
“لقد كانت قبرص ذراعاً لكم و كسرناها، أما أسطولنا في ليبانتو فلم يكُن سوى لحية لنا حلقتموها، و اللحية تنمو أسرع بعد الحلاقة”. بهذه الكلمات الشديدة ردّ الصدر الأعظم العثماني محمد باشا صقللي على سفير البندقية، بعد هزيمة العثمانيين في معركة ليبانتو. فما هي هذه المعركة التي اعتبرت مفصليّةً في تاريخ أوروبا وعلاقتها مع الدولة العثمانية ؟
أصبح لدى العثمانيين أسطول بحري قوي، هو الأهم و الأكثر رهبةً في دول حوض البحر المتوسط كاملةً. و في عهد السلطان العثماني الشهير سليمان القانوني استطاعت البحرية العثمانية تكبيد أوروبا العديد من الخسائر في معركتين مهمتين شهيرتين: الأولى هي معركة بروزة عام 1538م، الذي أثار النصر فيها الهلع في أوروبا، و أظهرت قوة البحرية العثمانية في البحر المتوسط.
خصوصاً أنّ هذه المعركة الهائلة قامت بعدما دعا لها بابا الفاتيكان في روما، فكوّن من دعوته حملة صليبية قوية و ضخمة مكونة من حوالي 600 قطعة بحرية من إسبانيا و النمسا و البندقية، مع أحد أهم قادة البحرية في ذلك الزمن: الجنرال الجنوي أندريا دوريا.
أمّا المعركة الثانية فكانت معركة جربة عام 1560م، بعد معركة بروزة بـ22 عاماً، التي قام فيها تحالف مسيحي أوروبي مكوّن من جنوى و نابولي و صقلية و فلورنسا و الولايات البابوية و فرسان مالطة، و منيت القوات الأوروبية بهزيمةٍ سريعة و خاطفة من قبل الأسطول العثمانيّ الذي أصبح أسطولاً لا يُقهر، و لم تتجاوز المعركة خمس ساعات و كانت نصف البحرية الأوروبية مدمّرة.
كان الوجود العثماني في البحر المتوسط خانقاً لكلّ ممالك أوروبا، الواقعة بدورها في صراعاتٍ سياسيةٍ و مذهبيةٍ ضخمة. و مع تنصيب السلطان سليم الثاني -ابن السلطان القانوني- في عام 1566، هدَّدت المخططات العثمانية في شمال إفريقيا و المعاقل المسيحية الأخرى مثل مالطا و قبرص بتحويل حوض البحر الأبيض المتوسط بأكمله إلى ميناءٍ بحري عثمانيٍّ واسع. وفق ما ذكره جيري بروتون لموقع BBC History Extra البريطاني، و هو أستاذ دراسات عصر النهضة بجامعة كوين ماري بلندن.
و عندما أعلن العثمانيون في صيف عام 1570 الحرب على جمهورية البندقية وغَزَو جزيرة قبرص المهمة للتجارة في البحر المتوسط، وافق البابا بيوس الخامس و فيليب الثاني ملك إسبانيا و البندقية على تنحية خلافاتهم و توحيد القوى العسكرية في شكل “عصبةٍ مقدسة”.
جمعوا معاً و على عجلٍ أسطولاً مسيحياً ضخماً يضمّ أكثر من 200 سفينة و 40 ألف بحّار و 20 ألف جندي، بقيادة الأخ غير الشقيق لفيليب الثاني دون خوان النمساوي. و في صيف عام 1571، أبحر الأسطول لرفع الحصار عن قبرص، و عندما علم دون خوان بسقوط مدينة فاماغوستا في الجزيرة توجه إلى ليبانتو في اليونان، حيث كان يرسو الأسطول العثماني المؤلف من 300 سفينة.
كانت معركة ليبانتو أحد أكبر و أضخم الصدامات البحرية في التاريخ ما قبل الحديث، و ربما أحد أضخم المعارك البحرية في التاريخ، حيث وضعت القوات البحرية العثمانية في مواجهةٍ مفتوحة ضد سفن العصبة المسيحية المقدسة في خليج باتراس قبالة غرب اليونان.
كان الصدام، الذي شمل ما يقدَّر بنحو 500 سفينة و 100 ألف مقاتل من الجانبين، أكبر معركة من نوعها منذ العصور القديمة، و آخر صراعٍ بحريٍّ كبير تهيمن عليه سفن التجديف المسلحة.
المعركة!
بالعودة إلى الوراء قليلاً، فقد سقط ميناء نافباكتوس اليوناني و المعروف باسم “ليبانتو” في عام 1499م في أيدي العثمانيين. و من تلك النقطة سيطروا فعلياً على شرق البحر المتوسط، و هي جزءٌ من استراتيجيةٍ جيوسياسيةٍ أكبر ذهبت بهم إلى السيطرة على معظم المنطقة بالإضافة إلى شمال إفريقيا، بما في ذلك: مصر عام 1517، و الجزائر عام 1529، و طرابلس في ليبيا عام 1551.
أصبحت ليبانتو منذ ذلك الحين جزءاً من الإمبراطورية العثمانية متعددة اللغات والأعراق والطوائف. تمّ تجنيد البحارة اليونانيين المحليين والملاحين والجنود من سلاح الفرسان العثماني مقابل إعفاءاتٍ ضريبية.
وفي أوائل عام 1571، أبلغ الجواسيس العثمانيون في البوسنة السلطان سليم الثاني أنه يجري تجميع أسطول مسيحي كبير لكسر الحصار العثماني على مدينة فاماغوستا في مدينة قبرص.
بمرسومٍ سلطانيّ أمر سليم الثاني أسطوله بالإبحار من إسطنبول، في أبريل/نيسان 1571، و عيّن برتو باشا و مؤذن زاده علي باشا قائدين للأسطول، و ربما كان هذا التعيين مقلقاً بعض الشيء، إذ إنهما كانا قائدين بريين، و خبرتهما في الحروب البحرية ضئيلة بعض الشيء.
قدّم المؤرخون العثمانيون تقديراتٍ متباينة لحجم الأسطول العثماني، الذي يتراوح ما بين 170 إلى 300 سفينة، مدعومين بـ35 ألفاً من المجدّفين، و كثير من هؤلاء المجدفين كانوا أسرى حرب مسيحيين، كما حمل الأسطول أكثر من 40 ألف بحار و جندي. أمّا الأسطول المسيحي فكان حوالي 300 سفينة، بعضها حديثة، تتفوق في إمكاناتها على السفن العثمانية، و أكثر من 30 ألف جندي بحري.
كان الأسطول العثماني رابضاً في ميناء ليبانتو عندما ظهرت طلائع البحرية المسيحية الأوروبيّة، و هنا حصل جدالٌ كبير داخل المعسكر العثماني، بعدما وصلتهم تفاصيل الأسطول من قبل جواسيسهم، فكان النقاش يدور حول كيفية سير المعركة مع هذا الأسطول الأوروبي الضخم.
كان رأي أغلب القادة البحريين عدم المواجهة المباشرة في البحر -خصوصاً مع زيادة العتاد و التسليح الأوروبي عن العتاد و التسليح العثماني- لإتاحة الفرصة للمدفعيّة العثمانية لاستنزاف الأسطول الأوروبي عبر قذائفها الهائلة، و كذلك لضيق خليج باتراس المطل عليه الميناء، و الذي يعيق حركة السفن العثمانية في المناورة، لكن كان لبرتو باشا و مؤذن زاده علي باشا رأيٌ آخر يخالف خبرة القادة البحريين.
فقد صاح برتو باشا في وجه القادة قائلاً: “أيّ كلبٍ كافر يجعلني أخاف الخروج لمواجهته؟ أين غيرة الإسلام؟ أين شرف السلطان؟”، و بهذه الصرخة أجبر جميع القادة على الإذعان لخطته بالخروج للهجوم على الأسطول في الخليج الضيّق!
كان في الجيش العثماني قادة بحريّون كبار، من ضمنهم أولوج علي باشا حاكم الجزائر في ذلك الوقت. و عندما أدرك القادة البحريون قرار برتو باشا، طلب أولوج علي باشا منه أن يخرجوا للمواجهة في عرض البحر الواسع و ليس في الخليج، لكنّه رفض ذلك أيضاً.
وف ي ظهر يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، خرج الأسطول العثماني للهجوم. و عندما تلاقت أولى السفن العثمانية مع السفن المسيحية كانت الغلبة لقوة النيران الأوروبيّة الفائقة. و وصفت الروايات العثمانية كيف “واجه الرجال وابلاً من الرصاص” و كيف “كان الأسطول النبيل محاطاً بدخانٍ كثيفٍ غطّى السماء” كما كانت السفن العثمانية بالطبع مقيّدة بالخليج فلا تستطيع الحركة و المناورة.
بعد ساعاتٍ من القتال الدامي، أصيب مؤذن زاده علي باشا برصاصةٍ و سقط قتيلاً. قُطعت رأسه، و يشاع أنّ ذلك حدث على يد جندي إسباني، كما مثّل الأوروبيون بجثّته أمام القوات العثمانية. كانت تلك الهزيمة هزيمة مروّعة بالنسبة للعثمانيين، و من بين قيادتهم العليا تمكّن فقط أولوج علي باشا قائد ميسرة الأسطول و حاكم الجزائر من النجاة بأسطوله بعدما دمّر أسطول مالطا تماماً.
فقد العثمانيون على حسب بعض التقديرات حوالي 200 من سفنهم، إلى جانب 15 ألف جندي و بحّار. بالنسبة للمسيحيين و المؤرخين الغربيِّين كانت هزيمة العثمانيين أول انتصار كبير على البحرية العثمانية المسيطرة على البحر المتوسط، التي بدا أنها لا تُقهر، من تاريخها المليء بالانتصارات في البحر. كما كانت الهزيمة بدايةً لتراجع النفوذ الإسلامي في البحر الأبيض المتوسط.
آثار معركة ليبانتو
كانت أخبار النصر قد انتشرت بسرعة في جميع أنحاء أوروبا. و احتفلت المهرجانات و الجماهير الكنسيّة و المنشورات و اللوحات و القصائد بهذا النصر. و مع ذلك، فقد خرجت تقارير مسيحية حالمة و مبالغة حينها عن زوال العثمانيين بعد هزيمتهم في ليبانتو، و تفكّكت “العصبة المقدسة” المسيحية بسرعة بعد المعركة، و لم يذهب العثمانيون لأيّ مكانٍ آخر.
عندما تناقش سفير البندقية مع الصدر الأعظم صقللي محمد باشا عن معركة ليبانتو، كان ردُّه صارماً و قاطعاً، جاء بصيغٍ مختلفة، لكنّها نفس المعنى و التشبيهات: “لم تتلاشَ شجاعتنا بعد معركة ليبانتو؛ هناك تباين بين خسائركم و خسائرنا. لقد استولينا على قطعةً من أراضيكم [قبرص]، و هذا يعني أننا قطعنا لكم ذراعاً. لقد هزمتم أسطولنا، و هذا لا يعني أكثر من مجرد حلق لحيتنا، و لا يمكن استبدال الذراع المفقودة، و لكن اللحية الحليقة تنمو أكثر سمكاً”.
بالطبع كانت الهزيمة في ليبانتو نكسةً عسكرية للعثمانيين، و اعتبرها بعض المؤرخين بدايةً لتراجع النفوذ العثماني في البحر المتوسّط، لكن لم تمرّ سنتان حتّى كانت أحواض بناء السفن التركية قد أعادت بناء الأسطول في صيف عام 1573. و قد أعطى السلطان محمد صقللي باشا دعماً كبيراً لإعادة بناء الأسطول، فقد استخدمت حديقة قصر السلطان نفسه لبناء 8 سفن ضخمة.
كان أولوج علي باشا قد عاد لإسطنبول بكامل أسطوله، فعيِّن قائداً عاماً للبحرية العثمانية، و بعد ثمانية أشهر فقط على معركة ليبانتو عاد دون جوان بالأسطول الأوروبي المسيحي للإغارة على شرق البحر المتوسّط في إقليم المورة باليونان، لكنّه فوجئ بالأسطول العثماني الجديد بقيادة أولوج علي باشا، فانسحب دون جوان سريعاً، محافظاً على هذا النصر الكبير الذي أحرزه في ليبانتو دون تشويه.
و في الصيف اللاحق لبناء الأسطول استعاد الأسطول العثماني تونس، التي استولى عليها دون جوان عام 1573. كما أغار أيضاً على بعض سواحل إيطاليا. و في مارس/آذار 1573، وقّعت جمهورية البندقية مع الدولة العثمانية اتفاق سلام ينهي الحرب بينهما، تعترف فيه البندقية بالسيطرة العثمانية على قبرص، و تسدد البندقية للدولة العثمانية 300 ألف دوكا غرامة، كما اعترفت بسيادة العثمانيين على بعض السواحل و الأراضي التي كانت واقعة تحت سيادة البندقية.
توفي البابا بيوس في مايو/أيار 1572، ثم وقّعت جمهورية البندقية معاهدة السلام التي ذكرناها، و انسحب دون جوان من أمام أولوج علي باشا، ليكتب التاريخ الأوروبي انتصاراً ضخماً على العثمانيين، لكنّ هذا الانتصار أسهم مرةً أخرى في نموّ “اللحية العثمانية” و فوزها بالعديد من الأراضي و الأموال التي أسهمت في بناء الأسطول العثماني المخيف من جديد!