقف ضد الهجري و يتمسك بوحدة الدولة السورية.
خروج الهجري عن الصف الدرزي و الوطني، منذ سقوط نظام الأسد، تقاطع مع سياسات إسرائيل التي عملت على تدمير مقدرات الجيش السوري عبر مئات الغارات الجوية، بالإضافة إلى احتلالها مرتفعات جبل الشيخ، و أراضيَ سورية تقع خلف خط هدنة العام 1974، بعمق يصل إلى نحو 3 كيلومترات.
و ما كان له أن يقف ضد الحكم الجديد في دمشق، لولا دعم إسرائيل له بالمال و السلاح، و بتدخلها مباشرة عبر سلاح الطيران لصالحه، ما يعني أن إسرائيل هي المحرك، و هي من يرسم حدوده و سقفه.
إسرائيل، المتهمة بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، و رئيس وزرائها مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، و التي تقتل يوميًا 28 طفلًا فلسطينيًا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 و حتى الآن، حسب إحصاءات الأمم المتحدة، ليست أخلاقية أو إنسانية، و ليست أهلًا لدعم حقوق شريحة من طائفة في بلد آخر.
و واقع الحال يشير إلى أن إسرائيل تستخدم الهجري لتحقيق أهدافها السياسية الاستعمارية في سوريا، و منها إقامة ما يسمى بـ”ممر داود” في عمق الأراضي السورية، و الذي يمر حُكمًا بمحافظة السويداء التي يقطنها الرجل و أتباعه.
ما هو “ممر داود”؟
حسب التنظير الصهيوني التوراتي، فإن إسرائيل تتطلع لإقامة محور أو ممر جيوسياسي ينطلق من شمال فلسطين عبر الجولان و محافظتي درعا و السويداء، و من ثم التمدد في الأراضي السورية الشرقية نحو الشمال، عبر منطقة التنف (نقطة التقاء الحدود السورية مع الأردن و العراق) وصولًا إلى شرق الفرات على الحدود التركية العراقية، و الدخول بلسان جغرافي من محافظة الأنبار العراقية إلى كردستان العراق.
هذا المخطط يرتبط بفكرة إسرائيل الكبرى و دولة بني إسرائيل في عهد النبي داود، و هي دولة مزعومة، ليس لها ما يدل عليها في علم الآثار في بلاد الشام أو العراق، ما يشير إلى أهداف إسرائيل الاستعمارية الرامية إلى التمدد و السيطرة عبر التحكم بالجغرافيا.
إسرائيل تحتل الآن أجزاء واسعة من محافظة القنيطرة السورية المحاذية لفلسطين، و هي تعمل بالتعاون مع حكمت الهجري لإنشاء كيان موالٍ لها في محافظة السويداء، في وقت تدعم فيه قوات “قسد” الكردية المسيطرة واقعيًا على شرق الفرات.
إذا استطاعت إسرائيل، تحت إشرافها و سيطرتها، الوصل جغرافيًا بين محافظة القنيطرة التي تحتل أجزاء منها جنوب غرب سوريا، و بين السويداء جنوب شرق سوريا، و من ثم فتحت طريقًا بين السويداء جنوبًا و شرق الفرات شمالًا- و هو ما طالب به حكمت الهجري كما أُشير له في بداية المقال- فإن ذلك سيُعد نجاحًا إستراتيجيًا لإسرائيل، سيكون له الكثير من التداعيات الجيوسياسية.
التمدد الجغرافي داخل الأراضي السورية، وصولًا إلى شرق الفرات، سيكون توطئة للوصول إلى كردستان العراق عبر محافظة الأنبار العراقية، فيكتمل هنا ما يسمى “ممر داود”.
إنجاز هذا المشروع الاستعماري يعتمد على مستوى نجاح إسرائيل في توظيف الأقليات الطائفية (الدروز) و العرقية (الأكراد)؛ و هذا ما تعمل عليه إسرائيل و قوى الاستعمار بإثارتها الأبعاد الطائفية و العرقية، بعيدًا عن الحس الوطني أو الانتماء لفكرة الأمة، لإبقاء دول المنطقة ممزقة، مستنزفة، و غير قادرة على حماية نفسها.
التهديد الوجودي
لطالما كان للجغرافيا تأثير كبير على سلوكيات البشر و الكيانات السياسية، فالدول المطلة على البحار، سلوكها و نظريات أمنها القومي تختلف عن الدول الداخلية، كما الدول ذات المساحة الصغيرة و الدول التي تحظى بمساحات كبيرة ارتباطًا بالتعداد السكاني.
إسرائيل، منذ إنشائها و حتى الآن، تعيش عقدة الديمغرافيا قليلة العدد، و انحسار الجغرافيا لمحدودية مساحة فلسطين المحتلة، ما يجعلها على الدوام تتحدث عن مواجهتها تهديدات وجودية، و ذلك لعدة أسباب، منها:
1- الشعور العميق لدى الإسرائيليين بالاغتراب، و عدم الأصالة، و انعدام اليقين؛ فإسرائيل نبتٌ من خارج نسيج المنطقة العربية، و اتصالها بالغرب و سياساته الاستعمارية يجعلها دائمة القلق.
و هذا يفسر سبب حرصها الدائم طوال 77 سنة من الاحتلال على اعتراف الشعب الفلسطيني بشرعية وجودها كدولة يهودية.
2- محدودية مساحتها و فقدانها العمق الجغرافي؛ فرغم قوتها العسكرية المدعومة من واشنطن و عموم المنظومة الغربية، فإنها تعيش خشية متعاظمة مع مرور الزمن، لا سيما في السنوات الأخيرة، مع التقدم الكبير في منظومات الصواريخ و المسيرات الهجومية التي أصبحت متاحة لأغلب الدول، كما هو الحال مع إيران التي قصفت بعنف مواقع إسرائيلية حساسة بصواريخها الفَرط صوتية ردًا على العدوان الإسرائيلي عليها في الشهر الماضي.
3- توسع ظاهرة المقاومة المناهضة للاحتلال الإسرائيلي من داخل فلسطين و عبر الحدود، كما تقوم بذلك حركة حماس و المقاومة الفلسطينية و حزب الله اللبناني، إضافة إلى خشية إسرائيل من تداعيات ارتفاع منسوب العداء لها من قبل الشعوب العربية؛ بسبب سياساتها و جرائمها بحق الشعب الفلسطيني، و التي دفعت الشعب اليمني لنصرة غزة في مواجهة الإبادة الجماعية.
في ظل هذه البيئة السياسية الرافضة للاحتلال، تعيد إسرائيل النظر في محددات أمنها القومي، بإدخال عنصر التوسع الجغرافي في المنطقة لمواجهة تحدياتها الأمنية الوجودية، مستعينةً بأساطير توراتية لتضفي القداسة و الشرعية اللاهوتية على احتلالها أراضي الدول العربية المجاورة لفلسطين المحتلة.
الجغرافيا والأمن القومي
مشروع “ممر داود” يشكل رأس جسرٍ بري لاختراق بلاد الشام حتى شمال العراق، توطئة لاختبار إمكانية تمدد الاحتلال في أراضي الدول العربية، تحقيقًا لفكرة إسرائيل الكبرى.
الأهداف المنشودة لمشروع “ممر داود”، تتمثل في عدة أمور منها:
توسيع مساحة إسرائيل بالسيطرة على أراضٍ عربية كجزء من إسرائيل الكبرى إن استطاعت إلى ذلك سبيلًا، و إن لم تتوفر الظروف و البيئة المناسبة لذلك، فيمكن تحويل الممر إلى منطقة هيمنة لإسرائيل بالتعاون مع “الدروز” جنوبًا و”الأكراد” شمالًا، و بغطاء أميركي، حيث تتواجد القوات الأميركية شرق الفرات.
خلق بيئة لتقسيم سوريا على أساس طائفي و عرقي؛ كيان درزي جنوب سوريا في السويداء، و كردي شرق الفرات، و عَلوي على الساحل، و سني عربي في الوسط، ما يؤدي إلى إضعاف سوريا و إنهاكها على المدى الطويل.
الفصل بين سوريا و العراق، و إضعاف فرص التنسيق بينهما كدولتين عربيتين مهمتين مناهضتين للاحتلال الإسرائيلي.
إضعاف النفوذ الإيراني بقطع خط التواصل بين طهران و بيروت، عبر السيطرة على الحدود الشرقية لسوريا مع العراق، ما يعني إضعاف حزب الله كقوة مقاومة ضد إسرائيل.
الاقتراب من حدود تركيا الجنوبية و تهديد أمنها الإقليمي كدولة منافسة و مزاحمة لإسرائيل في الشرق الأوسط، و تقليص نفوذها داخل سوريا بعد نجاح الثورة السورية.
التدخل في الشؤون العراقية الداخلية عبر المكونات الطائفية و العرقية.
الاستفادة من مصادر الطاقة و الأراضي الزراعية شرق الفرات.
ختامًا
اشتباكات محافظة السويداء بين مليشيات درزية تابعة لـ (حكمت الهجري) و بين العشائر العربية في منتصف يوليو/ تموز الجاري، ربما كانت فعلًا مقصودًا بتحريض إسرائيلي، لدفع الجيش السوري و الأجهزة الأمنية للتدخل، ما يؤدي إلى تكرار تدخل إسرائيل في المشهد السوري بذريعة الدفاع عن الدروز، لتثبيت واقع نزع سلاح الدولة السورية في المحافظات الجنوبية، و لتدمير ما يمكن تدميره لإعاقة البناء و النهوض في سوريا، بعد نجاح الإدارة السورية الجديدة في اختراق الحصار المضروب عليها.
هذا الاشتباك بين الدروز من أتباع (حكمت الهجري) و العشائر العربية، أعطى مؤشرًا مهمًا على دور إسرائيل التخريبي في سوريا، و لعبها على وتر الطوائف و الأقليات، لإنهاك سوريا، و تعظيم التدخل و النفوذ الإسرائيلي فيها.
إسرائيل متحفزة لاستمرار ضغطها على دمشق لدفعها للقبول بشروطها، و في مقدمتها الاعتراف بإسرائيل، و التطبيع معها، و التنازل عن هضبة الجولان و أراضٍ سورية أخرى في الجنوب السوري.
إن حصل اعتراف دمشق بوجود إسرائيل على أرض فلسطين المحتلة، و هو أمر مستبعد، فلن يحول دون أطماع إسرائيل في سوريا و الأراضي العربية، لقناعة إسرائيل بأن العرب لا يأتون إليها إلا مذعنين ضعفاء تحت سيف القوة، ما يزيد شراهتها الاستعمارية و تطلعها لكسب المزيد.
في هذا السياق، فإن فكرة مشروع “ممر داود” تُعد تحديًا إستراتيجيًا لسوريا و العراق و لبنان و إيران و تركيا، ما يستدعي النظر إليه باهتمام، و النظر في كيفية مواجهته، و مواجهة عبث إسرائيل في أمن المنطقة التي تعيش حالة من انعدام اليقين، بسبب رعونة إسرائيل التي ترى نفسها فوق القانون و خارج نطاق المحاسبة.
عن الرابط : https://palinfo.com/news/2025/07/22/963882/