"إلينا... يا من أتعبكم الظلام" ليست هي عنوان الكتاب، و إن كان العنوان "أفكار في القمة" كبيرا و شامخا.
إلا أن هذه الجملة، التي وضعها الكاتب تحت العنوان مباشرة، كانت كلوحة إشهارية، حبكت بحنكة و ذكاء.
"لست في هذا الكتاب مؤلفا، إنما أنا قارئ" عبارة استفتاحية، تجعل القارئ يستأنس الرفقة، و يتشوق جمال الصحبة، عبر صفحات الرحلة في هذا الكتاب.
"و مع الفكر الإنساني في شتى آفاقه، سنمضي معا وقتا طيبا مباركا فيه"
و هو كذلك يا سيدي، فلتأذن لنا أن نردد خلفك:
"الفكر الإنساني .. !
ترى إلام كانت الحياة ستصير بدونه.. ؟
لا شيء.. بل و بدونه، لا توجد للبشرية حياة..
الولاء للفكر إذن..
و الإجلال للكلمة..
و لكل من يقولها في شرف، و في صدق، و في شجاعة."
** ** **
مع محمّد (صلى الله عليه و سلم) ضد العجز و الكذب و الألم:
يقول المفكر الإسلامي خالد محمد خالد: "و هكذا أسعد الله صفحات هذا الكتاب ببداية سعيدة، تلك هي: مع محمّد، ضد العجز، و الكذب، و الألم"
و يبين أنه (صلى الله عليه و سلم)"حبا البشرية من قلبه الكبير، و أعطاها من ذات نفسه" و"حين كانت رأسه في السماء، ظلت قدماه على الأرض"
"سأله أصحابه يوما: يا رسول الله، أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم، و عادوا يسألونه: أفيكون بخيلا؟
قال: نعم، و سألوه للمرة الثالثة: أفيكون كذابا؟ قال: لا."
"إن محمدا بهذه الكلمات يفضح الكذب، و يكشف عنه كشيء دخيل على الطبيعة الإنسانية."
ثم يفسر لنا الأستاذ "خالد محمد خالد" كيف أن المؤمن و هو النموذج المكتمل للإنسان عند رسول الله، قد يعتريه الضعف البشري، فيجبن أو يبخل.. "لكن هذا المؤمن لا يكذب، و لا ينبغي له أن يكذب" إذ ليس ثمة ما يسوغ له ذلك، لأنه إنما يكسب الثقة و الاحترام بالصدق.
ثم يعلل كلامه بكون الكذب " مفسدة مطلقة.. و له ضراوة كضراوة الخمر أو أشد"
مستشهدا بحديث:" لا يزال العبد يكذب، و يتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء، حتى يسود قلبه"
موضحا أن سواد القلب هنا، يعني مسخ شخصية الكذاب، فهو عاجز عن إبصار نفسه، لأنه مبغض لها، و عاجز عن تصديق الآخرين، انطلاقا من عدم تصديق الناس له.
و يصور مشهد هذا القلب بقوله: "يستحيل كالمرآة التي علاها الصدأ، و فقدت كل صفائها، فلم يعد ينعكس عليها شيء من مشاهد الحياة."
إذن فالتوجيه المحمدي -كما يوضح الأستاذ خالد محمد خالد- ينفرنا من كل ما يمت للكذب بصلة، سواء كان إشاعة كاذبة أو مزحة عابرة، أو حتى ثرثرة قد تفقد الفرد توازنه و ثباته.
و الرسول بحسه الإنساني العميق، يدرك أن هناك حالات نادرة قد تضطرنا أن نقول ما ليس بصدق، لكنه ليس بكذب، كحال من يحاول الإصلاح بين الناس.
و عنه (صلى الله عليه و سلم) حين يحلق في أرفع منازل الصدق، و يجلجل قائلا: "إنما أنا بشر"
يعقب الأستاذ خالد محمد خالد بقوله: "يا لجلال هذا الإنسان، في الوقت الذي يقول فيه صادقا إنه رسول من الله للناس، يقول أيضا: أنا بشر، و في الوقت الذي كان معه من الله وحي، كان أيضا يبتدر أصحابه ليستشيرهم".
إنه -حسب الأستاذ خالد محمد خالد-الصدق مع النفس بمعرفتها جيدا، و التفوق على خداعها، و احترام الحقيقة، ليترفع الإنسان عن آفتي؛ الكبر و الجبن، الكبر الذي يجعله يرى نفسه فوق الحق و فوق الصدق، و الجبن الذي يدفعه إلى الهروب من الحق، و هكذا يأخذ بأيدينا مترفقا إلى طمأنينة النفس و سكينتها فيقول(صلى الله عليه و سلم): "الصدق طمأنينة"
* *
ثم ينتقل بنا الأستاذ خالد محمد خالد، إلى قوله (صلى الله عليه و سلم): "استعن بالله و لا تعجز"
و كيف يتعقب الرسول الكريم دواعي العجز، فيفضحها و يذروها مع الرياح، فلا تهيب من مقدور و لا تردد، بل حسم و اختيار، و لا زحف إلى الوراء و تخل عن الواجب، و لا تشاؤم و لا ندم.
ليضيف: "و ضد الألم تواجهنا وقفة بارة، إن الحياة مقدسة و كل إيلام لكائن حي، أيا كان ذلك الكائن، امتهان لحرمة الحياة" و يذكر الحديث الشريف: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا"
و يختم الأستاذ خالد محمد خالد فصله هذا بقوله: "أجل إن نار القصاص تنتظر على شوق، جميع الذين يزيدون متاعب الناس، و يدخلون على حياتهم الآلام و الفجائع"
مع الصين في حكمتها الجزيلة:
"عاشت الصين القديمة وطنا كبيرا للحكمة"" فحكمة الصين تحمل دائما توقيع حكمائها"
"و لحكمة الصين عبير خالص يقودك إليها و يدلك عليها"
بهذه الكلمات يفتتح المفكر الإسلامي خالد محمد خالد حديثه عن الحكمة الصينية، و كيف أن أهل هذه البلاد كانوا يقدسون الرجل الحكيم، فالحكمة هي دينهم الذي يحرصون عليه، و لنستمع معه لقول كونفشيوس:
"ما أشقى الرجل الذي يملأ بطنه بالطعام طوال اليوم، دون أن يجهد عقله في شيء؛ لا يتواضع في بابه التواضع الخليق بالأحداث، و لا يفعل في رجولته شيئا خليقا بأن يأخذه عنه غيره، ثم يعيش إلى أرذل العمر، إن هذا الإنسان وباء"
ثم يذكر شغف هذا الفكر بالحرية، و بالسلام، و بالاستقامة، قائلا: "هذه الثلاثة، هي ليلاه التي يغني لها، و يلهج بها"
و ينقل لنا دستور الحكم الصالح الذي كانت الصين تحرص عليه، و ذلك حوالي (845 ق-م): "يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحرارا في قرض الشعر، و الناس أحرارا في تمثيل المسرحيات، و المؤرخون أحرارا في قول الحق، و الوزراء أحرارا في إسداء النصح، و الفقراء أحرارا في التذمر من الضرائب، و الطلبة أحرارا في تعلم العلم جهرة، و العمال أحرارا في إطراء مهارتهم، و في السعي إلى العمل، و الشعب حرا في أن يتحدث عن كل شيء، و الشيوخ أحرارا في تخطئة كل شيء."
و لأجل السلام يعلن منشيس: " أن الأبطال ليسوا هم الذين يكسبون الحروب مهما تكن عادلة، بل هم من يربحون السلام" ليقرر أن: "ليس ثمة حرب عادلة" و يقول: "من الناس من يقول إني بارع في تنظيم الجند، و إني ماهر في إدارة المعارك، أولئك هم المجرمون حقا"
أما لاوتسي فيؤكد: "عندما يسود الحق، تسخر الخيل لأعمال المزرعة، و عندما يسود الباطل، تسخر الخيل لخوض المعركة"
ليجلجل الأستاذ خالد محمد خالد قائلا: "ما أروعه من فكر!"
أما عن الاستقامة في الحكمة الصينية، فيبين أنها شيء عسير المنال، إلا على أولي العزم من الرجال، ذلك أنها: "أعمال نظيفة جدا، و بواعث نظيفة جدا"
لينقل إلينا عبارة للفيلسوف كونفوشيوس تشع بالنور: "حياتي هي صلاتي"
و يعقب عليها قائلا: "ماذا نقول في شرح هذه العبارة المضيئة، و أي كلمات تقدر على التهويم حولها، و محاولة تفسيرها؟!" "و العمل الذي هو قوام الحياة، لا يهدف لشيء سوى تحقيق الحياة الصالحة"
و يضيف: "و المجد، و الشهرة، و بقية العائلة كلها، ليست أكثر من عصابة تسرق أنبل ما في الطبيعة الخيرة، و تضلل سعي الإنسان."
ثم يذكر لنا ما تحدث به لاوتسي إلى كونفشيوس: ".. و أن الرجل العظيم بسيط في أخلاقه و في مظهره، رغم ما يقوم به من جلائل الأعمال، فتخلص من كبريائك و مطامعك الكثيرة"
و ما تحدث به يو-دزه: " من يطرح المجد و لا يعبأ به ينج من الأحزان.. "
مع بوذا في بحثه عن الحقيقة:
يقول الأستاذ خالد محمد خالد: "تلك هي الحكمة الجليلة التي عاد بها بوذا من رحلته الطويلة، و تقلبه في البلاد، و في الفيافي، و تأمله العميق.. أجل تلك هي: "أنا لا أعرف شيئا عن سر الإله، و لكني أعرف أشياء عن بؤس الإنسان"
و يستطرد قائلا: " منذ أعوام بعيدة، قرأت هذه الحكمة الفذة" "و أذكر أنني حين طالعتها، نحيت المجلة من فوري، و لم أستطع متابعة القراءة" "و من تلك اللحظة قررت أن أبحث عن بوذا في كل مكان، و مضيت أقرأ له، و أقرأ عنه"
ثم يشرح لنا الأستاذ خالد محمد خالد ذلك بقوله: " و جمال هذه الحكمة و نفعها، يتمثلان في أنها تأخذ ألبابنا عن (السفسطة) التي تكتنف تفكيرنا في ذات الله، و تتجه بنا صوب اليقين المتمثل في اكتشاف واجباتنا اتجاه الله"
و يضيف: "إن بؤس الإنسان على هذه الأرض، يتطلب كل ما للبشرية من وقت، و كل ما معها من جهد، ففيم فرار الناس من أقدس واجباتهم.. !؟"
ثم يعقب قائلا: "و الفضائل الكبرى للنفس الإنسانية، هي ما يريده بوذا للناس لكي يسعدوا.. يا له من فكر شامخٍ، هادٍ، مضيء"
و يذكر لنا هذه القصة:
"قصده ذات يوم برهمي، مستأذنا في السفر إلى (جايا) ليستحم فيه، و يطهر نفسه من خطاياها، فقال له بوذا: استحم هنا.. نعم هنا.. فليس ثمة حاجة تدعوك إلى السفر إلى (جايا)"
ثم عانقه بنظرات عينيه الصافيتين و قال: "أيها البرهمي، كن رحيما بالكائنات جميعا، و إذا أنت لم تنطق كذبا، و لم تقتل روحا، و لم تأخذ ما لم يعط لك، و لبثت آمنا في حدود إنكار ذاتك، إذا فعلت ذلك، فماذا تجني من الذهاب إلى (جايا)..؟! إن كل ماء يكون عندئذ (جايا).. !!"
و يوضح الأستاذ خالد محمد خالد؛ أن الإنسان هو من يدفع الألم عن الإنسان، و هو من يحقق عظمة الإنسان دون الاعتماد على أحد سواه..
لذا فقد رسم صديق الإنسان الحميم بوذا، نهجا للتعايش و التعامل: "على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، و أن يزيل الشر بالخير، إن النصر يولد المقت، لأن المهزوم في شقاء، و إن الكراهية ليستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهية مثلها، إنما تزول الكراهية بالحب"