قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

Wednesday, 03 February 2016 07:04

كيف قبلت الأمة الصحيحين؟

Written by  الأستاذ عبد الله بن محمد السحيم
Rate this item
(0 votes)

بسم الله الرحمن الرحيم

كيف قبلت الأمة الصحيحين؟

مناقشةٌ علميَّةٌ لبعض الشكوك حول الصحيحين

 

الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه أما بعد:

لا إخالك إلا اطَّلعت على النَّقْع[1] الذي أثير في وجه (الصحيحين) هذه الأيام؛ و ربما اقتحم تفكيرَك هاجسٌ يهز قناعتك، أو لعل قلبك أشرب شيئًا من هذه الأقاويل، و طفقت تجادل في عدم الوثوقية بهذين الكتابين، و كل حصيلتك لا تقوم على سبيل صحيح في التلقي، أو أداةٍ صالحة للنقد، و تجعل دينك عرضة للمشككين في وسائل التواصل، و لم تسعَ جهدك في نقد النقد، و تحصيل معرفةٍ صحيحةٍ عن تدوين السنة و مكانة الصحيحين !

و لعلِّي أجيب عن سؤال قفز إلى ذهنك، و يلح بضرورة الإجابة عنه: لماذا قبلت الأمة الصحيحين؟ وكيف حصل هذا؟

سؤالٌ يتجاوز إشكالية «تدوين السنة، و حفظ الوحي بنوعيه: الكتاب و السنة»، و هي مسألة طويلة الذيل، عظيمة النيل، متسعة الأرجاء، و فيها تصانيف كثيرة؛ ما بين قديمة و حديثة، و يكفي أن تعلم مبدئيًا: أن تدوين السنة وكتابتها بدأ منذ عهد النبي صلى الله عليه و سلم على أيدي صحابته رضي الله عنهم ؤ حتى قال المبارك فوري [ت: 1353هـ]: «ظن بعض الجهلة في هذا الزمان أن الأحاديث النبوية لم تكن مكتوبة في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا في عهد الصحابة رضي الله عنهم، و إنما كتبت و جمعت في عهد التابعين، و ظَنُّ بعضِ الجهلةِ هذا فاسد مبني على عدم وقوفه على حقيقة الحال»[2]، و على ذلك توافرت الشواهد المحسوسة التي ذكرها غير واحد من الباحثين[3].

و ليس موضوعنا تدوين السنة؛ بل الإجابة على جزئية محددة منه، صيغت في السؤال الآنف الذكر؛ و إذا أردت أن تجيب عنه: فارجع البصر و كرر النظر في حيثيات ذلك، حتى يتجلى لك الأمر.

فهل تقبَّلت الأمة (الصحيحين) لأنها تجل مؤلفيهما و تقدسهما؟ و منحتهما حصانة خاصة عن النقد لم تحصل لسائر المؤلفين؟

يظهر لك الجواب إذا علمت أن للبخاري و مسلم مؤلفات أخرى لم تحظ بذات الشيوع و الانتشار و الوثوقية، فلماذا الصحيحين إذن؟

و أيضًا: كَتَبَ جَمْعٌ من العلماء [كابن خزيمة و تلميذه ابن حبان و غيرهما] كتبًا سموها (الصحيح)؛ و لم تحظ بذات المنزلة! فلماذا الصحيحين إذن؟

سيأتيك الجواب تباعًا -بإذن الله- في هذه الأسطر[4]؛ جوابٌ قائمٌ على الحجة و البرهان، لتعلم -حين تعلم- على بيِّنة ذات سلطان، و لتستبين لك الضحالة العلمية لأولئك الخائضين فيما لا يعلمون، لتتأكد لك الجملة الشهيرة الذائعة: «من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب»[5]، و نادى على نفسه بالجهل المركب الفاضح، و الأمر كما قال الشافعي رحمه الله: «فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، و قد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة منه إن شاء الله»[6]، و إنما الرِّهان على البرهان؛ فدونكه:

 شرع الإمامان (البخاري [ت: 256هـ] و مسلم [ت: 261هـ] رحمهما الله) في تصنيف كتابيهما (الجامع الصحيح) على مرحلتين:

المرحلة الأولى: الرحلة في طلب الحديث، و جَمْعِ المصادر الحديثية و تحصيل المراجع العلمية، سواء كان كتابة أم مشافهة، حتى جمع الإمام البخاري رحمه الله أكثر من ست مئة ألف حديث [أكثر من نصف مليون حديث]، ثم بدأ ينتخب منها ما كان على شرط الصحة، و مكث ستة عشر عامًا يفحص المرويات و ينقدها و يميزها، و يودعها في كتابه الصحيح، حتى أتم كتابه و أكمله[7]، و مكث مسلم خمسة عشر عامًا يصنع ذلك أيضًا[8].

و المرحلة الثانية: مرحلة التحكيم و المناقشة لهذا العمل، ألست ترى أن العالَمَ كله اليوم يعمد إلى أعمال الباحثين في الدراسات العليا فيناقشه اثنان –في الأعم الأغلب- من أصحاب التخصص، ثم يجاز عمله، و يكون معتبرًا مقبولًا في الدراسات العلمية؟

و يكتب الباحث بحثًا يعرض على اثنين أيضًا في التخصص، فإن أجازاه اعتبر في الفن، و سمي: (بحثًا محكَّمًا)؟

و يجتمع نفر من الباحثين في بهو فندق أو قاعة اجتماعات فيعقدون مؤتمرًا، و يخرجون منه بتوصيات، بناء على ما أدلوا به من المناقشات، و يضرب لها الطبل بعد ذلك!

ألست ترى أن هذا صنيع يُجْمِعُ الباحثون المعاصرون على كونه أداة تحكيم تقبل معها النتائج –في الجملة- و تعدُّ علميَّة موثوقة؟

و لو تعرَّض عامي لرسالة دكتوراه معتبرة في علم من العلوم -لِجَهْلِهِ بهذا العلم- لعد ثلبًا في عقله و معرفته[9]، لعلك توافقني؛ أليس كذلك؟

فهكذا الشأن هنا، بذل الإمامان البخاري و مسلم غاية جهدهما في جمع الصحيح و انتقائه، ثم عرضاه على من يرتضيان من أئمة الدنيا و حفاظها، فأجازوا الكتابين و رضوا بهما.

و تفصيل ذلك: أنهما رحمهما الله حين فرغا من كتابة الصحيح، عرضاه على علماء الحديث في عصرهما:

 فالبخاري عرض صحيحه على يحيى بن معين [ت: 233هـ] و علي بن المديني [ت: 234هـ] و الإمام أحمد بن حنبل [ت: 241هـ] و غيرهم، فأقروه و شهدوا له بالصحة؛ قال العقيلي: «فاستحسنوه و شهدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث، و القول فيها قول البخاري»[10]، و حين سئل ابن المديني عن والده، و هل هو ثقة؟ قال: «هذا هو الدِّين؛ أبي: ضعيف»، فهل ترى أنه يجامل صاحبه البخاري؟!

 و مسلم عرض صحيحه على أبي زرعة الرازي [ت: 264هـ]، و محمد من وارة [ت: 270هـ]، و غيرهما من أئمة الحديث، فأقروا له بهذا العمل، و شهدوا له بالصحة.

من هنا: نشأ إجماع الأمة على قبول أحاديث الصحيحين، و اعتبارها مؤلفات رصينة محكَّمة، مقبولة بالاتفاق.

و من طرائف حكاية الإجماع في ذلك: ما أسنده ابن الصلاح [ت: 643هـ] عن الفقيه الأصولي النظَّار أبي المعالي الجويني [ت: 478هـ] أنه قال: «لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري و مسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه و سلم = لما ألزمته الطلاق و لا حنثته؛لإجماع علماء المسلمين على صحتهما»[11]، فتأمل كيف أن أبا المعالي الجويني جعل أعراض المسلمين مأمونة مع هذا اليمين و الحلف! و كذلك نقل ابن الصلاح في مقدمته الشهيرة في علم المصطلح[12] مثل هذا الإجماع تمامًا عن أبي نصر السجزي [ت: 444هـ].

و نقل الإجماع أيضًا: أبو إسحاق الإسفراييني، و الإمام النووي، و ابن الصلاح، و شيخ الإسلام ابن تيمية، و الذهبي، وابن حجر، و خلائق لا تكاد تحصى من أهل العلم، و ليس هؤلاء -هؤلاء بالذات- من الإِمَّعَات الذين يقلدون أشياخهم، و ليسوا أغرارًا يُخدعون كما تعلم!

و يبيُّن ابن تيمية رحمه الله أن البخاري و مسلمًا لم يتفردا بهذا التصحيح، بل كانا يواصلان منهجًا لاحبًا[13] مستنيرًا عند علماء الحديث، إذ يقول: «التصحيحُ لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري و مسلمًا، بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحًا متلقى بالقبول»[14].

و كون الشيخين (البخاري و مسلم) لم يعرضا كتابهما للناس إلا بعد النقد و التفحص و التمحيص؛ دال على أن النقد في التراث الإسلامي و العلوم الشرعية متزامن النشأة مع التأليف؛ و ليس فيه تسليم بالخطأ المحض دون تفكر أو تيقظ؛ كما يقول العلامة الدكتور الطناحي: «ينبغي أن يكون واضحًا: أن علومنا كلها و معارفنا كلها منقودة من داخلها، و مدلول على الخطأ و الوهم فيها منذ اللحظة الأولى لتدوين العلوم و المعارف، فالنقد عندنا سارٍ مع التأليف خطوة خطوة، وهذا المنهج المعروف عند علماء الحديث من القبول و الرد، و التعديل و التجريح= قد امتد أثره إلى سائر العلوم الأخرى، وإن باب النقد في تراثنا و علومنا باب واسع جدًا، و ضخم جدًا، و ينبغي أن يكون واضحًا أيضًا أن هذه الأمة لم تغفل عن تراثها هذه الآماد الطوال حتى يجيء فلاسفة هذا الزمان لينقدوا و يجرحوا و يخطِّئوا...»[15].

 و هنا يعرض لنا سؤال آخر: هل انتهت فترة التحكيم و المناقشة لهذين الكتابين؟ و هل توقفت عند هذا الحد؟

من طالع علوم الحديث، و عناية علماءه بالنقد و التثبت، يجزم قطعًا بعدم توقف التحكيم؛ بل هذين الكتابين من الكتب القليلة التي تُقرأ في مجاميع العلماء من جلدة الغلاف إلى الجلدة الأخرى في كل جيل؛ نعم في كل جيل، ولم يتعرض لها أحد من العلماء بالتجريح المطلق.

و هذا دالٌّ: على أن الأمة ترحب بالمراجعة و النقد؛ لكن وفق الأصول و القواعد العلمية، و أدوات النقد المعتبرة، لا وفق الهوى و التشهي، أو مجازفات من لا يعلم ! و أنت خبير أن العقلاء «اتفقوا على الرجوع في كل فنٍّ إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فنٍّ غير فنه= فهو متعنٍّ»[16] بلا طائل.

و ثمة مناقشات أدلى بها بعض العلماء في مناقشة عدد من الأحاديث في الصحيحين؛ كأبي الفضل بن عمار الشهيد، و أبو علي الغساني الجياني، و الدار قطني، و غيرهم من الأئمة الجهابذة النقاد، و مناقشتهم لبعض أحاديث الصحيحين دالٌّ على قبولهم لما لم يتعرضوا له، فيكون الإجماع فيما سكتوا عنه منعقد لا محالة، و ما تكلموا فيه فداخل تحت ثلاثة تنابيه:

أولها: في عدد الأحاديث المنتقدة، إذ عدد أحاديث صحيح البخاري (7563)، و عدد أحاديث صحيح مسلم قريب من هذا أيضًا، و تقدم أن الأحاديث المنتقدة على البخاري أربعة أحاديث فقط! و جمع ابن تيمية[17] الأحاديث المنتقدة -حتى نهاية القرن السابع تقريبًا- على الصحيحين فأوصلها إلىعشرين حديث فقط، وهذا في الأحاديث المنتقدة؛ بغض النظر عن الصواب: هل كان في كفة البخاري ومسلم أو في كفة المنتقد!

خذ الآلة الحاسبة: واستخرج النسبة المئوية للعشرين من السبعة آلاف، لتحكم على مسيرة عملهما بدقة خلال أربعة قرون!

مع أن قسطًا من هذه الأحاديث المنتقدة إنما هو في روايات غير معتمدة ولا معتبرة من الصحيحين، فتجد أن الحافظ ابن عمَّار الشهيد قد انتقد عددًا من الأحاديث في صحيح مسلم، ومجموعة منها ليست في الرواية المعتمدة عند الأئمة لصحيح مسلم، ولذا لا تجدها في «تحفة الأشراف»، ولا «جامع الأصول»، ولا غيرها من كتب التخريج[18]، وقضية «الفروق بين روايات الكتب» قضية مغفول عنها مع أهميتها البالغة.

وربما انتقدوا شيئًا لا اعتراض على صاحبي الصحيح في إخراجه، وهذا باب من العلم عريض[19].

ثانيها: أن جُل اعتراضاتهم: كانت في (الصنعة الحديثية المحضة)، إذ تَنْصَبُّ على الجوانب الإسنادية التخصصية، في الخلاف بين الوصل والإرسال، والرفع والوقف، وسماعات الرواة وأحكام العنعنة[20]، وغير ذلك من مباحث الحديث؛ وليست في (نقد المتن) بناء على التشهي كما نرى هذه الأيام؛ وإن شئت أن تعرف ما أقول: فاقرأ في تواليف هؤلاء وغيرهم، ولعلك لن تفهم منها شيئًا ! ورحم الله المزِّي إذ يقول: «لو سكت من لا يدري لاستراح وأراح، وقلَّ الخطأ، وكثر الصواب»[21].

وقد نبتت نابتة حادثةٌ لا تنطلق من علمٍ ولا تبني على أثر تتطاول على متون الصحيحين، وتقدح فيها، وتسمي ذلك «نقد المتن»، وتستدل بنقد الأئمة لبعض ما في الصحيحين!

وقف متأمِّلًا معي: هل يحق لك أن تنتقي من (المتون) ما شئت لتنتقدها متعللًا بانتقاد بعض العلماء (للصنعة الإسنادية) ؟ فالدليل يخالف المدلول حينئذٍ، وأطمئنك أنك قادر على محاكاتهم؛ إذا أفرغت وسعك في علم الحديث، وأمعنت النظر فيه، كما يقول ابن القيم رحمه الله مبينًا حدود الملكة الحديثية في نقد المتون: «يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة؛ بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه»[22].

وإن أقوامًا من أهل الحديث صرفوا جميع أعمارهم لهذا الشأن؛ فصارت النظرة الواحدة كافية في علم الحديث، فقد «قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي عن أسامة بن زيد الليثي؟ فقال: نظرة في حديثه يتبين لك اضطراب حديثه»[23].

ووجه آخر: أن جزءًا من صنيع الدارقطني وأضرابه في نقد بعض أحاديث الصحيحين؛ لأنها خالفت شرط الشيخين، وهو اختيار أعلى درجات صحة الإسناد، وبأن بعض أسانيد الحديث الذي ينقده أصح في نظره من الإسناد الذي ساقه البخاري أو مسلم، لا أن التعقب دائر بين الصحة والضعف، وهذا مما استدركه الشيخ أحمد شاكر في تعقباته على صنيعة المستشرقين الملغومة: (دائرة المعارف الإسلامية)، ومن برهان ذلك: أنك تجد عند الدارقطني أحاديث يذكرها في كتاب «التتبع»، ويذكر عللها، وينتقدها على الشيخين، في حين أنه يصحح الطريق الذي أخرجه الشيخان في كتاب «العلل»[24]، فهل فهمت هذا المأخذ الدقيق؟

ثالثها: أن هذين الكتابين؛ جمع فيهما الشيخان الأحاديث الصحيحة، وذكرا أحاديث ذات علل خفية بقصد إعلالها، لا يدركها إلا المتأمل لها، العارف بطريقتهما، كما قال ابن تيمية رحمه الله متحدثًا عن البخاري: «لا يكاد يروي لفظًا فيه انتقاد، إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد، فما في كتابه لفظ منتقد، إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد»[25]، وأشار مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه[26] إلى أنه يورد أخبارًا معللة في صحيحه، ليبين أنها منتقدة؛ فمن العلماء من انتقد أحاديث لم يسقها الشيخان مساق الاحتجاج، فتخرج خارج محل النزاع، وبهذا يتقلص العدد المنتقَد ويقِل، وأسوق إليك تحريرًا في هذا الشأن قلَّ نظيره؛ حيث يقول الشيخ إبراهيم اللاحم: «فإن بعض ما انتقد عليهما: لا عتب عليهما في إخراجه، إذ غرضهما تعليله فيما يظهر، وقد ذكر أبو الفضل بن عمار الشهيد عدة أحاديث في كتابه "علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج" فيها علل في متونها، ويظهر جدًا من سوق مسلم لأسانيدها ومتونها أن غرضه كان بيان ما فيها من علل، وكذلك الحال بالنسبة للدارقطني مع مسلم»[27].

وأنت أيها الكريم: هل تستطيع أن تتعرف الفرق بين الأصول والشواهد، وبين ما ساقه الشيخان للاحتجاج وما ذكراه للاستشهاد أو للإعلال؟

فإذا كنت لا تستطيع التفريق ولا المعرفة، فبأي حق تتطاول على مؤلف لم تدرك منهجه؟ ولم تحاكمه إلى شرطه؟ ومن أي أبواب العدل العلمي والإنصاف هذا الذي تتجشم؟

فإذا عرض لك حديث في الصحيحين؛ ولم يستسغه عقلك، فلِمَ تبادر في اتهام عقول علماء أربعة عشر قرنًا؟ أو ترى أنه غير متوافق مع فطرتك؛ فهل يعني أن علماء هذه القرون المتطاولة -قرنًا بعد قرنٍ- كانوا فاسدي الفطرة ؟ ألا يقفز إلى ذهنك تساؤل: ألا يمكن أن أكون فهمت الحديث خطأ؟ حفظًا للأمانة العلمية ومراعاة لأصول البحث والنظر ! كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إذا حُدِّثْتُم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا، فظنوا به الذي هو أهياه، وأهداه، وأتقاه»[28]، وهذا لازم الإيمان والشهادة يا هذا!

فإذا لم تُسبَق بانتقاد هذا المتن الذي بين يديك؛ فاتَّئِد! لأن الأمانة العلمية تقتضي ذلك، وليس نقد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم (ملطشة) لكل أحد.

ولعلك تقول: لم يعتن المحدثون بنقد المتن، وإنما اكتفوا بنقد الأسانيد؛ وأنا سائلك سؤالًا واحدًا: التفت إلى حصيلتك العلميّة في القراءة في كتب العلل ونقد الأحاديث، هل هي كافية في الحكم على جهود المحدثين؟

وبالله عليك: متى آخر مرة جَرَدت فيها أحد مطولات الحديث وعلومه!

وكونك تجهل شيئًا لا يعني عدمه ! أليس كذلك؟

ويناقش الشيخ أحمد شاكر رحمه الله [ت: 1377هـ] هذه الفكرة بقوله: «أهم شيء في تعليل الرواية عند المحدثين: هو البحث في علل المتون وأخطاء الرواة فيها، وهو الأساس الذي بنى عليه الأئمة الحفاظ نقدهم الأحاديث، يعرف ذلك كل من مارس هذه الفنون الجليلة: علوم الحديث»[29]، وإنكار هذا ومخالفته: من مصائب المستشرقين وجنايتهم على السنة، وهي شبهة باهتة، بل «أشد الشبه ضعفًا وأوضحها سقوطًا»[30]، وأول وأشهر من قال بها: المستشرق المجري اليهوديجولدتسيهر [توفي: 1340هت، قبل 94 عامًا = فالهجمة على الصحيحين بهذا النَّفَس ليست وليدة اليوم؛ بل قبل مئة سنة تقريبًا !]، وجعل أحمد شاكر ترديد هذا القول من الببغاوية المقيتة دون بحث جاد ولا دراسة متأنية!

ولسنا بصدد مناقشة هذه الجزئية التي استطردنا فيها؛ ولكن ألقِ نظرة على المكتبة الحديثية تجد فيها مجلدات تضم مئات الصفحات من الدراسات العلمية الجادة في بيان جهود المحدثين في نقد المتن الذي يسمى عند بعض الباحثين المعاصرين: (النقد الداخلي)، ومنها على سبيل المثال:

مقاييس نقد متون السنة للدكتور مسفر الدميني [جامعة الإمام بالرياض]، ونقد المتن الحديثي وأثره في الحكم على الرواة. وَ العيوب المنهجية في كتابات المستشرق (شاخت) المتعلقة بالسنة النبوية؛ كلاهما: للدكتور خالد الدريس [جامعة الملك سعود بالرياض]، ومنهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي للدكتور صلاح الدين الأدلبي [كلية الدراسات الإسلامية بدبي]، وجهود المحدثين في نقد متن الحديث النبوي للدكتور التطواني: محمد بن طاهر الجوابي [جامعة الزيتونة في تونس]، ومنهج النقد عند المحدثين مقارنًا بالمنهج النقدي الغربي للدكتور العراقي: أكرم ضياء العمري [كلية الشريعة في قطر]، واهتمام المحدثين بنقد الحديث سندًا ومتنًا للدكتور محمد لقمان السلفي [من الهند]، وهكذا؛ في طائفة كثيرة من كتب مناهج النقد، والدفاع عن السنة، وهي تحتمل حصرها في ببلوجرافيا مستقلة.

فهؤلاء بحَّاثون في الحديث النبوي، متعددوا الأقطار، متباعدوا البلدان، وهذه كتب كثيرة متخصصة، ورسائل علمية متقنة، فأين الخلل؟ إيَّاك إيَّاك أن تلقي بنتائج عجزك العلمي وخمولك البحثي وحَوَلك المعرفي على المكتبة الحديثية؛ وأنت تحتسي فنجان قهوتك ولم تعرف بعد أنه أُلف في هذا الموضوع كتاب أصلًا!

فإن قيل: هل (الصحة) عند البخاري ومسلم وغيرهما قائمة على أساس موضوعي يمكن قياسه، أم على أساس الانتقاء؟

فالجواب عن هذا بدهي! وهو أن مصادر المعرفة عند العقلاء: إما نقل وإما حس، «والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود»[31]، ويجمعهما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الخبر كالمعاينة»[32]، فالخبر الذي هو أحد مصدري المعرفة: لا تقبله أنت -ولا سائر العقلاء- حتى تجري عملية نقدية مباشرة له، وهذا في سائر الأخبار اليومية، تجد أنك تمارسه دون تكلف، أفرأيت لو جاءك عن النبي صلى الله عليه وسلم أكنت تقبله دون تفحص؟ فلماذا تسيء الظن بعلماء الحديث وهم أمناء الله على وحيه؟

فهم يشترطون [باختصار] أن يكون الناقل ثقة سمع من ثقة في جميع طبقات الإسناد، ولا يكون شاذ المتن ولا معلل الإسناد، ولهم في ذلك أدوات نقدية أبهرت العقول وفاقت بها الأمم، إذ نقل العلامة المعلمي رحمه الله [ت: 1386] عن المستشرق الإنجليزي اليهودي مرجليوث [ت:1359] قوله: «يحق للمسلمين أن يفخروا بعلم الإسناد ما شاؤوا»، وخرجت منه هذه الكلمة رغمًا عنه، مع اشتهاره بالتعصب ضد العلوم الإسلامية[33]!

وبعد؛ هنا يلقي القلم عصا الترحال، مبينًا للكيفية التي اتفقت الأمة على قبول الصحيحين بها، مع استطراد مختصر في نقد المتن، وبيان المدخل العقلي في اشتراط التصحيح، فهل يا ترى تصمد الاعتراضات الباهتة النشاز التي تُلْقى بين ظهرانينا أمام الحقائق العلمية المساقة؟ بل هي سقطة ما لها من قرار، وهي أحد حلقات الشغب المعرفي في القفز على الحقائق العلمية دون أدنى معرفة ولا برهان، مع أن البناء الثقافي والحِجَاج العلمي: يجب أن يكون على أسس معرفية واضحة، وعلى قواعد علمية مبرهنة.

أما أولئك المشغبون على الحقائق بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير؛ فلم يسلم منهم زمن، ولم يضروا علمًا، ولم يقدموا نتاجًا، إذ الاعتراض –لمجرد الاعتراض- على الحقائق العلمية المؤيدة بالبرهان؛ نوع من السفسطة والتشغيب من غير قيمة علمية متضمَّنة، كما يقول البلقيني رحمه الله [ت 805هـ]: «الانتهاض لمجرد الاعتراض= من جملة الأمراض»[34].

وقد تبين لك –مما سبق- أن الهجمة على الصحيحين والسنة المطهرة ليست وليدة اليوم، ولا حديثة الظهور، بل كانت قبل أكثر من مئة عام تقريبًا، حيث «يداول الله الأيام بين الناس؛ فتذهب أيام وتأتي أيام، وتُثَل عروش وتقوم عروش، ويتقلب الناس بين قديم وجديد، وطارف وتليد، ولا زال [ذكر الصحيحين] يؤنس الغريب، ويطب الجريح، ويرد الضال، ويهدي الحائر»! والمتطاولون يخمد ذكرهم ويتلاشى، ورحم الله الشيخ طاهر الجزائري [ت1388هـ] إذ يقول: «مزية الصحيحين ثابتة ثبوت الجبال الرواسي، ولا ينكرها إلا غمر يزري بنفسه وهو لا يشعر»[35]، وصدق الله إذ يقول: (إن شانئك هو الأبتر)، والحمد لله رب العالمين.



[1] النقع: الغبار المرتفع، ومنه قوله جل ثناؤه: «فأثرن به نقعًا». ينظر: مشارق الأنوار (1/ 135)، تاج العروس (22/ 273)

[2] مقدمة تحفة الأحوذي، وينظر: كتاب «تقييد العلم» للخطيب البغدادي، وكتاب: «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر.

[3] انظر -على سبيل المثال- كتاب «تاريخ تدوين السنة وشبهات المستشرقين» للدكتور: حاكم المطيري، من منشورات جامعة الكويت.

[4] متجاوزًا التعريج على سيرة الشيخين (البخاري ومسلم)، وما ذكر فيها من جهدهما في طلب العلم، وسعة محفوظاتهما، وغاية ما كانا عليه في التعبد والتزهد وهي مع عظم عوائدها، مبذولة مشتهرة، وقبل الدخول في جزئيات النقاش، نومئ إلى أن هذه الأمة لا تقدس رجالاتها وعلماءها، إذ الشرع حاكم على الجميع، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويترك عدى من ثبتت له العصمة g، ويقرر الأئمة هذا الأمر تقريرًا متسلسلًا جيلًا بعد جيل، [ينظر في نقلها: مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 211) إعلام الموقعين (2/ 200)، ومنظومة رسالة الهدى، وغيرها]، وكما يقول ابن القيم رحمه الله [الفروسية ص228]: «ولسنا ممن يعرف الحق بالرجال، وإنما ممن يعرف الرجال بالحق، ولسنا ممن يعرض الحق على آراء الخلق فما وافقه منها قبله وما خالفه رده، وإنما نحن ممن يعرض آراء الرجال وأقوالها على الدليل فما وافقه منها اعتد به وقبله، وما خالفه خالفه»، ويجسد هذا عمليًا بقوله: «شيخ الإسلام [الهروي]: حبيب إلينا؛ والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم g فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثم نبين ما فيه» [مدارج السالكين 2/ 38]، ولو ذهبنا نتتبع كلام أهل العلم في هذا الشأن لخرجنا بحمل بعير !

[5] ينظر: فتح الباري (3/ 584).

[6] الرسالة للشافعي (ص34).

[7] قال البخاري رحمه الله: «صنفت الجامع من ست مئة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله»، نقله ابن حجر في الهدى (ص489).

[8] وهذه المرحلة مقسومة على ثلاث مراحل: جمع المادة العلمية بالرحلة والكتابة – مسودة تأليف الكتاب – تبييض الكتاب في نسخته النهائية، وهذه الثلاث لعلها المقصودة بقول الإمام البخاري رحمه الله: «صنفت جميع كتبي ثلاث مرات»، نقله ابن حجر في الهدى (ص487).

[9] وكذلك المتكلم في علوم الحديث وهو لم يتعلمها، ولم يأتِ العلم من أبوابه= فهو عامي في هذا الشأن، قال ابن قدامة في روضة الناظر: «كل أحد عامي بالنسبة إلى ما لم يحصل علمه، وإن حصل علمًا سواه».

[10] هدى الساري (ص7).

[11] في كتابه صيانة صحيح مسلم (ص86).

[12] مقدمة ابن الصلاح (ص26).

[13] اللاحب: الطريق الواضح. ينظر: تاج العروس (لحب 4/ 201).

[14] منهاج السنة النبوية ( 7/ 215).

[15] مقالات العلامة الطناحي (1/ 308).

[16] فتح المغيث للسخاوي (1/ 289).

[17] منهاج السنة النبوية ( 7/ 216).

[18] وكانتقاد ابن الجوزي لحديث في البخاري، لكنه من رواية حماد بن شاكر، لا من رواي الفربري، كما بينه السيوطي في تدريب الراوي (1/ 331)، ونقله عن العراقي.

[19] من ذلك مثلًا: أن الدارقطني في التتبع (ح7) اعترض على البخاري تخريج حديث العسيف (ح6827) من طريق ابن عيينة، وفيه ذكر شبل بن معبد، والبخاري «قد حذف ذكر شبلٍ على عمدٍ» كما قاله أبو مسعود الدمشقي والنخشبي والحميدي وغيرهم، فلا تلحق البخاري ملامة حينئذٍ.

[20] قال الحجوي في كتابه: الدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام (ص118): «أما احتجاج الطاعن لعمله بأن الدارقطني وغيره انتقد على الصحيحين؟ فجوابه: أن الدارقطني وأضرابه ينتقدون انتقادات فنِّية حديثية، راجعة إلى تراجم الرجال، كالطعن في بعضهم بضعف الحفظ، أو قلة الضبط، أو في السند بما يعبر عنه بالعنعنة إذا كانت من مدلس أو نحو ذلك، مما لا يتعدَّى تضعيف الحديث الذي انتقدوه، على أن أكثر ما انتقده الدارقطني مردود عليه»، وفي الجملة الأخيرة بحث؛ فلينظر.

[21] تهذيب الكمال (4/ 362). ونقل السيوطي في الحاوي للفتاوى (2/ 138) عن أبي حامد الغزالي أنه قال: «لو سكت من لا يعرف = قلَّ الاختلاف، ومن قصر باعه وضاق نظره عن كلام علماء الأمة والاطلاع عليه فما له وللتكلم فيما لا يدريه؟ والدخول فيما لا يعنيه؟ وحق مثل هذا أن يلزم السكوت»، وينظر أيضًا: كلمة كلثوم العتابي في معجم الأدباء (5/ 2243).

[22] المنار المنيف (ص44).

[23] ذكره مسندًا ابن عدي في الكامل (2/ 76)، وفي المطبوع منه: (انظر)، وفيما نقله د. بشار عواد في حاشية تهذيب الكمال (2/ 349) عن مخطوط الكامل: (نظرة).

[24] ففي كتاب التتبع (ح15) انتقد حديثًا من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه مما أخرجه الشيخان، واختلف فيه على المقبري، ولكنه في العلل (ح2063) ذكر الخلاف وصوب أن المحفوظ رواية «الليث عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه»، وهذا عين ما أخرجه الشيخان.

[25] منهاج السنة النبوية (7/ 216).

[26] المقدمة (ص7).

[27] مقارنة المرويات (2/ 481).

[28] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (ح986)، والدارمي (ح612)، وابن ماجه في المقدمة (ح20)، وغيرهم.

[29] مقالات الشيخ أحمد شاكر (1/ 149)، بل ربما تطلَّبوا علة في الإسناد نقدًا للمتن (قاله المعلَّمي في مقدمة الفوائد المجموعة).

[30] منهج النقد في علوم الحديث (ص467).

[31] مجموع الفتاوى (13/ 330 وَ 12/ 63).

[32] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (ح2447) مرفوعًا من حديث ابن عباس، وأعلَّه ابن عدي في الكامل (8/ 453)، وينظر: دراسة عن منهج نخبة الفكر (ص126).

[33] الأعلام للزركلي (2/ 330)، الاستشراق والمستشرقون للسباعي (ص69).

[34] محاسن الاصطلاح (ص240).

[35] توجيه النظر (1/ 298).



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/library/0/96555/#ixzz3z5ATlq00

Read 1735 times Last modified on Tuesday, 09 February 2016 17:53

Add comment


Security code
Refresh

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab