قضايا حضارية

تأملات رحالة مسلم .. الفوائد الاجتماعية للسفر

بقلم الأستاذ ناصر بوهندي

لطالما نظرت إلى السفر، لا كمجرد ترفيه أو استكشاف جغرافي، بل كـعبادة، تدبر، و فرصة لا تقدر بثمن لتعميق الوعي الإنساني و الاجتماعي. إنها رحلة تتجاوز قطع المسافات لتلامس القلوب و العقول، و تعلي من قيم التعارف و التراحم التي يدعو إليها ديننا الحنيف. إنني، كمسلم، أرى في كل خطوة أخطوها على الأرض دعوة للتأمل في آيات الله، و في تنوع بني آدم، و كيف يمكن لهذه التجربة أن تصقلني و تزيدني قربًا من الخالق و من إخوتي في الإنسانية. في هذا المقال، سأشارككم نظرتي للـ الفوائد الاجتماعية للسفر ، و كيف تتجلى هذه الفوائد في ضوء المبادئ و القيم الإسلامية.

دعوة للتعارف

أول ما يتبادر إلى ذهني عندما أشرع في السفر الآية الكريمة: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنُم مِن ذَكَرٍ وَ أُنثَى وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (الحجرات: 13). هذه الآية ليست مجرد نداء، بل هي دستور للتعامل الإنساني، و السفر هو أحد أهم تجلياته. عندما أزور بلدًا جديدًا، لا أرى مجرد معالم سياحية، بل أرى شعوبًا و قبائل خلقها الله، لكل منها ثقافتها الفريدة، عاداتها، و تقاليدها.

أنا، كمسلم، أُدرك أن الانغماس الثقافي هو جوهر السفر، فمثلا أحرص على تجربة المأكولات المحلية، و الاستماع إلى اللغات المختلفة، و محاولة فهم طريقة تفكيرهم. في ذلك، أجد متعة في رؤية تجليات الإبداع الإنساني، و أتلمس الفروقات التي تُثري تجربتي. هذا الانفتاح يجعلني أتعامل مع الناس بـقلب مفتوح و عقل متقبل، متبعًا وصية نبينا محمد ﷺ: “أحب للمسلمين ما تحب لنفسك” (أخرجه الترمذي ( 2305 )، و ابن ماجه ( 4217 )، و أحمد ( 8095 ) باختلف يسير).

ماهي فوائد السفر ؟
من أهم الفوائد التي أجنيها من هذا التعارف هو تفكيك الصور النمطية. كم من المفاهيم المسبقة التي يحملها المرء عن شعوب أو ثقافات، و لكن عندما أحتك بهم مباشرة، أجد أن الإنسانية تجمعنا أكثر مما تفرقنا. و أكتشف أن اللطف و الكرم، و حسن الضيافة و دماثة الأخلاق هي صفات متأصلة في الفطرة البشرية، بغض النظر عن الدين أو العرق. هذا التفاعل المباشر يعزز لدي التعاطف و التسامح، و يجعلني أدرك عظمة الخالق في خلق هذا التنوع البشري البديع.

اكتشاف للذات و تنمية للمهارات

كذلك السفر من وجهة نظري، ليس مجرد متعة، بل مدرسة لتربية النفس و تنمية القدرات. عندما أغادر المحيط الذي ألفته إلى بيئة مختلفة جديدة و غريبة، أجد نفسي أمام تحديات تتطلب مني الخروج من منطقة الراحة. هذه المواقف، و إن بدت بسيطة أحيانًا، إلا أنها تُسهم في صقل شخصيتي بشكل كبير.

التواصل الفعال: كم مرة اضطررت لاستخدام الإشارات أو كلمات بسيطة لأتواصل مع من لا يفهم لغتي؟ هذه المواقف تعلمني المرونة و الذكاء في التواصل، و تجعلني أقدر نعمة اللغة و قدرتها على ربط البشر.
حل المشكلات و الاعتماد على النفس: قد تواجهني عقبات غير متوقعة على سبيل المثال: تأخير في موعد رحلة، أو ضياع حقيبة، أو حتى صعوبة في إيجاد طريق ما. في هذه اللحظات، أستشعر معنى التوكل على الله ثم الأخذ بالأسباب، فأبحث عن حلول، و أعتمد على نفسي، و هذا يعزز لدي القدرة على اتخاذ القرار و تحمل المسؤولية.
الصبر و المرونة: السفر يعلمني أن الأمور قد لا تسير دائمًا كما أخطط لها فأتعلم الصبر على التأخير، و المرونة في تغيير الخطط، و أدرك أن كل تأخير قد يحمل خيرا لا أعلمه. يقول المولى عز و جل: { وَ عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَ عَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَ هُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216).
الثقة بالنفس: في كل مرة أنجح في تجاوز تحدٍ أو أتكيف مع بيئة جديدة، تزداد ثقتي بنفسي و بقدرتي على مواجهة الحياة. هذه الثقة هي ثمرة إيماني بقضاء الله و قدره، و أنني قادر على التغلب على الصعاب بعون الله.
رحلة لتوسيع المدارك والآفاق
لعل أعمق ما أجده في السفر كمسلم هو البُعد الروحي و النفسي. بعيدًا عن صخب الحياة اليومية و ضغوطها، أجد مساحة للتأمل في نفسي و في الكون من حولي.

ما أهم 4 فوائد للسفر ؟
أوجزها في النقاط التالية :

التأمل في خلق الله: عندما أرى الجبال الشاهقة، الصحاري الممتدة، أو أقف أمام المحيطات الشاسعة، أجد نفسي تلقائيًا أسبح بحمد الله و أتفكر في عظيم خلقه. إنها دعوة لي و لكم لتدبر قول المولى عز و جل : { قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَا تُغْنِي الآيَاتُ وَ النُّذُرُ عَن قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } (يونس: 101). هذا التأمل يجدد إيماني و يزيدني قربًا من ربي.
بناء الشبكات الإنسانية: السفر يتيح لي فرصة التعرف على مسلمين و غير مسلمين من خلفيات و ثقافات متنوعة. أجد في بيوت الشباب، أو في المطارات، أو حتى في المساجد، فرصًا لبناء صداقات و علاقات عابرة للقارات. هذه العلاقات توسع من شبكة دعمي الاجتماعي، و تُظهر لي عمق الترابط الإنساني الذي يدعو إليه الإسلام. كما أنها قد تفتح أبوابًا للتعاون المستقبلي، و هذا ما نراه في التجارة و التعاون بين المسلمين عبر التاريخ.
تجديد الوعي بالمسؤولية: عندما أرى الفقر في بعض الأماكن، أو التحديات البيئية، أو حتى الاختلافات في مستوى المعيشة، يزداد عندي الوعي بالمسؤولية الملقاة على عاتقي كمسلم. إنها دعوة للتفكر في قوله ﷺ: “مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى” (متفق عليه) . هذا الوعي يحفزني على أن أكون جزءًا من الحل، و أن أسعى للخير أينما حللت، و أن أدعم القضايا الإنسانية.
أداء الشعائر: لا يمكنني أن أغفل أن السفر، لبعض المسلمين، هو أيضًا رحلة لأداء فريضة عظيمة كـالحج أو العمرة. في هذه الرحلات الروحانية، أختلط بملايين المسلمين من كل بقاع الأرض، نؤدي الشعائر نفسها، و نرتدي اللباس نفسه، و تتلاشى الفوارق. إنها تجسيد حي لقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } (الحجرات: 10). حتى في الرحلات الأخرى، أحرص على البحث عن المساجد، و أداء الصلاة في جماعة مع إخوتي المسلمين أينما كنت، و هذا يعزز شعوري بالانتماء للأمة الإسلامية.
أخلاقيات و مسؤوليات المسافر
إن نظرتي للسفر لا تكتمل دون الحديث عن المسؤولية و الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها المسافر، خاصة كمسلم. ديننا يدعو إلى الإحسان في كل شيء، و هذا يشمل تعاملنا مع البيئة و المجتمعات التي نزورها.

ماهي أخلاق السفر ؟
يجب عليّ، كمسلم، أن أكون سفيرًا لديني و قيمي أينما ذهبت. هذا يعني:

1- احترام العادات و التقاليد المحلية: حتى لو اختلفت معي، فواجبي هو الاحترام و التفهم، ما لم تتعارض مع أصول ديني.

2- الحفاظ على البيئة: عدم الإسراف، عدم التلويث، و المساهمة في الحفاظ على جمال الأماكن التي أزورها. هذا يتوافق مع مبدأ عدم الإفساد في الأرض.

3- دعم الاقتصاد المحلي: شراء المنتجات المحلية، و التعامل مع أصحاب الأعمال الصغار، يعكس مبدأ التكافل و يزيد من بركة رحلتي.

4- حسن التعامل و اللين: أن أكون مثالًا للأخلاق الحسنة في تعاملي مع الناس، و أن أقدم صورة مشرقة عن الإسلام، كما قال النبي ﷺ: “الكلمة الطيبة صدقة” (متفق عليه).

إن أي سلوك غير مسؤول قد يضر بالمجتمعات المضيفة أو يسيء إلى صورة المسلمين. لذلك، أرى أن السفر المسلم هو شهادة حية على عظمة هذا الدين في دعوته للإصلاح و البناء.

خاتمة: السفر.. عبادة تفتح الآفاق
أرى أن السفر، ليس مجرد هواية أو وسيلة للترفيه، بل باعتبارها عبادة عظيمة و رافدا أساسيا لتنمية الشخصية و الوعي الاجتماعي و الروحي. هي دعوة صريحة للتدبر في ملكوت الله، و للتعارف على شعوبه، و لصقل المهارات، و لتحمل المسؤولية تجاه أنفسنا و مجتمعاتنا و العالم. كل تجربة سفر هي فرصة للقرب من الخالق سبحانه و من خلقه.

 

Link : https://islamonline.net/%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%b1%d8%ad%d8%a7%d9%84%d8%a9-%d9%85%d8%b3%d9%84%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%88%d8%a7%d8%a6%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d8%a9/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى