جيش النبيّ – صلى الله عليه و سلم – يرتحل إلى المدينة بعد غزوة بني المصطلق، و ذلك في شعبان عام خمس للهجرة و يدخل الرسول بجيشه المدينة لهلال رمضان المبارك من ذلك العام ، و حين أذن باللرحيل الى المدينة يحمل هودج عائشة أم المؤمنين و يوضع على جمل و لا يلتفت الرجال إلى خلوّه من صاحبته، التي خرجت مع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – مجاهدة في سبيل الله، و قد ابتعدت عن موقع الجيش لبعض حاجتها، و تعود إلى المكان لتجده و قد خلا من الجيش، و تدرك أنّهم قد ارتحلوا و أنّهم سيفتقدونها و يرجعون إليها، فتلتف بعباءتها و يغلبها النوم،
و تستيقظ على صوت يسترجع صاحبه قائلاً: “إنّا لله و إنّا إليه راجعون، أظعينة رسول الله؟”، و ينيخ النّاقة فتركبها عائدة إلى المدينة المنوّرة دون أن يكلمها بكلمة، و هناك في أوكار المنافقين ثمّة رجل موتور، في قلبه نار حقد دفين، و على عينيه غشاوة من بريق الذهب و الخرز الذي كان ينظم تاجا لملكه قبل هجرة الرسول – صلى الله عليه و سلم- و أصحابه إلى المدينة، فهو يرى في محمد سالباً لملكه، و لا يراه نبياً مبعوثاً برحمة الله إلى العالمين، لقد علا صوت التاج في نفسه على صوت الحق و الإيمان، فدخل في دوّامة النّفاق، و قعد للمؤمنين بالمرصاد، فهو مثبّط مكذّب مرجف، خوّاض في الأعراض بالبهتان، و حوله زمرة ممّن أعماهم الضّلال فساروا في ركاب زعيم النّفاق ” عبد الله بن أبيّ بن سلول” و عائشة تدخل المدينة على جمل صفوان بن المعطل – رضي الله عنه -، و ابن سلول يراها فرصته لإلحاق الأذى بنبي الإسلام و دولة الإسلام، و ينطلق فحيح لسانه الأفعواني يرجف في المدينة، و تهيم حشراته النافثة بالسمّ تقذف عائشة الطاهرة، و تتهمها بالفاحشة إفكاً و زوراً، و تنطلق الألسن الحاقدة بحديث الإفك، و تتبعها الألسن الخرقاء، تلك التي تتلقّف القول و تشيعه دون أن تمرّره على القلوب، أو أن تتريّث لتستيقن صدقها من كذبها، فتهلك دون أن تحسّ و تتردّى في مهاوي الكبائر دون شعور و يبلغ الأمر رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و يتزامن الخوض فيه مع مرض عائشة الطاهرة و إقامتها في بيت والديها لحاجتها للرعاية، و هي غافلة لا تدري بما يتخوّض به المنافقون و المستغفلون على حد سواء، و تنكر من زوجها المحبّ المشفق جفوته و تشاغله عنها في مرضها، و ما تدري بالحزن الذي يسكنه، و قد طعن فيها و هي أحب النّاس إليه، و يبلغها الأمر فتبكي و تتألم و ترجو ربّها أن يبرأها، فهي تعلم أنّها بريئة و توقن أن الله لا يرضى لها الظلم و لا لرسوله المذلّة، و تنتظر الطيّبة البراءة، و تترقّب المدينة ما ستنجلي عنه الفرية، و يعلو صدر بن سلول و ينتفخ كبرياء و صلفاً و نفاقاً، و ينفث سمّه في كل أرجاء المدينة و قد ظنّ أنها القاضية على محمد،
و لكن هيهات لك أيها المأفون، فلتستمع إلى ما نزل فيك من القرآن، و قد وصمك إلى يوم القيامة بأنّك أفّاك أثيم: ( إنّ الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرّ لكم بل هو خير لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم و الذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم) فانكسرت شوكتك يا بن سلول، و لعنت في الدنيا و الآخرة في كتاب الله.
و هناك في بيت الصدّيق ترقد عائشة محمومة مكلومة الفؤاد، و قد أخبرتها أم مسطح بما يخوض به النّاس بشأنها، و تستنكر أم المؤمنين البريئة أن يتحدّث النّاس في مدينة رسول الله بالإفك عن زوجة نبيهم – صلى الله عليه و سلم -، فتقول “سبحان الله أو يتحدّث النّاس بهذا؟” أجل يتحدّث النّاس بهذا يا أم المؤمنين حين ينسون في لحظة ما أن يحتكموا إلى قلوبهم المؤمنة، و إلى قانون أخوّة الإسلام النبيل، حيث ينزل المرء أخيه بمنزلته و يظن به ما يظن بنفسه: ( لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيراً و قالوا هذا إفك مبين)
يتحدّث النّاس بهذا حين لا يميّزون بين المؤمن و المنافق، و حين يتلقون الكلمات من المنافقين دون وعي و لا إنكار ولكنّ الله الذي يعلم ما يخفيه قلبك الطاهر وما تعلنه جوارحك البارّة النقيّة، ويعلم ما يحزن رسوله الكريم وهو يسأل أصحابه في شأنك، و كلّهم يراك ابنة الصدّيق و زوج رسول الله الطاهرة، و ها هو عمر يقول: ” يا رسول الله من زوّجكها؟ فيقول – صلى الله عليه و سلم-: ((الله)) قال عمر: أفتظنّ أنّ ربّك قد دلّس عليك فيها؟ (سبحانك هذا بهتان عظيم)، يعلم الله كل هذا و أكثر فينزّل فيك قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، و ما كنت ترين نفسك عند الله ذات شأن لينزل فيك قرآناً، و لكنّها رحمة الله و فضله و براءتك تتنزل في سورة تحمل اسم الله المنير المشرق بالرحمة و العدل (النور)، (و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة و رزق كريم) يا أمنا الطاهرة ابن سلول يعود اليوم من جديد يقول فيكِ ما قاله قبل قرون و نحن أبدا نبرؤ إلى الله مما يقولون، و أبدا نظل نقول فيكِ ما قاله ربنا في كتابه (الطيبات للطيبين) و رسول الله الطيّب و أنت الطيبة يا أم المؤمنين.