(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
Print this page
Tuesday, 19 March 2024 10:05

الحياة .. في صمت جميل

Written by  الدكتورة هبة رؤوف عزت
Rate this item
(0 votes)
لن تعرف أهمية الكلام في التعبير و التواصل بل في الشعور بذاتك ككيان متكلم إلا حين يفرض عليك الصمت، فما بالك لو كان الكلام مهنتك و حرفتك.
أصابتني نزلة برد قوية لم تمنعني من التدريس الذي هو هواية و مهنة و مسئولية في آن واحد، ثم تطور الأمر نتيجة الجهد إلى التهاب في الحنجرة ثم الأحبال الصوتية.
لم أذهب للطبيب إلا حين شعرت أنني أواجه أزمات من السعال لا تسمح لي بالنوم ليلاً، و تم تشخيص الحالة باعتبارها التهابا في الحلق و جيوبا أنفية، لكن طبيب الأمراض الصدرية طمأنني أن الصدر سليم و لا توجد به مشكلة. بعد أسبوع من المعاناة و عدم التحسن حدد لي موعد مع طبيب أنف و أذن قال إنه بارع جدًّا و مشهود له.
ممنوع الكلام
فتح الطبيب فمي و حاول أن ينظر إلى باطني و فشل مرة لشدة السعال، ثم نجح نصف نجاح في الثانية في أن يرى جزءاً من الحنجرة، اختبر الأذن و الأنف ثم قام و جلس على مكتبه و نظر إليّ و كتب قائمة من الأدوية، ثم ختم تذكرة العلاج بثلاثة جمل مكررة: راحة الصوت-راحة الصوت-راحة الصوت.
تململت و أخبرته أنني أعمل بالتدريس. قال في حسم: التهاب في الأحبال الصوتية.. ممنوع التدريس أسبوعا.. و أراك بعد أسبوعين. إذا لم تلتزمي سيسوء الوضع و قد نحتاج جراحة!
نزلت من العيادة و أنا أفكر.. كيف يمكن أن ألغي محاضراتي.. هذه مسألة معقدة، تستلزم تعويض الطلاب بما يعني البحث عن موعد ملائم لهم و مكان متاح، و هو أمر صعب للغاية في ظل ندرة الأماكن في كلية هي من أصغر كليات جامعة القاهرة حيزاً.
طلبت من زميلة تحمل بعض المحاضرات، لكن انقطاعي عن الطلاب يسبب لي أنا ألماً شديداً، فأنا أحب طلابي بشكل إنساني و أفتقدهم حين يغيبون أو أغيب. كان الحل ببساطة هو تأكيد معنى أن العملية التعليمية شراكة بين الطالب و المعلم، و أن الجامعة ليست مدرسة ابتدائية، بل مكان للبحث و التفكير و النقاش.
أعطيت الطلاب في محاضرة أسئلة ليفكروا فيها في مجموعات ثم تعرض كل مجموعة أفكارها، و في محاضرة أخرى قرأنا سوياً نصًّا عن الحرب و العنف و استعادة التمدن، و تحمل الطلاب الكلام و اكتفيت بإدارة النقاش، و في محاضرة ثالثة استضفت خبيرا في موضوع المحاضرة ليتحدث و ناقشوه مناقشة رصينة وخرج معجباً بعقليتهم و وعيهم.
أدركت أن كلام الأستاذ يكون بالخصم من فرصة الطالب في الحديث، و حين تكلموا رأيتهم يتفتحون كالورود.
على صعيد الجبهة الداخلية توقفتُ مرغمة عن الصياح في البيت، ساد هدوء نسبي و قل التوتر، و استعنت بجرس صغير أشبه بالذي يعلقه الأوروبيون في رقبة الماشية في المراعي الطبيعية كان والدي يرحمه الله قد أحضره كتذكار سياحي من سويسرا، وضعته بجواري حتى أستخدمه إذا أردت أن أنبه الأولاد لشيء لعجزي عن النداء.
تكلم الأولاد أكثر، مع بعضهم البعض و معي، و أصبح لديهم مساحة أوسع للتعبير.. و الاحتجاج بالطبع، استمتعوا بواقع أن ماما لن تستطيع أن ترد أو تصرخ و استغلوا ذلك أسوأ استغلال ممكن. لا بأس.. قليل من الحرية لا يضر.
عبقرية الصمت
أفادني الصمت حين توجّب علي أن أذهب لتقديم واجب العزاء في زوجة أحد الأصدقاء التي توفيت في ريعان الشباب بعد صراع مع مرض السرطان، و تركت له طفلين صغيرين. تدثرت بالصمت؛ لأنني لم أكن لأجد كلمات أواسيه بها على أي حال، فأتاح ذلك له أن يتكلم هو عنها، عن صبرها و صراعها مع المرض، عن تسليمها و رضاها بالقدر، و عن محبتها له و لأبنائها و تحاملها على نفسها لتسعد من حولها في أيامها الأخيرة، و رحيلها في هدوء و سلام.
الصمت الإجباري أراحني من استخدام المحمول الذي تسلمته ابنتي لتعتذر لمن يطلب أن 
“ماما ممنوعة من الكلام بأمر الطبيب”. نصف المكالمات يمكن تأجيله و الربع يمكن تجاهله و الربع الباقي تم حله بالرسائل التي قضت الأمر و وفرت الوقت.
في الشارع كان عليّ أن أستخدم لغة الإشارة، و هي مسألة صعبة في ثقافة تحب الكلام و التعاطي بالألفاظ، و أدركت كم نتكلم إلى أن يتآكل الفعل.
ما آلمني هو أنني في عيد الأم لم أتمكن من تهنئة من أدين لهن بالفضل، و لم أستطع أن أهنئ بالمولد النبوي كل الأصدقاء، و ها أنا أكتب: “كل عام و أنتم بخير و سعادة."
لكن الكلام قد تغني عنه لفتات، أبلغ من الكلام، أحد الأصدقاء الأوفياء أرسل لي باقة ورد بمناسبة عيد الأم تقريباً في حجمي.. و جاري المسيحي الذي يدير الصيدلية التي تقع أسفل العقار أرسل لي باقة من الورد بمناسبة المولد و عيد الأم متمنياً الصحة، و ابنة أخي التي تشبهني أكثر من بناتي أهدتني باقة ورد أسعدتني فقد تصادقنا مؤخراً بعد أن دخلت الجامعة، و أكبر هدية كانت قبلة من أمي و هي تدعو لي بالشفاء.
هناك لمسات و لفتات أبلغ من الكلام. و حين استيقظت اليوم أدركت أن بيتي قد تحول لحديقة ورد كبيرة هي الأجمل؛ لأنها روضة مشاعر ثرية و غنية.
بدأت أهمس اليوم، و أتمنى أن يعود لي صوتي قريباً.. لكن أعتقد أنني من الآن فصاعداً سأتكلم أقل و أسمع أكثر و أتأمل أفضل.
Read 146 times Last modified on Wednesday, 20 March 2024 09:27