هذا الكتيِّب رسالة من مجموعة رسائل تلقَّيتها من أخي جودت سعيد عام 1968، أيام محنة لم تكن فيها من صلة بيننا سوى الرسائل، و كنت أُطلع عليها من كنت على صلة معهم من الإخوة و الأخوات، إلا أنه كان في نفسي و مازال: إن هذه الرسائل ينبغي أن تُنشر، لما فيها من موضوعات شيِّقة و مفيدة.
و لهذه الرسالة قصة قصيرة، تبدأ منذ أن تعرّفنا على الأخت التي تُجري ترتيبات السفر إلى أمريكا للالتحاق بزوجها الذي يتابع دراسته هناك.
و مضت فترة، و نحن على صلة معها نتدارس و نتباحث، و مما زاد من اهتمامنا بها معرفتنا بزوجها، و ما له من مزايا في الجدّ و الاجتهاد.
و لمَّا كان يتطرق الحديث إلى اللباس الشرعي، كانت بعض الأخوات يُشجِّعها على ارتداء الجلباب عملاً بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ، وَ بَنَاتِكَ، وَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ، وَ كَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الأحزاب -59.
و كانت تُجيبهن: إن أسْرتي لا تسمح لي بذلك، و إنني سأواجهُ مِنْ كلِّ مَنْ حولي مِنْ أهلي و أقاربي معارضة شديدة لا أستطيع مجابهتها، و إنني سأسافر قريباً إلى بلد الحرية، إلى أمريكا، و هناك لا يتدخل أحد في شؤوني الخاصة، ألبس ما أشاء، و ما يروق لي، و إني انتظر اليوم الذي سأسافر فيه، حتى ارتدي الجلباب و أسافر به، و إن زوجي سيسرّه ذلك.
و فعلاً: حان موعد سفرها، و كانت قد أعدَّت جلباباً أنيقاً مع خِمار، فلبسته و سافرت … ثم أرسلت بعد وقت قريب إلى إحدى الأخوات رسالة تُعلمها فيها بأنها بعد وصولها خلعت الجلباب، لأنها شعرت بأنها إن بقيت بهذا اللباس فستكون منبوذة و ستكون حبيسة البيت، و ذكرت الأدلَّة على ذلك بأن الذين كانوا في استقبالها في المطار من أصدقاء زوجها قد أظهروا جفاء و انسحبوا حين رأوها بلباسها هذا، و أنها بعد أن فكرت، و قلَّبت الأمر، كشفت أنها كانت غبيَّة حين كانت تظن أنها لا تستطيع أن تكون مسلمة داعية بدون حجاب، و أنها رجعت إلى الآيات المتعلقة بالحجاب فوجدت أنها نزلت بعد تكوّن المجتمع الإسلامي، و أن ظروفها تختلف عن ظروف المجتمع الإسلامي، و ما إلى هنالك من المسوغات و المبررات…
لقد كان الخبر غريباً على الأخوات، و مفاجئاً لهنّ، و اختلفت الغرابة و المفاجأة عند كل واحدة منهن بقدر ما عندها من تصورات و مفاهيم.
و قصَّتنا هذه، ليست قصة تخصُّ أفراداً معينين فحسب، لا إنها قصة متكررة مع كل من يمر في مثل مراحلهم، و لعل أطراف القصة تختلف من فرد إلى آخر، إلا أن الأصل و السبب واحد، ألا و هو: العجز عن التوازن بين المبدأ و الواقع.
و الآن.. و بعد مضي عقد من الزمن، و بعد أن قُدِّر لي و لعدد من أخواتي في الله رؤية العالم الغربي، و التعرف هناك على عدد جيد من النخبة التي تتابع الاختصاصات في مجالات عديدة من بلدان العالم الإسلامي، إخوة و أخوات، و سمعت و رأيت من مظاهر تلك القصة و ذلك:
- و في صورة الشاب الذي يمد يده ليزيح عن رأس عروسه التي اصطحبها معه إلى أوروبا غطاء شعرها قائلاً لم يبقَ لهذا دور في هذه البلاد.
- و في صورة الزوجة التي لا تكترث لرغبة زوجها المؤمن، وإلحاحه على التزام شرع الله في لباسها مدَّية: أن اللباس الشرعي لا يتناسب مع الاختصاص الذي يمارسه زوجها أو الذي تمارسه هي، في حين رأيت مؤمنات ملتزمات في الاختصاص نفسه.
- و في صورة مجموعة من زوجات الأطباء كنَّ يحاولن أن يكون غطاء الرأس يتناسب مع بعض التقليعات الأجنبية حتى ينفين عن أنفسهن أيّ مظهر يدلّ على أنَّهنّ! شرقيات، و منتميات إلى العالم المتخلِّف. و بعضهنَّ رفضنَ الاعتراف بذلك، و حاولن إيجاد مبررات أخرى، ألا أن الصريحات منهنّ ذكرنَ لي بوضوح دوافعهن إلى اختيار تلك الأشكال …
- و كذلك في صورة امرأة وسط مجلس يضمُّ رجالاً و نساءً، في لباس غير محتشم على أقلّ تقدير … وقت قلتُ لها بعد أن انفضَّ المجلس و انفردت بها: فهمنا أنكن تبغون بكشف الشعر و أطراف الجسم إظهار المفاتن و الجمال، و لكن وصل الأمر إلى إظهار ما ليس بجمال!! و أيُ جمال تبغون من شف أجزاء من الجذع؟! إن الأمر خرج من الجمال إلى الابتذال!!.
قالت مفسِّرة و مبررة: لقد كنت محجبة، و قضيت سنوات الدراسة الجامعية مع التمسك بحجابي، و لمَّا تخرجت و دخلت العمل تراجعت، و لما تزوجت و سافرت لم أجد حولي سنداً يدعمني، لذلك ما استطعت المحافظة على ما كنتُ عليه، و تركت الحجاب، و تركت الصلاة!! و لم يبق لديَّ سوى صيام شهر رمضان.
وقفت عند قولها لم أجد حولي سنداً يدعمني. و كانت تقصد أنها لم تجد أشخاصاً يدعمونها، و يشجِّعونها، و لكن انتقل ذهني إلى سند من نوع آخر، فلو كانت عندها فكرة تدعمها، ألم يكن في الإمكان الاستمرار؟ …
و هكذا.. بعد أن تكررت القصة، و زادت تجاربي، شعرت بأهمية عرض هذه الأفكار، كي تتاح لها أن تصل إلى أيدي إخواننا و أخواتنا، خاصة المقيمين منهم على محور موسكو - واشنطن، ذلك المحور الذي يتيه فيه من لا قدرة له على التوازن بين المبدأ و الواقع، أو بين النظرية و التاريخ، أو بين الفكرة و التطبيق.
إن الفكرة التي تفقد السند الاجتماعي تتعرض للزلزلة، و المسلم في الوضع الراهن يُعاني من هذه المشكلة، فالمسلم في عمومه لا يعاني من أزمة في مبدئه الديني، و إنما يعاني من عجزه عن حل مشكلاته وفق السنن الاجتماعية، و هذا العجز ينعكس بدوره على مبدئه، و معظم الذين يفقدون الإسلام من أهله أو من غير أهله، ينطلقون من هذه النظرة.
و هذا الموضوع بحاجة إلى تفصيل أدق كي يكون واضحاً، فإن وضوحه يحلُّ كثيراً من المشكلات. و قد أكد الأستاذ مالك بن نبي - رحمه الله - على هذا الجانب في فصل: العالم الإسلامي و فكرة الأفرو آسيوية، من كتابه « فكرة الأفريقية الآسيوية ».
و يمكن إلقاء ضوء أكثر وضوحاً على هذه الفكرة بأسلوب آخر، هو أسلوب الإخلاص و الصواب، فقد يكون الإنسان مخلصاً جداً، يبذل نفسه و ماله في سبيل مبدئه، إلا أن إخلاصه هذا غير كافٍ للنجاح إن لم يكن عنده علمٌ في كيف يخدمُ مبدأه.
هذه هي مشكلة العالم الإسلامي: مشكلة الإخلاص و الصواب، أو مشكلة المبدأ و الواقع، أو مشكلة الفكرة و التطبيق، أو مشكلة الانفصام الاجتماعي، أو مشكلة الإيمان و العلم.
و تلكم هي القصة كما كتبتُها إلى أخي جودت، و لنتأمل الآن رسالته الجوابية التي يكشف فيها الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى فقدان التوازن الاجتماعي، ذلك أن كشف هذه الأسباب يجعلنا نتبين بعض سنن تغيير النفس و المجتمع.
و هو الذي كتب إليّ يقول:
… و أشعر أنني أُطِلُّ على العالم من خلالك … و لئن كانت الرسالة موجهة إليّ، فالأفكار لكل من يبحث عن الصواب .
يتبع بأجزاء ........
http://jawdatsaid.net/index.php?title