(إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَى وَ أَحْسَنَ )، (مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ).
تلك كانت أوامر النبيّ صلى الله عليه و سلّم، و قد تذكّر حصار قريش له في شعب بني هاشم في الخيف من منى، ثلاث سنين من الحصار و المقاطعة ظلما و عدوانا أن يقول ربي الله.
و يعزم على المسير إلى هوازن، في خطوة متمّمة لفتح مكة، و قد كسرت شوكة الشرك فيها، و آن الأوان لتطهير جزيرة العرب من دنس الأوثان، و وباء الجاهلية فكان يوم حنين و يوم حنين تجلّى الصبر في أروع صوره و العدل في أسمى مواضعه، و البطولة في أبهج حالاتها، فرسول الله يطلب من صفوان بن أمية أن يعيره سلاحا، و هو حديث عهد بالإسلام فيقول: صفوان: يا رسول الله أعارية مؤدّاة؟ فيقول صلى الله عليه و سلم: (عاريَّةُ مؤدَّاة).
لم يغصبه ماله و قد احتاجته الأمة بل لقد أراد أن يعوّضه ما فقد من أسلحته بعد المعركة، فأبى -رضي الله عنه- و يوم حنين ينظر المسلمون بفرح و عجب إلى كثرتهم بعد قلّة، و قوّتهم بعد ضعف، و يكاد العجب يتحول إلى هزيمة نكراء لولا رحمة الله بهم: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}، فالنّصر هبة الله للمخبتين، و منّة الله على المجاهدين و وعد الله للصّابرين، و لقد كان أصحاب رسول الله كذلك، و لكنّه الإعجاب الفرح بالكثرة، فرح بها أصحابها ظنّا منهم أنّها إحدى عوامل النّصر، و لم تكن يوما مقياس نصر، فكان الدّرس الرّباني الحكيم و يوم حنين يعلوا هتاف النبي بأصحابه و قد ولّو مدبرين: (يا للمهاجرين، يا للمهاجرين، يا للأنصار، يا للأنصار، و يجيب الصحابة و قد ثابوا إلى أنفسهم: لبيك يا رسول الله).
و يرتجز النبيّ المقبل في معركته غير مدبر (أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، اللهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ).
و يلتفّ المسلمون حول نبيّهم -صلى الله عليه و سلم-، و يثبتون حتى يفتح الله عليهم، فيقتلون يأسرون و يغنمون، و يسبون و يوم حنين انكشف رجال كثر من المعركة، و ثبتت امرأة هي أم سليم بنت ملحان، معها خنجر، فيقول زوجها: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر، فيقول صلى الله عليه و سلم: ما هذا الخنجر؟
فتقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّخَذْتُهُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ، فجعل يضحك -صلى الله عليه و سلم-، فتقول: يا رسول الله أقتل من بعدنا من الطلقاء انهزموا بك، فيقول: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَى وَ أَحْسَنَ).
و يوم حنين و قد عاد النبيّ منصورا مأجورا غانما، يحدق به القوم ليعطيهم مما أفاء الله عليه، و ما غنمه من هوازن، و تحلقوا حوله حتى خطفت رداؤه، فوقف -صلى الله عليه و سلم- قائلاً: (أعْطُونِي رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا وَ لَا كَذَّابًا وَ لَا جَبَانًا)، بلى و الله حاشاك أن تكون يا رسول الله و يوم حنين، يقسم رسول الله -صلى الله عليه و سلّم- ما غنمه بين أولئك المؤلفة قلوبهم، تحبيبًا لهم في الدين و تألفا لقلوبهم و لم يقسم للأنصار شيئًا، و يحزن الأنصار و تجد قلوبهم من ذلك، و يحس بهم نبيهم المحبّ، و يبلغه وجدهم و حزنهم فيجمعهم، و يخطب فيهم قائلا: (يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَ كُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟) و هم يجيبون: اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمَنُّ.
قال: (أما إنّكم لو شئتم أن تقولوا : جئتنا طريدا فآويناك، و شريدا فنصرناك و كذا و كذا، ألا ترضون أن يذهب النّاس بالشاة و البعير، و تذهبون بالنبي إلى رحالكم؟
لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، و لو سلك النّاس واديًا و شعبًا، لسلكت وادي الأنصار و شعبها، الأنصار شعار، و النّاس دثار، إنّكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).
و يوم حنين تنجلي المعركة عن نصر الحقّ و هزيمة الباطل، و يقدم أعداء الأمس مسلمين لله اليوم، و قد أسر المسلمون أهلهم و أموالهم فيقول رسول الله -صلى الله عليه و سلم- لأصحابه: ( إن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين، و إنّي قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أراد أن يطيّب فليفعل، فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول الله، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَ لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}.