
في لحظةٍ ما، قد يسير التاريخ في اتجاه، لا لأن ذلك الاتجاه كان حتميًا أو منطقيًا، بل لأن مصادفة صغيرة، هامشية في ظاهرها، قد وقعت. إن التاريخ، رغم ما يُحاط به من تحليل صارم و تفسير سببي، لا يخلو من هفوات، من انزلاقات زمنية، من نَفَس عابر أوقع ورقة في غير محلها، فاشتعل بسببها حريق التغيير.
هل سألنا أنفسنا يومًا عن مدى هشاشة مصائر الأمم أمام التفصيل؟ كيف يمكن لحذاء أن يغوص في طين يوم معركة، فيتأخر قائده، فيتغير موقع الجيوش، فتُهزم إمبراطورية و تنهض أخرى؟ كم من الأقدار الكبرى بُنيت على أساس هش، على نسيج من احتمالات لم نملكها، و لا خططنا لها، و لا توقعناها؟ إن ما نسميه “صدفة” ليس عدوا للفهم، بل هو حقيقته غير المروضة. كل شيء يبدأ من نقطة تبدو تافهة، ثم تأخذ في النمو كأنها كانت تنوي كل هذا منذ البداية.
التاريخ ليس مجرد حكاية للضرورة، بل هو أيضًا سجل للعثرات المدهشة. رجل في مقهى يلتقي بآخر، تنشأ بينهما فكرة. رجل يمرض، فيُلغى اجتماع، فتتأخر اتفاقية. رجل ينسى حقيبته، فيُكتشف جهاز داخلها يُغير مسار التكنولوجيا. لا شيء من هذا مخطط، لكن كل شيء فيه كان مؤثرًا، حاسمًا، لا يُمكن استبعاده من سيرة البشرية.
الصدفة في التاريخ ليست لحظة عبث، بل هي إمكانية للانفلات من المسار التقليدي، انفراجة في جدار الحتمية، تجدد للأسئلة. نحن نميل إلى تقليص دور الصدفة لأننا نحب النظام، نحب أن نفهم الأشياء عبر روابط سببية واضحة، تريح عقولنا. لكننا في الحقيقة نرتاح للصدفة أكثر مما نظن، لأنها تمنحنا أملًا في أن التغيير لا يحتاج إلى قوة خارقة، بل إلى لحظة تتسلل فيها اليد الخفية لتعيد ترتيب الأوراق.
كم من نظرية في العلم وُلدت من ملاحظة غير مقصودة؟ كم من كتابٍ عظيم بدأ بجملة لم تكن في حسبان كاتبها؟ كم من علاقة إنسانية تحولت إلى تيار تاريخي لأنها نشأت في يوم تأخّر فيه القطار؟ نحن نعيش في عالم تهيمن عليه الصدف، لكننا نحاول جاهدين أن نجعلها تبدو و كأنها نتائج طبيعية لاكتشافات عميقة. نحن نزين الحوادث، نُعقلنها، نضع لها مقدمات و نتائج حتى لا تبدو خاضعة للهواء.
لكن حين نتأمل العمق، ندرك أن الصدفة ليست ضعفًا في الحكاية، بل جزء من جمالها. أن تكون الحياة غير محسوبة تمامًا، هو ما يمنحها هذا الطابع الحي، هذه القدرة على الإدهاش، على المفاجأة، على كسر الرتابة. ربما يكون الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحاول أن يُخفي الصدفة خلف الكلمات، بينما هو في قرارة نفسه مدين لها بكل لحظة.
كل شيء عظيمٍ بدأ من حدثٍ صغير، من تصدع في الجدار، من شرارة بلا نية. الصدفة، بهذا المعنى، ليست انقطاعًا عن المعنى، بل بداية له. هي اللحظة التي لا نكون مستعدين لها، لكنها حين تأتي، تكشف لنا أننا كنا ننتظرها، بطريقة ما، طوال الوقت.
ربما لهذا السبب لا يكتب المنتصرون فقط التاريخ، بل تشاركهم فيه الصدف، خفية، من خلف الستار. و ربما لهذا، أيضًا، علينا أن نمنح للصدفة احترامًا يليق بدورها. فهي التي تُربك مخططات الجبابرة، و تفتح أبوابًا للعاديين كي يصنعوا مجدًا ما كانوا يحلمون به. إنها عدالة الكون الوحيدة، تلك التي لا تُدار بيد بشرية، بل تقع، ببساطة، لأنها وقعت.
في النهاية، نحن لسنا دائمًا نتيجة منطقية لقراراتنا، بل كثيرًا ما نكون أبناء لحظة، لحظة لم يخطط لها أحد، لكنها غيرت كل شيء. هذه اللحظة هي الصدفة… صدفة تاريخية.