((وَ تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ]صدق الله العظيم((
هي الحياة التي اختص بها ربّ الحياة، و الرّوح التي هي من أمره سبحانه و تعالى وحده، يتعاقب الليل و النهار بعلمه، و يتعاقب الغيث و الثمر بعلمه، و تتحرك الريح فتسوق الغيوم بحكمته، فتسقي ما يشاء المغيث من مساحات البسيطة، فتخرج الارض خبأها و رزقها، و تقف النفس البشرية حائرة صغيرة، كسيرة ضعيفة أمام القوي الجبّار، {الذي أحسن كلّ شيءخلقه و بدأخلق الإنسان من طين}الطين الذي صار بقدرة الخالق خلقا آخر،{ فتبارك الله أحسن الخالقين}خلق اراده الله خليفة له في ارضه لعبادته الخالصة، و وهب له العقل المفكّر و سخر له الكون ليتفكر في أسراره و يستخرج خيراته و يستعملها في طاعة الربّ العظيم.
و تقف النفس الكسيرة حائرة أمام روعةالغيث المنصبّ على الأرض الجرز، رحمة و حياة، فتجري المياه في يبس العود، فإذا هو مخضرّا ألقا بالزهر المعلق كالقناديل الملوّنة بالوان الربيع و الحياة الصاخبة نفلا تتمالك عن التسبيح و التحميد، ممتلئةالجوانح بالتوحيد لذي الجلال و الإكرام، فتسري فيها روح اليقين انطلاقا ايجابيا، خلف كنوز الكون المبثوثة في زوايا الأرض، في رحلةعبادة فاعلة و تتنفس الأرض و تنشق عن تقاسيم الحياة و أنفاس الاخضرار الممدود على وجه البسيطة، و قد كساها الغيث المنهل حللا سندسية مزهوّة بأقمار الياسمين و خمائل الورد، فهنا الرّيحان و هناك الاقحوان، و أمامك سنابل القمح بحارا، و خلفك غابات الصنوبر و السرو و السنديان، متاهات مخضرّة تشق الشمس غياهبها، و تلفت روحك حين تطوف بين الحقول عطور لها لمسة الحزن و الذكريات، و تعرف انك قرب غصينات البنفسج النديّة النابضة بالأريج الخجول الدافيء الحزين، يتقاطر الندى من أوراقه و أزهاره في الصباح، فتحس به فراتا يسقي الحشائش النامية على سيقانه الرهيفة، فتنعشها و تححييها و اشجار اللوز المتفتحة في حدائقها بألف نور و نور مؤتلق كبحر من الضياء الابيض الممتد عبر مساحات تشرق فيها البهجة فتجعلك تدقق النظر و ترجعه مرات و مرات و يرتد اليك النظر كسيرا أمام هذا الجمال الرباني الدال على الخالق المبدع القدير و تغمرك الرهبة و أنت تتذكر الشتاء بوابله المنصب الصيب المتواصل و قد جرى فوق الأرض انهارا و انساب في طبقاتها آبارا و بحارا و تلك الغصون التي جفت أوراقها و استحالت عصيا جرداء تبسق من أرض تحسبها هامدة، تراها تهتز و تربوا و تأتلق بمباهج لا تحصى من الألوان و تكتسي تلك الغصون بسندس الثياب و لا تلبث أن ترتسم بين غصونها الخضراء نقوش الزهر ألوانا تنبيء عن قرب انعقاد الثمر و أوان القطاف فتعرف أنّ عطر اللوز هو أوان الربيع المملوء بالتوقع و الانتظار لما تنعقد عليه زهور الربيع.
و تقف النفس حائرةامام لغزالحياةالمعجز، الذي لايلبث أن يعود كما كان، أرضا هامدة تنتظر الماء المنهل من السماء، و غصونا يبسة تنتظر اخضرار الحياة، و غبارا متطايرا يتحيّن أو أن الرذاذ ليسكن و يتراكم على الأرض طينا تنبثق من طيّاته زنابق الحياة، و تلهج القلوب التي سكنتها طمأنينة اليقين، و استوطنتها نسائم الرضا و الاعتراف بالضعف، و ألحّت في طلب العفو و الغفران، و ملؤها الرجاء ان لا تكتب من الجاحدين و ألّا تحشر مع المكذّبين، و أن تثاب على تفكّرها و تصديقها و ذلّها بين يدي خالقها، فتساق إلى الجنة التي وعد المتقون، حيث الأنهار لبنا و عسلا و سلسبيلا، و حيث الكؤوس التي يطوف بها الولدان ممزوجة كافورا، و حيث الجنّات المدهامّة الممدودةالوارفة الظل و الأنهار و الرضى، حيث دار الخلود.