قبل سنوات قليلة عرضَت عليَّ فتاة مبتدئة في الكتابة نصًّا أدبيًّا لها؛ لأعطيها ملاحظاتي و أصحِّح ما يُمكن تصحيحه، و أكَّدت عليَّ ألا أبالغ في المدح أو المجاملة، فقرأت النصَّ مرتين، و وجدتُ فيه خمسة أخطاء نحوية، و الفكرة جيِّدة فيها بُعد نظر و إبداع، و الأسلوب متوسِّط، لكن وجدت روحها حاضرة بقوة، لا تكلُّف و لا اصطناع؛ بل شعرتُ بدقّات قلبها بين الكلمات، وجدتني صراحة أمام مشروع كاتبة فذَّة سيكون لها شأن في مستقبل الأيام، إذا هي اجتهدت و صقلت موهبتها بكثرة القراءة و الاطلاع، و حفظ ما يمكن حفظه من روائع الشعر و النثر، فأخبرتها بملاحظاتي و أثنيتُ عليها ثناء جعلها تتحمَّس و تُبالغ في شكري، معبِّرة عن امتنانها لصدقي و عدم مجامَلتي لها، ثم مرَّت الأيام و تعاقبت الليالي، و نسيتُ مِن أمرها كل شيء، و لم يعد لها وجود في الذاكرة، حتى إذا كان الخميس الفائت، وصلتْني رسالة مطولة منها: تُخبرني فيها أنها قد نشرت أول كتاب لها، و قد لاقى استحسانًا لا بأس به من طرف القراء و المتابعين، ثم استرسلت قائلةً: و لا أُخفيك سرًّا أنك كنت بكلماتك المحفِّزة لي السببَ الرئيس في ما أنا عليه الآن، و لن أنسى ما حييت نصيحتَك، و تحريضك على قراءة الكتب التي تَصقل موهبتي و تدفعني إلى الأفضل و الأكمل.
قد يتساءل بعض الإخوة: و ما قيمة هذا الكلام كله هنا؟ فأجيب: هذا الكلام قيمته أن تأخذ بيد المبتدئين في أي مجال كان، و لا تكن سببًا في خذلانهم، و إطفاء تلك الجذوة المشتعلة في قرائحهم، فرب كلمة منك ترفعهم إلى السماء، و كلمة تنزل بهم إلى الحضيض، لا تبالغ في المدح، و لا تسرف في الذم و أعطِ لكلِّ ذي حق حقه، و تغاضَ عن هفوات من جاءك قاصدًا يريد نوالك و نصائحك بعدما سمع أنك من أهل هذا الشأن، و إني أُخبر عن حالي:
كنتُ في بداية طلبي للعلم أقرأ على شيخ من شيوخ مدينتي ألفيةَ ابن مالك في النحو، و كان قد ألَّف كتابين، فقلت له: يا شيخ كم أرجو أن أصل إلى مستواك في الكتابة! فقال لي: يا ربيع، أنت لك همَّة و عزيمة، و ستكون في المستقبل أفضل مني بكثير، هكذا و الله، و لا أذكر كلمة نفعني الله بها كما نفعني بهذه الكلمة، رغم كثرة كلمات الثناء التي سمعتها من أساتذتي.
و تحضرني قصة لطيفة في هذا المقام ذكَرَها الدكتور سلمان العودة في كتابه "زنزانة" (ص: 155، 156) يقول فيها:
أول يوم تُستأنف الدراسة جاملتْهم و نظرت إليهم، و قالت: إني أحبُّكم، كانت تستثني تلميذًا واحدًا أمامها لا يلعب، متسخًا، يَحتاج الحمام، غير مبهج، كانت تجد متعة في تصحيح أوراقِه بقلم أحمر عريض و تضع علامةx، ثم تكتب راسب.
راجعت ملفاته ففوجئت:
في السنة الأولى: ذكي - مرح - مهتم بدراسته - دمث الأخلاق.
في الثانية: نجيب و محبوب، و لكن منزعج و قلق بسبب مرض والدته.
في الثالثة: كانت وفاة أمه صعبة عليه، والده غير مُهتمٍّ.
في الرابعة: منطوٍ على نفسه، و لا رغبة لديه في الدراسة، و ليس لديه أصدقاء، ينام أثناء الدرس!
كان هناك حفل في الفصل، أحضر لها هدية ملفوفة في كيس نايلون، بينما جميع الطلاب أحضروا هداياهم مغلفة، فتحت الهدية، ضحك الطلاب، عقْد مؤلَّف مِن ماسات مزيفة ناقصة الأحجار، و قارورة عطر فيها ربعها، كفَّ الطلاب عن الضحك عندما عبَّرت المدرسة عن إعجابها بالعقد و لبستْه، و وضعت قطرات من العطر على يدها.
في آخر اليوم قال لها: رائحتك اليوم تُشبه رائحة أمي!
انفجرت باكية لمدة ساعة.
بدأت تهتمُّ به، عقله يستعيد نشاطه، يستجيب أسرع، مِن أكثر الطلاب تميزًا، منحته الحب.
أرسل لها مذكرة: أنت أفضل معلِّمة قابلتها في حياتي.
بعد سنوات أرسل لها: أكملتُ الثانوية بتفوق.
بعد أربع سنوات أرسل لها: تخرَّجتُ في البكالوريس بدرجة الشرف الأولى.
بعدها أرسل لها: رسالة شكر كان اسمه طويلًا بعض الشيء (دكتور).
و ذكر لها بأنه سيتزوج و دعاها إلى الزواج، و جلست مكان أمه و كانت ترتدي العقد الذي أهداه لها.
قال: أشكركِ أن جعلتِ منِّي تلميذًا مميزًا.
قالت: أشكركَ أن جعلتَ مني معلِّمة مميَّزة.
هو الآن طبيب شهير لديه جناح لعلاج السرطان في مستشفى بولاية (ايوا) بالولايات المتحدة الأمريكية.
الرابط: http://www.alukah.net/social/0/101315