عام الحزن يلقي بظلاله على حياة الرسول صلى الله عليه و سلّم، حزن يتلوه حزن، و خذلان يتبعه خذلان و هجرة تتلوها هجرة، و فراق يتبعه فراق، أبوطالب يرحل تاركاً ابن أخيه الذي ظلّ يبسط عليه جناح حمايته لسنين، و خديجة تودّع زوجها و نبيّها و قد حانت لحظة الرّحيل قسراً، و هي مشفقة عليه، و حانية القلب، كما ظلت طوال حياتها معه، و الرسول صلى الله عليه و سلّم ، يؤلمه رحيلها. و قد كانت له نعم الرّفيقة في طريق الدعوة إلى الله، آمنت به حين كذّبه الناس، و نصرته حين خذله الناس و واسته بمالها حين حرمه الناس، فأنّى لقلبه الوفيّ ان يستسهل فراقها، و هي تلقى ربّها قريرة العين، و قد جاهدت في سبيله بالنفس و المال، مبشّرة ببيت من قصب، لا صخب فيه و لا نصب، و لكنّ الرسول الأمين القويّ بربّه، يتعالى على الجراحات، و يرضى بالقدر، و يمضي مصرّا على إبلاغ الرسالة و أداء الأمانة. فالرسالة لا تحتمل الإنتظار، و الأمانة ثقيلة تنوء بحملها الجبال، و الرسول أمين مشفق محب لخلق الله، حريص على هدايتهم، و هم ينهون عنه و ينأون عنه، و يعرضون عنه و يصدّون من آمن و يبغونها عوجا، و الله رقيب مطّلع، عارف بإخلاص رسوله المختار، و حزنه و ضعف قوّته و قلّة حيلته. يسمعه يشكو إليه وحده، و يقصد بابه وحده ، و هو الكريم اللطيف المتفضل ، فيفيض على رسوله من الخير و العطاء في ليلة تجلّت فيها عظمته سبحانه لنبيه صلى الله عليه و سلّم، فأوحى فيها الى عبده المجتبى ما أوحى من الخير و البركات و الفضل العظيم. أيها المبلغ الأمين، و الداعي الشفيق، و الرحمة المهداة من الله للعالمين، أكرم بها ليلة دعاك فيها سبحانه إليه، في رحلة طوفت فيها بين أقدس بقعتين على وجه المعمورة ، و عرجت من قدسها إلى السماء ، حتى وصلت مكانة لم تكن لأحد قبلك من العالمين. يا صاحب الإسراء و المعراج، يا سراج الأمة المنير، و هاديها الرؤوف الرحيم ، و هل هنالك من كلمات توفيك حقك ، و تعبر عن فضلك ، و تحمل إليك محبتنا مرسومة على شغاف القلوب، مستقرة في حبات العيون، اقرب من دمانا للوريد، و من الدموع إلى الأحداق، واصفي من ماء السماء حين ينهل طهوراً حاملاً معه تباشير الحياة. سريت كما سرى البدر ماحيا أمواج الظلام، مشرقاً به الصبح ندياً معطر النسائم ، ممزوجاً رواؤه بأريج الود الذي فاض به قلبك الطاهر، و كما سرى البدر في ليل الحزانى و المكلومين فاطل بشعاعه الباسم عليهم يملا مآقيهم بدموع الرجاء و كما سرى البدر لحناً مسبحاً يوحي بالغد القادم و في ألقه وهج الحلم البديع، و على أجنحته النورانية الشفيفة قطرات الرهام الواعد بسقيا رحمة، تحيي الموات، و تبعث الدفء في العروق التي أيبست حياة الضنك فيها دماء الحياة، فأحالتها يبابا خواء. أيها البشير المبشر، أي عزاء لمكلوم، و أي راحة لمتعب، و أي مكافأة لمخلص محبوب أرفع و أبهج مما آتاك ربك و أعطاك، أي رحلة تسرية و حنو و تشريع و رحمة، أجل من رحلتك من حرم الله الآمن إلى المسجد الأقصى المبارك بأمر الله، من مكة المسرى، و من القدس المعراج، و في الأقصى سلم إليك لواء الإمامة بالأنبياء عليهم صلوات الله، فأنت الإمام و الشهيد و أمتك شهيدة على الناس، فأي فخر نلته و أية منزلة أوتيت و أي مرقا عزيز كريم ارتقيت. جبريل يطوّف برسول الله صلى الله عليه و سلّم أرجاء الجنّات، لتبتهج نفسه و يزداد يقينه برحمة الله و حسن جزاءه، و يرى منازل الصالحين و يشاهد نماذج من سكان الفردوس ، فهذا عطر يطيب الأجواء نلماشطة آل فرعون، و هنا يرى امرأة تسابقه إلى الجنة و يسأل عنها فيجيبه جبريل، هي امرأة كفلت ايتامها و قامت على أمرهم. فيعود إلى أمته بدستور يصون حق اليتيم و يرتقي بشأن الأرملة المحزونة الضعيفة،، و هناك يسمع خصف نعلين يسابقانه إلى الجنة، و يسأل من صاحبهما، و يأتي الجواب " بلال الحبشي " رضي الله عنه، و حين يسأله بعد سنين عن سبب بلوغه تلك المنزلة يجيب قائلا: " ما توضأت قط إلا و صليت ركعتين سنة الوضوء " . فهي إذن حسن العبادة و دوامها و الثبات على كلمة الحق و يعود من رحلته بمبدأ لا يدانيه في العدالة مبدأ {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} . و في السماوات يلتقي إخوانه أنبياء الله عليهم صلوات الله " ابراهيم الخليل " الذي سمّانا المسلمين من قبل، فيحمله السلام لأمتة { يا محمد أقريْ أمتك منّي السّلام، و أخبرهم ان الجنّة طيّبة التربة، عذبة الماء و أنها قيعان، و أنّ غراسها، سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر} . و ينتهي به التكريم [عند سدرة المنتهى، عندها جنّة المأوى] و هي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، و إليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها، فأعطي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثاً{اعطي الصلوات الخمس، و أعطي خواتيم سورة البقرة، و غفر لمن لم يشرك بالله من أمّته شيئاً } . و يرضى عنه مولاه فوق الرضى، و يريه من آ ياته الكبرى، و يطوف به الوحي الأمين ضفاف أنهار الجنة و وارف أفياءها، و يريه منازلها و نعيمها لتزداد رجاء ان تكون لامته أعلى منازلها، و يريه مقاعد أهل النّار و صروف عذابها، و ليبين لأمته موارد الهلكة فيها، و ليزداد حرصاً على ردّهم عنها، و انقاذهم من صلاها، و يفيض عليه ربه من آياته الكبرى، فأوحى إليه ما أوحى، من خير و بر و رشاد و سداد، و حمله لخلقه الصلوات و الطيبات و البركات. و يعود من ليلته تلك و قد جلت عنه همّه، ما رأى من آيات ربه الكبرى، و سرّى عن ما شهدته عيناه من حفاوة الأنبياء عليهم السلام به، و عرف بأن رسالته خالدة أبد الدهر، و منصورة بإذن ربّها، و أنها للناس كافّة، فتقرّ عينه، و يزول غمّه، و يقبل على ما أمر به. و يباشر قومه بالخبر حال عودته من مسراه: أن قد أسري بي إلى بيت المقدس ثم عرج بي إلى السماء، و تنكر عليه صحة ذلك تلك القلوب المقفلة و العقول الصدئة ، و تهرع إلى أبي بكر الصدّيق رجاء ان يكذّبه ( هل لك إلى صاحبك يزعم أنّه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، فيقول أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قاله ذلك فقد صدق، قالوا: أو تصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس و جاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم. إنّي لأصدقه في أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أوروحة ). فحمل أبو بكر وساماً ما منح لغيره من أمة محمد أن سمّي " الصدّيق " و تكون بشارة و أمانة للرسول صلى الله عليه و سلم، و لأمته من بعده، بأن الأقصى إرثهم الرباني المحمدي، و أنّه معراج نبي الأمة إلى السماء، و أن الصلوات الخمس أمانة الله لدى أمته، و هديته الكريمة إليها و يتنزل القرآن مؤيدا و مثبتا لتلك المكرمة الالهية لمحمد صلى الله عليه و سلم، إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. (( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ))[الإسراء:1] . |
|||
|
|||
الرابط: http://www.denana.com/main/articles.aspx?selected_article_no=14625