قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

Thursday, 08 August 2024 09:23

الجمال والإنسان في مرآة الحضارة

Written by  الأستاذ جواد عامر
Rate this item
(0 votes)

 طور الإنسان ألوانًا من التقنية الحديثة، و أبدع واخترع أشكالًا لا حدود لها من الأدوات عبَّرت عن عبقريته المتفتقة التي ولدتها الحاجة إلى تسهيل ظروف الحياة، فتدفقت المستحدثات واحدًا تِلْوَ الآخر لتسلك الحضارة طريقها نحو التطور الذي لم يسبق إليه في التاريخ الإنساني، فبنى البروج و الصروح المنيفة، و شاد القناطر و الجسور في أبدع الصور و أحدث التقنيات الهندسية، و طوَّر التقنية الحربية و الرقمية، و غزا الفضاء، فبلغ أسمى المدارج و أعلى المنازل؛ لكن ذلك كان على حساب إنسانية الإنسان، فاستعمل الأدوات الجديدة بهمجية الوحوش و عقول الأطفال؛ كما قال الفيلسوف الإنجليزي "جود"، ذلك أن فكر السيطرة و منطق الأنا ظل راسخًا في الفكر الإنساني، فلم تصقله الحضارة التي من عادتها أن ترقق الطبع و تنقله من غلظته و جفوته فتجعله أكثر انفتاحًا و اقترابًا من الآخر؛ حيث يصير الاختلاف عرضًا في مقابل الجوهر الإنساني؛ لذا فالملاحظ أن الحضارة الإنسانية اليوم زادت من قساوة الإنسان و جفاء طبعه، و جعلت منه كائنًا لا يؤمن إلا بالمادة، و لا شيء غير المادة، أما القيم فهي شيء بمنأى عنه؛ لذا فإنسان القرن العشرين و هو يعيش أسوأ ظروف التاريخ المشحونة بحروب مدمرة و أخرى باردة وسط صراع القوى و ممارسة الغزو الإمبريالي و سحق الشعوب الضعيفة و نهب ثرواتها وجد نفسه في كنف الرأسمالية المتوحشة الساحقة للطبقات الفقيرة، رأسمالية لا تعرف إلا المصالح المادية لا شأن لها بالإنسان من حيث هو كينونة و جوهر لتجرفه في سيولها الآتية، و تأخذه معها في تياراتها، و هكذا صار الإنسان الحديث يلهث هو الآخر وراء المادة، تتحلَّب أرياقه لاهثة في سعي دؤوب؛ مما جعل حركة الحياة أسرع مما كانت عليه في زمن الأجداد، إنها المادة ساحرة آسرة أخذت معها الألباب، و جعلت الكل يلهث وراءها، فبريق الذهب فتَّان، و ملمس الأوراق النقدية مَرْمَريٌّ ناعم، فظل الجمال بعيدًا عن مناحي الإدراك شيئًا مستبعدًا من التفكير الإنساني مثلما حصل مع القيم الإنسانية الجميلة، فالبنايات و الدور المتطاولة حجبت العيون عن رؤية جمال السماء و زرقتها و سحبها، متى تغزلها الرياح فتسوقها قطعًا متلاحقة في أديمها، و منعتها أن تنظر شروق الشمس الذي طال عهدها به حتى إنها لم تعد تعرف عن وجود هذا المشهد في الطبيعة، و لا أن تبصر غروبها و هي تلطخ قبة السماء بحمرة قانية لتسمح لليل بارتداء عباءته الدامسة، فلا تمني نفسًا برؤية نجم يلتمع، و لا إبصار قمر أو هلال يسنو نوره جمالًا في صفحة سماء تتلألأ بمصابيح جعلها الله زينةً للرائي، فالكُلُّ متعب منهك أعياه اللهث و الجري وراء القوت، لا يرى من ضوء سوى ما يشعُّ من مصابيح في أعمدة الكهرباء المنتشرة على الأرصفة أو أضواء السيارات و العربات و النوافذ هنا و هناك، فلا يلبث أن يأخذ منه التعب كل مأخذ فيأوي إلى فراشه، و قد أكل سريعًا لقيمات لم يستشعر حتى مذاقتها ليخلد إلى نوم عميق ربما قد يُجافيه فيسهد جفنه لطول تفكير في مشكل حَلَّ به في سعيه، فيغالب النوم مُتقلِّبًا ذات اليمين و ذات اليسار إلى أن تأخذه سِنة فيستفيق من نومة مضطربة منهكًا أكثر مما كان عليه حاله أمس، فيهبّ في عجل من جديد للخروج جريًا و سعيًا، و هكذا يظل حاله لا يجد للحياة طَعْمًا حلوًا و لا نكهة عذبة، في حين أن غيره في الريف يستيقظ قبيل الفجر فيصلي ركعات يذكر الله تعالى مطمئن القلب، ري الخاطر، يتناهى إلى سمعه صياح الديكة هنا و هناك، يتناول فطوره في هدأة و هو يسمع تغريدة العصافير فوق الأشجار فرحًا بجمال الصباح، تداعبه نسائمه العليلة فيرسل الطرف بعيدًا يتأمل مشرق الشمس و هي تطلع من عليائها لتصافح الوجود الناعس، و ينظر جمال الحقول المترامية حيث الغمير أخضر يانع و قد تزيَّن بورد و أزاهير مختلفة ألوانها، فشتان بين رجل أودعته الطبيعة أسرارها و منحته إكسيرها من سواقيها و مروجها و سمائها و أغصانها و أطيارها، و رجل حرمته الطبيعة متعة النظر إليها، فهو منها بعيد، و من سلطانها محروم، سلبته المدنية ذلك النزوع الفطري الجميل الذي يسكن بداخل كل إنسان غير أنه يحتاج إلى صقل و تهذيب كي يصفو في صفاء الطبيعة، و يعذب في عذوبتها، لكن المدنية الزائفة جعلت هذه فطرة راقدة في موضعها، قلما تتحرَّك من مكانها بحثًا عن الجمال؛ لذا حينما تستشعر النفس الحنين إلى الجمال، فإنها تهب من دواخلها بحثًا عنه في مواضعه التي هيَّأها الله له و وضعها فيه، فتجدها كالمنعتق من قيود تتأمَّل السماء كما لو أنها لم تتأملها مرة في حياتها، ترى الشمسَ ساطعةً مفترَّة الثغر ترسل أسلاكها الذهبية فتصافح القادم الجديد معلنةً عن صلح بينها وبين الإنسان الذي أثخنته جراح المدنية، و تفترش الأعشاب المندَّاة، و تتوسَّد الأزهار في المروج اليانعة، و ترسل الطرف ترقب موج البحر و زرقته المترامية مفترشةً رماله الذهبية، و تستمتع بخرير النهر و رقرقة السواقي العازفة لسمفونيتها الماتعة، و تُشنِّف المسامع بشقشقة الأطيار و طنين النحل يلثم الأزهار.

لقد أفقدت الحضارة بفتنتها و بهرجتها الزائفة إحساس الجمال الذي جعل من الإنسان عبر التاريخ كائنًا يستشعر لذة الوجود مما كان يدفعه إلى التعبير عن وجوده بطقوس جمالية و فنية، فكانت رهافة الحس سمة واسمة للإنسان قبل تمَدُّنه يستشعر مناحي الجمال في كل شيء، فأبدع الشعر و الخطب و اللوحة و غيرها من أصناف الجمال، و كان من لا يملك المقدرة على الإبداع ذوَّاقًا للفن، يدري مواضع تحَقُّقه، و يُدرِك المناحي التي تجعل منه مسفًّا إذا أسف فيه صاحبه، و يدري المواضع التي تهبه الجمال حين يبدع صانعه، و مع أن الحضارة رققت الطباع لدى شعوب عديدة، فدخلت إليها الموسيقى بالآلات الطربية كفارس و الهند اللتين أفادتا البلاد العربية من هذه الناحية مما أسهم في ظهور ألوان فنية جديدة قائمة الذات كشعر الغزل العفيف و الشعر الغنائي الذي كان يصنع في شكل مُخمسات و مُسمَّطات و مُربَّعات لأجل الدندنة و الغناء، فإن هذا الأمر لم يحصل مع حضارة اليوم لسبب بسيط؛ هو اختلاف سياقات التاريخ، فنحن صرنا نعيش حياة الهيمنة التي تقوم على مبدأ البقاء للأصلح، انتصرت فيها القوى المتحضرة، و ظَلَّت الدول الضعيفة تسير وراءها بخُطًى متعثرة، تكبو في كل مرة على وجهها، ثم تُعاود النهوض ثانيةً في حين ذلك الغرب بعيد عنها، يكاد يدرك الأفق و هي تلهث وراءه متعبة القوى؛ مما جعل الإنسان كله في العالم و قد أنشبت فيه الرأسمالية أظفارها المتوحشة تنهش عظامه و لحمه، فكان مضطرًّا إلى السير وفق أنساقها إنسانًا مجردًا من كينونته و من فطريته التي يتعالى داخلها صوت القيم النبيلة و حب الجمال.

لقد خلق الله تعالى الكون و حباه بالجمال، فجعل الكواكب و النجوم زينة فيه، و أنبت في الأرض من كل زوج بهيج، و جعل في الأرض حدائق ذات بهجة و زخرف الأرض، و جعلها تأخذ سندسها في الربيع، فتميَّزت الأوقات على طول السنة، و جعل الله فيها الاختلاف سنةً كونيةً من أجل الإنسان، فلو شاء الله لجعل الفصل واحدًا؛ لكنه تعالى بحكمته جعل للخريف برغم ذبوله رونقًا فريدًا فيه تتندَّى الأرض فتشتم من ثراها ريحًا طيبًا، و منح الأوراق في الشجر شحوبًا فترتسم لوحة جميلة في صفحة الطبيعة كلما نثرتها الرياح في كافة الأرجاء لتستعد الأفنان لشتاء قادم تعلن فيه الطبيعة عن تصوير مشهد آخر يعلوه البياض و يكنفه الزمهرير، تكتسي فيه ذرى الجبال و أماليد الشجر بدثار أبيض ناصع يأسر العقول، فلا تلبث الأجساد من جمال المنظر أن تنسى لسع سياط البرد القارس، و يأتي الربيع، آه للربيع! فصل البهاء و النقاء و الجمال الآسر، فصل يكاد أن يتكلم من حسنه ضاحكًا مفترَّ المبسم، يرسم بأنامله لوحات فاتنة من شتى الألوان، تسمع فيه الزقزقات و الرقرقات و الخرير و الطنين و الحفيف، في مهرجان بديع تعزف فيه الطبيعة سمفونيتها الخالدة، ثم يأتي صيف الأحلام و يرسم في الحقول مشهد السنابل الهائجة متمايلة مع النسمات المداعبة، كلما هبَّت من عباءة القيظ الأفح، لتراقص السنبلات الصفراء الفاقعة.

هكذا هي اللوحات ترسمها بداعة أنامل الطبيعة في كل فصل من فصول الحياة، و هذا الإنسان الذي يدعي أنه بلغ من التقنية و من الحضارة شَأْوًا عظيمًا يظل عنها في منأى لا يدرك أسرارها الجميلة، و لا يعرف كنهها في عناصرها المتنوعة، فلو أنه أدرك منها النزر اليسير لحدا كما كان أجداده يحدون، و أخلد نفسه لسكينة في محفل الطبيعة الجميل، فيحرك بذلك سكنات فطرته النائمة، و يخرجها من عقالها الذي طالما رسفت في قيودها حتى ينسى مآتم الحضارة الزائفة التي أنهكت الإنسان و أتت على أحاسيسه، فحولتها إلى جفاء و قسوة لم يعد معهما- إلا قليل ممن أرهف حسهم - يستشعر ذلك النزوع الإنساني نزوع الرقة و اللين و الرحمة لغلظ الطباع التي أسهمت فيها المدنية الزائفة في تركيبها في الإنسان المعاصر، فلم يعد منظر المتشرِّد طفلًا أو رجلًا يجرُّ أسماله ممزقة متعفنة يأكل من قمامات رماها الناس أو امرأة عجوز تتسوَّل منهكة نحيفة شاحبة الملامح، تثير في النفس شيئًا من نزوع الإنسان، و لا منظر معوز يفترش الورق المقوَّى لنام عليه الليل في برد الشتاء، و لا مشهد طفل أدمته رصاصة، أو رضيع لم يجد ما يرضع من لبن بعد أن جفَّ ضرع أمِّه، أو يتيم فقد أبويه، فقلب الدهر له ظهر المجن، لم يعد هذا الإنسان يلتفت إلى مثل هذه المشاهد التي غدت مرتسمة في عقله، مألوفة في تمثله، لا تحرك فيه قيد أنملة من شعور بالانتماء للإنسانية، إنها المدنية جبارة عتية استطاعت أن تقتل الأحاسيس الإنسانية، و تطمس وجودها بعدما سلبت الإنسان حب الجمال و تذوُّقه و الإحساس به، فصار كالمجنون يجري و يجري لا يكاد يلوي على شيء كل همِّه أن يكسب المال و يحصل الثروة، و لو كان ذلك على حساب القيم النبيلة، و لو كان ذلك على حسابك أيها الإنسان.

إن الإنسان المعاصر مُلْزَم اليوم بإعادة قراءة معنى الحضارة قراءة واعية تُعيده إلى بهائها في التاريخ و صفائها حينما كانت وسيلة لرقي الإنسان و ليس سبيلًا إلى نفي إنسانيته، فالارتباط بالجمال طريق إلى صفاء النفس و تهذيبها و تقويمها، حتى يعود النقاء إلى نفسه فلا يضغط نفسه بإيقاعات الحضارة المتسارعة، و يدرك أن في الكون ما هو أسمى ليحقق به الإنسان وجوده في هذه الحياة، شيء لا يقوم على المادة وحدها، و إنما هناك فكر و قيم و شيء أكبر منهما اسمه الإنسان، فإذا تحقَّقَت هذه النظرة للحضارة باعتباره صانعها كيفما كان موقعه داخل المجتمعات فلا بُدَّ أن لمسته في بناء الحضارة كائنة سواء انتبهنا إليها أم لم ننتبه، ما دام أنه كيان موجود كجوهر مفكر، و من هنا يستطيع الإنسان عبر هذا النزوع الإنساني الجميل أن يحفظ للحضارة رونقها الجميل و صورتها الأنيقة باعتبارها مُنْجزًا إنسانيًّا فتقته العبقرية، و أفرزه الذكاء البشري عبر حقب التاريخ، و سيكون الإنسان على موعد مع إعادة الفكر الفلسفي الحداثي الذي أعاد الاعتبار للإنسان ككائن و جوهر بعدما افتقدها في مراحل تاريخية سابقة إلى نصابه من جديد ليظل الإنسان هو الكُنْه و الجوهر الذي عليه قوام الكون كله.

الرابط : https://www.alukah.net/culture/0/170823/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B1%D8%A2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9/

Read 521 times

Add comment


Security code
Refresh

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab