الحمد لله، و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه ومن اتبع هداه و بعد:
فإنّ مما يعاني منه كثير من الناس ظهور الميوعة و آثار التّرف في شخصيات أولادهم، و لمعرفة حلّ هذه المشكلة لابد من الإجابة على السّؤال التالي: كيف ننمي عوامل الرّجولة في شخصيات أطفالنا؟
إن موضوع هذا السؤال هو من المشكلات التّربوية الكبيرة في هذا العصر، و هناك عدّة حلول إسلامية و عوامل شرعية لتنمية الرّجولة في شخصية الطّفل، و من ذلك ما يلي:
الـتـكـنـيـة
مناداة الصغير بأبي فلان أو الصغيرة بأمّ فلان ينمّي الإحساس بالمسئولية، و يُشعر الطّفل بأنّه أكبر من سنّه فيزداد نضجه، و يرتقي بشعوره عن مستوى الطفولة المعتاد، و يحسّ بمشابهته للكبار، و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يكنّي الصّغار؛
فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: { كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَ كَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ –
قَالَ: أَحسبُهُ فَطِيمًا – وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟! } (طائر صغير كان يلعب به) [رواه البخاري: 5735].
و عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قالت: { أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ ( الخميصة ثوب من حرير ) فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ. فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ ( و فيه إشارة إلى صغر سنّها ) فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَ قَالَ: أَبْلِي وَ أَخْلِقِي، وَ كَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ
فَقَالَ: يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاه، وَ سَنَاه بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ } [رواه البخاري: 5375].
و في رواية للبخاري أيضاً: { فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَ يَقُولُ: يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، وَ السَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ } [رواه البخاري: 5397].
أخذه للمجامع العامة و إجلاسه مع الكبار
و هذا مما يلقّح فهمه و يزيد في عقله، و يحمله على محاكاة الكبار، و يرفعه عن الاستغراق في اللهو و اللعب، و كذا كان الصحابة يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي صلى الله عليه و سلم و من القصص في ذلك: ما جاء عن مُعَاوِيَةَ بن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: { كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَ فِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.. الحديث } [رواه النسائي و صححه الألباني في أحكام الجنائز].
تحديثهم عن بطولات السابقين و اللاحقين والمعارك الإسلامية و انتصارات المسلمين
لتعظم الشجاعة في نفوسهم، و هي من أهم صفات الرجولة، و كان للزبير بن العوام رضي الله عنه طفلان أشهد أحدهما بعضَ المعارك، و كان الآخر يلعب بآثار الجروح القديمة في كتف أبيه كما جاءت الرواية عن عروة بن الزبير { أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ: أَلا تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَبْتُمْ.
فَقَالُوا: لا نَفْعَلُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ ( أي على الروم ) حَتَّى شَقَّ صُفُوفَهُمْ فَجَاوَزَهُمْ وَ مَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلاً فَأَخَذُوا ( أي الروم ) بِلِجَامِهِ ( أي لجام الفرس ) فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْر، قَالَ عُرْوَةُ: كُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَ أَنَا صَغِيرٌ.
قَالَ عُرْوَةُ: وَ كَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَ هُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَ وَكَّلَ بِهِ رَجُلاً } [رواه البخاري: 3678].
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: و كأن الزبير آنس من ولده عبد الله شجاعة و فروسية فأركبه الفرس و خشي عليه أن يهجم بتلك الفرس على ما لا يطيقه، فجعل معه رجلاً ليأمن عليه من كيد العدو إذا اشتغل هو عنه بالقتال.
تعليمه الأدب مع الكبار
و من جملة ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: { يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكبِيرِ، و المارُّ على القاعِدِ، و القليلُ على الكثِيرِ } [رواه البخاري: 5736].
إعطاء الصغير قدره و قيمته في المجالس
و مما يوضّح ذلك الحديث التالي: عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: { أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و سلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَ عَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَ الأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ
فَقَالَ: يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ } [رواه البخاري: 2180].
تعليمهم الرياضات الرجولية
كالرماية و السباحة و ركوب الخيل و جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: { كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ } [رواه الإمام أحمد في أول مسند عمر بن الخطاب].
تجنيبه أسباب الميوعة و التخنث
فيمنعه وليّه من رقص كرقص النساء، و تمايل كتمايلهن، و مشطة كمشطتهن، و يمنعه من لبس الحرير و الذّهب.
و قال مالك رحمه الله. "وَ أَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْغِلْمَانُ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ لأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم نَهَى عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، فَأَنَا أَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ الْكَبِيرِ مِنْهُمْ وَ الصَّغِيرِ" [موطأ مالك].
تجنب إهانته خاصة أمام الآخرين
عدم احتقار أفكاره و تشجيعه على المشاركة
إعطاؤه قدره و إشعاره بأهميته
و ذلك يكون بأمور مثل:
(1) إلقاء السّلام عليه، و قد جاء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ } [رواه مسلم: 4031].
(2) استشارته و أخذ رأيه.
(3) توليته مسئوليات تناسب سنّه و قدراته.
(4) استكتامه الأسرار.
و يصلح مثالاً لهذا و الذي قبله حديث أَنَسٍ قَالَ: { أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم وَ أَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي،
فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ.
قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم أَحَدًا } [رواه مسلم: 4533].
و في رواية عن أَنَسٍ قال: { انْتَهَى إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم وَ أَنَا غُلامٌ فِي الْغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَرْسَلَنِي بِرِسَالَةٍ وَ قَعَدَ فِي ظِلِّ جِدَار-
أَوْ قَالَ إِلَى جِدَار - حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهِ } [رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في السلام على الصبيان].
و عن ابْن عَبَّاسٍ قال: { كُنْتُ غُلامًا أَسْعَى مَعَ الْغِلْمَانِ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم خَلْفِي مُقْبِلاً فَقُلْتُ: مَا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم إِلا إِلَيَّ،
قَالَ: فَسَعَيْتُ حَتَّى أَخْتَبِئَ وَرَاءَ بَابِ دَار، قَالَ: فَلَمْ أَشْعُرْ حَتَّى تَنَاوَلَنِي فَأَخَذَ بِقَفَايَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً
( ضربه بكفّه ضربة ملاطفة و مداعبة ) فَقَالَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ.
قَالَ: وَ كَانَ كَاتِبَهُ فَسَعَيْتُ فَأَتَيْتُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْتُ: أَجِبْ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ } [رواه الإمام أحمد في مسند بني هاشم].
و هناك وسائل أخرى لتنمية الرجولة لدى الأطفال منها:
(1) تعليمه الجرأة في مواضعها و يدخل في ذلك تدريبه على الخطابة.
(2) الاهتمام بالحشمة في ملابسه و تجنيبه الميوعة في الأزياء و قصّات الشّعر و الحركات و المشي، و تجنيبه لبس الحرير الذي هو من طبائع النساء.
(3) إبعاده عن التّرف و حياة الدّعة و الكسل و الرّاحة و البطالة، و قد قال عمر: اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم.
(4) تجنيبه مجالس اللهو و الباطل و الغناء و الموسيقى؛ فإنها منافية للرّجولة و مناقضة لصفة الجِدّ.
هذه طائفة من الوسائل و السّبل التي تزيد الرّجولة و تنميها في نفوس الأطفال، و الله الموفّق للصواب.
و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم
المصدر: http://www.rouyah.com