في إحدى المدن الخفية، حيث تسكن الأرواح لا الأجساد، و تُقاس الحياة بمقدار ما يتدفق من نور في الشرايين، عاشت مدينة تُدعى “جُسمان”. كانت هذه المدينة لا تشبه أي مدينة تعرفها، إذ لم تكن تُبنى بالجدران، بل بالخلايا، و لا تُضاء بالمصابيح، بل بنبض القلب. و في قلب المدينة – بالمعنى الحرفي و المجازي – كان هناك مركزها: “القلب”، السيد العادل، الحاكم الذي لا يتكلم، لكنه يُقرر من يعيش و من يرحل.
في هذه المدينة، سرت فوضى غريبة. مشاغبون جدد غزوا الشوارع، يركضون في الأزقة، يختبئون بين الأنسجة، و يتركون خلفهم آثارًا من التعب و الخذلان. أطلق الناس عليهم: الكوليسترول، يتزعمهم ثلاثي شقي يدعى: الدهون الثلاثية.
لم تكن الدهون الثلاثية مجرد مواد، بل كائنات رمزية، تجسيد لرغبات الإنسان غير المنضبطة: شهوته للطعام، كسله عن الحركة، هروبه من ذاته نحو الوجبات السريعة و المقاعد الوثيرة. كانت الدهون الثلاثية تمثل الإفراط، ذلك الميل لأن تملأ الفراغات دون سؤال، و تغلق الطرق دون رحمة.
لكن المدينة لم تكن بلا حُماة. كان هناك شرطي طيب، يدعى HDL. كان هذا الشرطي لا يملك سلاحًا سوى سمعته الطيبة و نواياه الصافية. يمضي يومه و هو يجمع المشاغبين، يحاول إنقاذ المدينة، يدفعهم نحو السجن الفلسفي الذي يُدعى “الكبد”، حيث يتم التطهير. غير أن معركته لم تكن عادلة، فهناك شرطي آخر، LDL، فاسد في جوهره، يحرر المشاغبين، يوقع الاتفاقيات مع الدهون الثلاثية، و يعقد صفقات مع الكوليسترول.
و في هذا المسرح المظلم، بدأ القلب يئن. لم يكن صوته مسموعًا، لكنه كان يشعر بالثقل. الطُرق المؤدية إليه بدأت تُغلق، و الدم – حامل المعاني – لم يعد يصل كما ينبغي. و مع كل انسداد، كانت تُحذف فكرة، أو تُنسى ذكرى، أو يُطفأ حلم.
ظهر في المدينة رجل غريب. لم يكن طبيبًا، و لا واعظًا، بل كان أشبه بفيلسوف عجوز. كان يمشي كل صباح، لا يُمسك بهاتف، و لا يُصغي لسماعة. فقط يمشي. في كل خطوة، كان يُضيء شارعًا. يرتفع شرطي الخير (HDL)، و ينكمش الشرطي الفاسد (LDL). و كلما ازداد عدد خطواته، كلما بدأت المدينة تستعيد شكلها الأول: أقل ضجيجًا، أقل تلوثًا، أكثر حياة.
جلس مرة إلى مجموعة من كبار السن، و قال لهم:
“يا أهل جُسمان، إن الدهون الثلاثية ليست مادة، بل فكرة. هي الفوضى حين نُفرط، و هي القلق حين نُسرف، و هي الندم حين نؤجل. لا تداووها فقط بالحبة، بل بالخطوة. لا بالدواء وحده، بل بالقرار. امشوا، لا لتُحركوا أجسادكم فقط، بل لتُحركوا ماضيكم الراكد. و قللوا من تلك الأشياء التي لا تضيف للروح سوى الثقل: الملح، السكر، الطحين الأبيض…”
ثم ابتسم، و أكمل:
“تذكّروا: أن تنسى عمرك لا يعني أن تُنكر الزمن، بل أن تتحرر منه. أن تنسى ماضيك لا يعني أن تُنكر تجاربك، بل أن لا تعيش فيها. أن تنسى شكاواك، هو أن تعترف بها ثم تتجاوزها.”
و اختتم كلامه:
“في هذه المدينة، كل شيء يبدأ من القلب. لا تظنوا أنكم تعيشون لأنكم تتنفسون، بل لأن قلوبكم ما تزال تجد طريقها وسط الشرايين. فامشوا، و ابتسموا، و اشربوا الماء قبل العطش، و تذكروا: أن الدهون الثلاثية ليست عدوكم… بل مرآة كسلكم.”
غاب الرجل. لكن أثره بقي. و في إحدى الزوايا، كُتب على الجدار:
“كل خطوة تخطوها في الحياة، إمّا تفتح طريقًا للقلب، أو تُغلقه.”
و هكذا… ظلّت مدينة “جُسمان” تُصارع دهونها الثلاثية، لكن هذه المرة – بوعي جديد، و خطوات تُحسب لا بالساعات، بل بالبصيرة.
لكن مدينة “جُسمان” لم تَعد كما كانت. كان اختفاء الرجل الغريب بمثابة شرارة أيقظت في أهل المدينة شيئًا نادرًا: الشعور بالمسؤولية الفردية. لقد فهم الناس، للمرة الأولى، أن الكارثة ليست في انسداد شريان، بل في انسداد القرار، و في تأجيل الحياة إلى ما بعد المرض.
أصبح كبار السن يجتمعون كل فجر عند بوابة الحديقة، لا ليتبادلوا الشكاوى، بل ليستعرضوا عدد خطواتهم، و يتباهوا بما فعلوه ضد الدهون الثلاثية. و اعتُمد قانون جديد في جُسمان: “كل من يمشي يُعدّ طبيبًا. و كل من يجلس متفرجًا يُعدّ سببًا في الانسداد.”
و ظهرت لافتات عند كل زاوية: – لا تنتظر حتى تتعب لتستريح… اجعل الاستراحة أسلوب حياة.
– لا تنتظر حتى تمرض لتفحص… تفحّص لتبقى.
– لا تنتظر الآخرين ليبدؤوا… أنت المدينة.
في تلك المدينة، بدأت تظهر فئة جديدة من السكان، لا تُقاس أعمارهم بالتقويم، بل بخفة أرواحهم. كان من يراقبهم يدرك أن الشباب ليس في العُمر، بل في الخطوة التي تسبق الشكوى، و في الحركة التي تهزم الركود. و كان أولئك الذين يتبعون خطى الفيلسوف، يتداولون وصاياه كأسرار مقدسة:
إذا أردت أن تُطيل عمرك، قلل من طعامك، و زد من حركتك، و نقّ أفكارك.
إذا أردت أن تصنع معجزة، فلا تنتظرها… كن أنت المعجزة بصبرك و عاداتك.
إذا أردت أن تبني قلبك، فلا تبدأ من الطبيب… ابدأ من نيتك.
و من القصص التي رواها أهل جُسمان بعد رحيل الرجل، أن أحد الشبان سأل عجوزًا كان يركض كل صباح:
– “إلى متى ستركض؟”
فأجابه: – “حتى لا يسبقني الكسل إلى قبري.”
فضحك الجميع، و ركضوا خلفه.
ليس عليك أن تكون طبيبًا لتفهم دهونك، و لا أن تكون فيلسوفًا لتدرك أن جسمك مرآةٌ لروحك. كل ما عليك، هو أن تعترف بأن داخل كل واحدٍ منا… مدينة تُدعى “جُسمان”. و فيها قلب ينتظر منك قرارًا بسيطًا : أن تتحرك.
و كل خطوة تخطوها، ليست فقط نحو الصحة، بل نحو الحياة التي تستحق أن تُعاش بخفة.