
توشك حرب الإبادة في غزّة أن تدخل عامها الثالث بمرور 600 يوم عليها، و ليس كما تقول البكائيات العربية إن العالم لم يحرّك ساكناً. العالم يحرّك و يتحرّك و يتغيّر إلى الأفضل، إذا استثنيا العالم العربي، و منه “المملكة العبّاسية” برئاسة محمود عباس و نجله ياسر الذي زار لبنان أخيراً بوصفه “مستشار” والده رئيس السلطة التي تنافس إمارة موناكو بنزع السلاح. و كأن “طوفان الأقصى” لا يخصّ عاصمة الدولة الفلسطينية المحتلة، و لا أقدس مقدّسات المسلمين و المسيحيين الفلسطينيين.
لا يمكن تخيّل حجم بطولة أبناء غزّة العظام و تضحياتهم في “طوفان الأقصى”، و قد بذلوا عزيز النفوس، و الولد و الأم و الزوج و الحفيد، لا لمنصب و لا لمال، وإ نما لتحرير شعبهم و صوْن مقدساتهم، و غزّة كلها من القائد يحيى السنوار الذي استشهد و يده على الزناد إلى الطبية التي فقدت أبناءها التسعة و يدها على السمّاعة، كلهم قاوموا و ضحّوا بلا حدود. لا فرق بين قائد و جندي مدني و عسكري، بين رجل و امرأة. شهيد يدفن شهيداً. تقدّر هيئة الأمم المتحدة للمرأة مقتل أكثر من 28,000 امرأة و ما لا يقل عن 16,278 طفلاً. حوالي 80% هم من المدنيين، مع ملاحظة أن 70% من الضحايا في المباني السكنية من النساء و الأطفال. و في اليوم الذي يتوقف فيه القتل، فإن الحي لا يجد بيتاً يظلّه، إذ تفيد تحليلات الأقمار الصناعية بأن حوالي 174,500 مبنى في غزّة قد تضرّر. و تُقدّر التقارير بأن 92% من الوحدات السكنية قد دُمّرت أو تضرّرت، ما أدّى إلى نزوح جماعي للسكان. تضرّر حوالي 68% من شبكة الطرق في غزّة، ما يعيق حركة التنقل و الوصول إلى المساعدات. و أكثر من 95% من الأراضي الزراعية أصبحت غير صالحة للاستخدام، مع تدمير 71.2% من البيوت البلاستيكية و 82.8% من الآبار الزراعية. تضرّرت 94% من المستشفيات في غزّة، مع بقاء 12 مستشفى فقط قادرة على تقديم خدمات صحية محدودة، كما يواجه سكّان غزّة خطر المجاعة، حيث يعاني أكثر من تسعة آلاف طفل من سوء التغذية.
ظلّ السنوار في بداية الحرب يماطل في قبول صفقة التبادل ليصل إلى شهر رمضان، و تنتفض أمة العرب و الإسلام، مضى رمضانان و ما انتفضت، و عبّاس يصف أنبل البشر بـ “أولاد الكلب”، من دون أن يجرؤ على وصف القاتل بأنه أضلّ من الضباع و الوحوش. نقطة الضعف الكبرى عربيا هي سلطة عبّاس التي تُحبط أي محاولة لتحقيق أي مكسبٍ للقضية الفلسطينية تعادل قليلا من فائض التضحيات.
تفيد تحليلات الأقمار الصناعية بأن حوالي 174,500 مبنى في غزّة قد تضرّر. وتُقدّر التقارير بأن 92% من الوحدات السكنية قد دُمّرت أو تضرّرت
منذ اليوم الأول لـ”طوفان الأقصى”، تصرّفت “القيادة” الفلسطينية معه بوصفه تهديداً وجوديا لها. و لذلك كان صادماً لوزراء الخارجية العرب الذين التقوا وزير الخارجية الأميركي السابق، بلينكن، أول مرّة موقف أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حسين الشيخ، فقد كان الأسوأ في الاجتماع لا الأضعف، و عليه ارتقى في سلم القيادة عند عبّاس الذي يصرّ على مفهوم السلطة الإسرائيلي، باعتبارها نسخة من جيش لبنان الجنوبي. أي دولة عربية تقول لك إذا كان عبّاس يعتبر حركة حماس “أولاد كلب”، و لا يسمح بمظاهرة تتضامن مع غزّة فماذا ينتظر منا؟
على كل حال، يظلّ الوضع العربي عموماً أفضل من سلطة رام الله. و الوضع العالمي يظل أفضل، مع تفاوت بين الدول و النخب و الرأي العام الذي شهد أخيراً تحوّلات كبرى أوروبيّاً و أميركياً، و هو ليس التحرّك الأول و الأخير، شهد صدور بيانين مؤثرين من فرنسا و بريطانيا يصفان ما يجري في غزّة إبادة جماعية، و يطالبان بتحرّك فوري ضد الحكومة الإسرائيلية. و على قول وزير خارجية بلجيكا “لا أعلم ما الفظائع الأخرى التي يجب أن تحدُث في غزة قبل أن نتحدّث عن إبادة جماعية”. و قد نشرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية أول من أمس الاثنين مقالاً جماعيًا وقّعه أكثر من 300 كاتب و مثقف ناطق بالفرنسية، منهم حائزون على جائزة نوبل، جان ماري غوستاف لوكليزي، بعنوان “لم نعد نستطيع الاكتفاء بكلمة الرعب… يجب اليوم أن نسمّي ما يجري في غزّة بالإبادة الجماعية”. و تناول المقال ملامح الإبادة، و ورد فيه أن إسرائيل تقتل الفلسطينيين “بلا هوادة”، و تستهدف الحياة الثقافية و التعليمية بتدمير المكتبات و الجامعات. و جاء على استشهاد الشاعرة هبة أبو ندى و محو أماكن الكتابة و القراءة مثالاً على هذا التدمير الممنهج. و يرى أن تصريحات مسؤولين إسرائيليين (مثل سموتريتش و بن غفير) تعكس نيات إبادة صريحة. و طالب المجتمع الدولي بالتحرّك لفرض عقوبات و وقف فوري لإطلاق النار، و إطلاق سراح الرهائن. كما نشرت صحيفة الغارديان البريطانية أمس الثلاثاء رسالة موقّعة من أكثر من 800 شخصية قانونية، بينهم قضاة محكمة عليا و محكمة استئناف و محامون بارزون، دعوا فيها إلى فرض عقوبات على الحكومة الإسرائيلية و وزرائها. و تعليق اتفاقيات التجارة مع إسرائيل، و تجميد خريطة الطريق للعلاقات الثنائية، و دراسة إمكانية تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة. و أكدت الرسالة أن ما يجري في غزّة يحمل مؤشّرات واضحة على الإبادة الجماعية. و أن إسرائيل ارتكبت انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، منها استهداف مراكز الأمم المتحدة و مقارّها. و جاء في البيان أن تقاعس الدول الغربية، بما فيها بريطانيا، يهدّد النظام القانوني الدولي برمّته.
نقطة الضعف الكبرى عربيا هي سلطة عبّاس التي تُحبط أي محاولة لتحقيق أي مكسبٍ للقضية الفلسطينية
تعكس البيانان تحوّلات في الرأي العام الغربي، يشمل أميركا و أوروبا. و تفيد الاستطلاعات الحديثة بأن تغيرات ملموسة تحدُث في مواقف الشباب و الرأي العام حيال القضية الفلسطينية. بحسب استطلاع جامعة هارفارد الأسبوع الماضي، 48% من الأميركيين بين 18 و 24 عاماً يؤيدون “حماس” أكثر من إسرائيل، مقارنة بـ 77% من إجمالي الفئات العمرية التي تؤيد إسرائيل، و 93% بين من تجاوزوا 65 عاماً. بمعنى أن المستقبل لنا و الماضي لعدونا و جزءا من الحاضر في مرحلة انتقالية. و ينسجم هذا مع اتجاه عام نامٍ منذ سنوات، و تكثّف بعد “طوفان الأقصى”. و قد كشف استطلاع مركز بيو في إبريل/ نيسان الماضي، أن 53% من الأميركيين ينظرون سلباً إلى إسرائيل، بزيادة 11 نقطة منذ العام 2022، و تصل النسبة إلى 69% بين الديمقراطيين. و في إبريل 2024، أظهرت دراسة لمركز بروكنغز أن 33% من الأميركيين تحت 30 عاماً يتعاطفون مع الفلسطينيين مقابل 14% فقط مع الإسرائيليين. و لا تختلف الحال في أوروبا، في استطلاع YouGov (ديسمبر/ كانون الأول 2023): أظهرت أغلبية في خمس دول أوروبية أنها تؤيد حظر بيع الأسلحة لإسرائيل، منها 65% في إيطاليا و62% في بلجيكا. و في يوليو/ تموز الماضي ظهر في الاستطلاع نفسه أن التعاطف مع الفلسطينيين في تصاعد، مثلاً في إسبانيا بلغ 34% مقابل 14% فقط مع إسرائيل. و بيّن استطلاع في مارس/ آذار الماضي أن 49% و 62% من الأوروبيين في خمس دول يؤيدون محاكمة مسؤولين إسرائيليين بتهم جرائم حرب.
و في هذا السياق، قرأت صحيفة نيويورك تايمز تصريح الرئيس ترامب “نتحدّث مع إسرائيل، و نريد أن نرى ما إذا كان بإمكاننا إيقاف هذا الوضع بأسرع وقت ممكن”، تحوّلاً في السياسة الأميركية، في تحليلٍ نشرته أول من أمس، ما يغاير الموقف العلني الذي تبنّاه ترامب عند توليه منصبه في يناير/ كانون الثاني الماضي، عندما ألقى باللوم على “حماس” بدلاً من إسرائيل في استمرار الحرب. و كان حريصاً على إظهار جبهة موحدة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كما أن بريطانيا أوقفت محادثات التجارة مع إسرائيل، و فرضت عقوبات على مستوطنين متطرفين، و تحضّر فرنسا لمؤتمر دولي مع السعودية لمناقشة إقامة دولة فلسطينية. و قد كتب مراسل الشؤون الدبلوماسية في صحيفة يديعوت أحرونوت، إيتامار آيشنر، الأسبوع الماضي: “بعد 593 يوماً من الحرب، وصلت إسرائيل إلى أدنى نقطة دبلوماسية: بعض من أهم أصدقائها في العالم بريطانيا و فرنسا و كندا، منحوا أنفسهم حرية إصدار بيان يهدد إسرائيل بالعقوبات، إذا واصلت الحرب في غزّة”. و أضاف “لم يسبق أن صدر بيان كهذا ضد إسرائيل، ما يحولها إلى دولة منبوذة. الجزء الأكثر إثارة للقلق: الولايات المتحدة، التي دافعت دائمًا عن إسرائيل، ردّت بالصمت”، بتعبيره.
طوفان الأقصى” ليس تسونامي بفعل الطبيعة. هو طوفانٌ بسبب حرب الإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني منذ النكبة الأولى
ذلك و كله و غيره مكاسب تاريخية للقضية الفلسطينية، لكنه لا يوقف المجزرة في غزّة. لا بد من تغير في الموقف الفلسطيني و العربي، بدلا من توجّه عباس و نجله إلى لبنان لنزع سلاح المخيمات هناك، عليه أن يتوجّه إلى الدوحة لإنهاء الانقسام الفلسطيني الذي يراهن على إنهائه بقضاء إسرائيل على “حماس”، مع أن “حماس” من أحيا القضية الفلسطينية، و أعاد لها مكانتها. لقد بدأ ترامب ولايته الأولى بزيارة إسرائيل و نقل السفارة الأميركية إلى القدس، و اليوم يتحدّث عن لقائه بأمير قطر “قال لي زعيم من قلبه: الناس في غزّة يتضورون جوعاً”، و تحدّث عن ضرورة إنهاء المعاناة الإنسانية في غزة.
صحيحٌ أن المعاناة في غزّة إنسانية، لكن “طوفان الأقصى” ليس تسونامي بفعل الطبيعة. هو طوفانٌ بسبب حرب الإبادة التي تشن على الشعب الفلسطيني منذ النكبة الأولى. و ما حصل في ستمائة يوم تكثيف كشف التزوير الذي يمارسه العدو من خلال تمييع الإبادة و تحفيف تركيزها. و لا يعني مصطلح “الإبادة الجماعية” (Genocide) الذي صاغه المحامي البولندي رافائيل ليمكين عام 1944 بالضرورة التدمير الفوري و المباشر لأمة، بل يشير إلى خطة منسقة من أفعال مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الجوهرية لحياة الجماعات القومية، بهدف إبادة الجماعات نفسها. و بحسب المفكر العربي عزمي بشارة فإن أركان جريمة الإبادة الجماعية كما وردت في “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”، متوافرة في غزّة و التي تشمل:
قتل أعضاء من الجماعة. و إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة. و إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كليّاً أو جزئيّاً. و فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. و نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى. و أكد بشارة أن هذه الأفعال تُرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه. و قال (في محاضرة قبل أكثر من عام) إن ما يحدث في غزّة ينطبق تماماً على تعريف الإبادة الجماعية، مستشهداً بتصريحات علنية لمسؤولين إسرائيليين، تدعو إلى القضاء على الوجود الفلسطيني في القطاع، و بممارسات مثل القصف العشوائي للأحياء السكنية، و تدمير البنية التحتية، و فرض الحصار و التجويع، و كلها تهدف إلى تدمير الأسس الجوهرية لحياة الفلسطينيين في غزّة، مشدّداً أن النية عنصر أساسي في تعريف الإبادة الجماعية، و في الحالة الإسرائيلية، هناك أدلة واضحة على وجود نية مبيّتة لتدمير الجماعة الفلسطينية، سواء من التصريحات الرسمية أو من السياسات و الممارسات الميدانية.
يظلّ الوضع العربي عموماً أفضل من سلطة رام الله. والوضع العالمي يظل أفضل، مع تفاوت بين الدول والنخب والرأي العام الذي شهد تحولات كبرى
تكشفت هذه النية بوضوح خلال العامين بقدر ما بقيت متستّرة، و خصوصا خلال العقود الثلاثة الماضية، عقب توقيع اتفاق أوسلو. أول ما أخذه الطوفان السردية الصهيونية “أعطينا الفلسطينيين حقوقهم و لم يتبق غير التطبيع”. سردية نتنياهو اليوم أن ليس لهم حقوق، ليسوا بشراً، سنبيدهم في حرب أبدية، و لا يهمّنا التوقيع و لا التطبيع، و لا العزلة و لا المقاطعة. و تصلح هذه السردية للائتلاف الحاكم، لكنها لم تعد تقنع حتى ترامب، ناهيك عن الأجيال الأميركية و الغربية الجديدة. صحيحٌ أن ترامب محاط بصهاينة متطرفين، و لا يشاهد غير “فوكس نيوز”، لكنه قارئ ممتاز لاستطلاعات الرأي، و لا يفكّر بغير الانتخابات. و هو ما دفعه إلى تغيير مواقفه قياسا بولايته الأولى.
لا يمكن تحمّل ألم مشاهدة أصحاب الأخدود في غزة فكيف بألم ضحايا الإبادة أنفسهم؟ هل يتأثر ترامب بصورة الطفلة الهاربة من الحريق؟ هل يتألم مثل البشر؟ المأمول ذلك، لكن لا يعوّل عليه من دون تغيّر في الموقف العربي و خصوصا الفلسطيني، عندما يفكر عبّاس بأولاد غزة، و لا يعتبر المقاومة “أولاد كلب”. عندما يتغيّر الموقف الفلسطيني يتغيّر حكماً الموقف العربي إلى الأفضل.
الرابط : https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A3%D9%81%D8%B6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D8%A3%D8%B3%D9%88%D8%A3