القلوب التي فارقت مكة مرغمة يملؤها الحنين إليها، و البشرى تملأ بيوت المدينة المنوّرة، إنّ الرسول - صلى الله عليه و سلم- أمر بالتجهّز للعمرة، و البدن تنساب في طريقها آملة أن تبلغ محلّها، و قد ساقها المصطفى و صحبه متوجهين إلى بيت الله الحرام، و لا يملأ القلوب إلّا حنينها، و لا يتقد في الصدور إلا الاشتياق للبيت المحرّم و لا قصد في النفوس إلا أداء العبادة الحبيبة المرتقبة.
و هناك في مكة المكرمة عيون تترقب الطريق و آذان تتسمع أخبار محمد و حقد تتلظى به الصدور، و زعماء قريش يمكرون ألّا يدخلنّها محمد عليهم أبداً، و يهرع منهم نفر يفاوضون رسول الله - صلى الله عليه و سلم-، على عبادته، و على زيارة بيت الله، و فيهم بديل بن ورقاء من بني خزاعة، يسأل النبي عن مقصده فيجيب أنه لا ينوي حرباً بل عبادةً و طوافاً، و تظل الرسل تباعاً تحاول ثني المسلمين عن عمرتهم، و ينتدب الرسول -صلى الله عليه و سلم- عثمان بن عفان في سفارة لأولئك الذين يصدون عن المسجد الحرام؛ ليبلغهم ما يريده رسول الله -صلى الله عليه و سلم-، و يصل عثمان مكة بعد طول نأي، و تلوح له الكعبة المشرّفة، فيجتاحه الحنين الجارف إليها، و تعرض عليه قريش الطواف بها فيقول: " ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله، و تحبسه قريش عندها، و تصل الأخبار للنبي و صحابته بأن عثمان قد قتل، فيبايع المسلمون رسولهم على الموت في سبيل الله، و يضرب الرسول - صلى الله عليه و سلم- بكفه بيعة عن عثمان، فتظلّ بيعة الرّضوان آية تتلى (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) و تظل بركات الرضى تظللهم و تتنسمها الأمة حتى آخر الزمان و يتبين المسلمون أنّ عثمان مازال حيّا في مكة، و يقدم رسل قريش مرّةً أخرى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، و على رأسهم سهيل بن عمرو، يصدونه عن البيت الحرام، و يضربون له موعداً في العام القادم، على أن يدخل مكة بالسيوف في أغمادها، و يشترطون عليه أن يرجع عنهم عامه هذا، و لم تدر قريش و يا ويح قريش، لم تدر أن الحبيب المصطفى قد قال يومها و قد سمع بعنادهم و رفضهم: ((و الله لا تسألني قريش اليوم خطة فيها صلة الرّحم إلّا أعطيتهم إيّاها))، فأي أمة سنكون لو أننا اتبعناك حق الاتباع يا رسول الله؟
و تكون المفاوضة، ثم صلح الحديبية بما فيه من مظاهر الإجحاف بحق النبي و صحبه، و يشتط الغضب لله بعمر في ذلك اليوم، فيركض إلى الصدّيق سائلاً، يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين قال: بلى، قال عمر: فعلام نعطي الدنية بديننا؟ فقال الصدّيق: يا عمر الزم غرزة، فإنّي أشهد أنّه رسول الله، فقال عمر: و أنا أشهد أنه رسول الله، فيأتي عمر إلى الرسول - صلى الله عليه و سلم-، فيسأله ما سأل الصدّيق، فيجيبه المصطفى الحليم الرحيم بأمته: (( أنا عبد الله و رسوله، لن أخالف أمره و لن يضيّعني)) و يعمد الرسول - صلى الله عليه و سلم- إلى هديه فينحر و يحلق، و ذلك حين رأى المسلمين يترددون في النحر و التحلل، و تشير عليه أم سلمة بالمبادرة فيفعل، و يتسابق المسلمون في النحر و التقصير، و قد كظموا غيظهم، و استسلموا لأمر ربهم و أطاعوا نبيهم، و أغاظوا الشيطان بطاعتهم، فأي جيل كنتم أيها الأنقياء، و تتم نعمة الله على المؤمنين و لا يترهم ربّهم أعمالهم، و يسرّهم بآياته الطيبات، إذ لا تلبث آيات البشارة بالفتح القريب أن تتنزّل على القلب الطاهر؛ لتحيا بها القلوب الطاهرات، و قد قفل النبي عائداً مع أصحابه دون أداء العمرة، و في القلوب ما فيها من الحزن و الانقياد لأمر الله، فينزل قول الله -سبحانه و تعالى-: ( إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً)، فيقول -صلى الله عليه و سلم-: ((لقد أنزلت علي آية هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً))، و لقد كان صلح الحديبية المجحف في ظاهره تمكيناً و عزاً و نصراً في حقيقته، و فتحاً قريباً.
اللهمّ آتنا فتحا من عندك، و أعزنا بدينك، و ردنا إليك رداً جميلاً.
المصدر:
http://islamselect.net/mat/100782