حين تصبح الأمم مزيجاً واحداً من العلاقات المتشابكة، و الثقافات المتداولة المتداخلة دون أن تستطيع اية مؤثرات و أصوات رافضة أو محذرة إيقاف المد التأثري و التأثيري في آن معاً.
و حين يسود مفهوم يحتمل عدة وجوه تأويلية، و يتشكل بعدة أشكال احتوائية تسعى في مجملها إلى صهر الأمم و الشعوب و الحضارات في بوتقة واحدة تدعى العولمة لينتج عنها أيديولوجيا مادية راديكالية تتجاهل المقومات البشرية و الآدمية للانسان، وفق منظومة إقتصادية و اجتماعية و أخلاقية تتماشى و تتطابق مع ذلك الشعار المصلحي (دعه يعمل دعه يمر).
حينها يتطلب الأمر من الأمة التي لاتنسجم معتقداتها و اخلاقياتها و حضارتها العريقة، بشكل متطابق مع كل رواسب و معطيات ذلك المد - لارتكاز مقومات وجودها على الدين الحق و الشريعة العصماء و العقيدة ذات الثوابت التي لايمكن تغييرها - أن ترتب أوراقها، و أن تعيد النظر في تحصيناتها الاجتماعية و الثقافية و الحضارية بكل دقائقها و مجالاتها.
و أن تدقق بوعي موضوعي في المصادر المعاصرة التي تدخلها الوسائل المشتركة مع الآخر و تنساب في عمق بنيانها المتميز دون أن تحس.
و عليها أن تدرس بعمق و إنصاف كيفية الاستفادة من حضارة و فكر و منجزات الآخر، دون أن تتشرب سموم و شوائب تلك الثقافات الوافدة، بكل تدفقها السريع الرتيب الجارف المؤثر، لكي تبقى مميزاتها الإنسانية و الفكرية، و قبل ذلك العقدية في أمان و تميز و ديمومة.
و عليه فإنه و في ظل إفلاس الحضارات المادية في إيجاد حلول لمشكلات الإنسان بكل جوانبها، بل ربما ساهمت تلك البهرجة الحضارية الخاوية من الروح، بتعقيد تلك المشاكل و تفاقمها، و تدهور القيمة الإنسانية، و سيطرة اليأس و الشقاء و الضنك و العدائية، و انحسار القيم الأخلاقية المرتبطة بالدين كباعث و موجد لتلك القيم و المعاني.
فقد صار لزاماً علينا كأمة مسلمة أن نساهم و بفاعلية عظيمة بمستوى ديننا العظيم على إحياء مفهوم العولمة الانسانية الرحيمة العادلة، تلك العولمة " العالمية " التي نادى بها الإسلام بوضوح و صراحة مقرراً و بكل ثقة أنه دين عالمي برسالة عالمية، تؤكد على وحدانية الخالق و ميزة الكمال للشريعة تميز الرسول الحريص على تحقيق العدالة و الرحمة، و الهداية و المصلحة النافعة للعالمين كافة، دون تمييز بين جنس و لون و طبقة.
يقول سبحانه مخاطباً رسوله الكريم حامل الرسالة العالمية الرشيدة " و ما أرسلناك الا كافة للناس " و يقول في صفة الرسول و الرسالة " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ).
فالرسالة عالمية و الرسول للناس كافة، و الرحمة و العدالة لم تستثن أحداً من البشر أياً كان موقعهم و مهما كان واقعهم، و كيفما اختلفت مرجعياتهم و محتكماتهم و شرائعهم.
و إذا كان الآخريروج لعولمة منهجه و فكره و حضارته على اعتبار أنها حتمية عصرية و أيديولوجيا لا مفر من اجتياحها للعالم من مشرقه إلى مغربه، و على أنها تغيرات و تطورات تصب في مصلحة الأمم دون تمييز، حسب زعمه فإننا مكلفون و بحسب تكليف شريعتنا العالمية العادلة المتميزة أن نطرح أفكارنا و مبادئنا.
و قبل ذلك معتقداتنا و شرعنا للناس بكل ثقة و اطمئنان إلى تقبل الأمم لها و احترامهم لمبادئها و سيادتها، كفكر يصب حقاً في مصلحة البشرية.
و لكي نخرج الإسلام من إشكالية الفرق بين العولمة كحركة ملموسة مؤثرة سلباً و ايجاباً و بين العالمية كفكر و أيديولوجيا، يطرح عبر نظريات و خطابات بليغة، و نظريات مثالية غاية في الجمال و الروعة و حب الخير للناس جميعاً دون تمييز.
أقول : إن هذه الصورة الجميلة يجب أن تدب فيها الحياة، و أن تخرج من إطار التنظير إلى بحر الإبداع و الحركة و التطبيق و العمل الفاعل، لصالح البشرية، و أن تتفاعل مع حضارة الآخر، وفق شروطها هي لا شروطه هو، و أن تثبت قدرتها و صلاحيتها هذه، لكل أولئك الذين يراهنون على نجاحها، في تغيير وجه العالم البائس المثقل بآلام الحضارات المادية التي تتجاهل الروح الانسانية، و الأثر الإيجابي الدافع للدين في حياة الشعوب.
و إذا كانت الديانات الأخرى قد فقدت فاعليتها و تأثيرها في حياة معتنقيها لأسباب يطول شرحها، فإن ديننا ما زال هو القوة المحركة الدافعة للرقي في حياتنا، و لكننا قصرنا كثيراً في جلاء و إيضاح هذه الحقيقة عملياً بل و انساقت الأمة في كثير من مناحي حياتها سياسياً و اجتماعياً و اقتصادياً و ثقافياً في ركاب ما يسمى بالعولمة.
و لو أن هذه العولمة كانت انسانية النزعة رحيمة النظام عادلة القوانين، لكنا التمسنا عذراً لأولئك المتحمسين لها ، و لو أنها أخذت بعين الإعتبار على الأقل مصلحة الإنسان كإنسان، و ليس كآلة صماء عجماء كباقي الآلات التي صممت لخدمة رؤوس الأموال، و إنتاج السلع دون مراعاة لاضمحلال القيم و اندحار الاخلاق، و تلاشي تأثير الدين كتعاليم رحيمة، أنزلت لمصلحة البشرية لغضضنا الطرف عن نقائصها، و لكنها تسعى لإثبات جدارتها بالسيطرة العالمية على مقدرات الكون و أساسيات بقاء البشر.
مما أسفر عن ما نراه من مآسي و كوارث أخلاقية و اقتصادية و اجتماعية و كونية تهدد بانهيارات أكبر و أعظم في حياة الإنسان و أجيالها المتعاقبة في منهجية نفعية منظمة تكرس الباطل و الظلم و النفعية البشعة.
أيتها البشرية المعذبة المهزوزة التائهة، المادة خلق من خلق الله، و الانتفاع بها هبة و منحة لك من الله، فاحتكمي في انطلاقتك الإنسانية الإنتاجية، [العالمية أو العولمية ] من شرعه وحده و إلا بقيتي في دائرة الضنك و العمى و الضلالة، و التخبط العشوائي.
و إن ما نراه اليوم من مأساة التضاؤل القيمي و إندحار المشاعر الإنسانية و تحكيم الشرائع الغابية التي عادت أكثر ما تكون جلاء، و أشد ماتكون شراسة و استعداء من الإنسان على أخيه الإنسان، و غير ذلك مما يضيق المجال عن الاستفاضة في بيانه، لهو اكبر دليل على وصول الحضارات المفلسة إلى غاية الإعراض عن الله و شرعه و منهجه العادل الحكيم، فاستحقت بذلك إقامة سنة الله في الظالمين عليها (( و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً و نحشره يوم القيامة أعمى )).
الرابط : http://www.denana.com/main/articles.aspx?article_no=15459&pgtyp=66